![]() |
شعر مترجم |
قراءة في مجموعة "أرض معزولة بالنوم" لناظم السيد يسمي البحر بالبحر ويعطيه زمانه الأزرق سامح كعوش - فلسطين
أرض معزولة بعزلتها شهية بالنوم، هي عالم غرائبي مخيف لكنه حميم، يبنيه ناظم السيد شاعراً مرغماً على الحياة، يعيش بالأغنية وتكرار الفصول ليصير لاسمه فمٌ وأسنان وقلب يلمع كالضرس، ويختتم الحياة نفسها متقناً الموت متنكراً لعادةِ أبيه وأجداده قبلاً في الخوف من الموت والتشبث بالحياة. أرض معزولة بالنوم يحشرها ناظم السيد في زاوية بيته الصغير إلى جانب أشياء أخرى يتقن ترتيبها كحكيم عجوز لم يبلغ الخامسة والثلاثين بعد، لكنه اختزل مشهدية التفاصيل الصغيرة في بنية نص سردي بامتياز، لكن السرد فيه يتخذ شكل الذاكرة الجماعية لا الفردية كون الشاعر ابن مدينة لا تريد له أن يبني في أرضها أرضه ولا تسمح له بالاحتفاظ بأكثر من فرشاة أسنان ومنفضة لبقايا رماد روحه المحترقة بزخم هذا الوجود الثقيل للأسماء التي ليس لها أصحاب، يقول:" منفضة مثلاً، قميص في الخزانة، صابونة في البانيو، ملقط غسيل، أسماء ليس لها أصحاب". يسمي ناظم السيد البحر بالبحر ويعطيه زمانه الأزرق، يرسمه بريشة شاعرٍ ترقص المفردات بين شدقيه فيضحك ناثراً معانيها على أرض الكلام، يتحدث باسم الصامت، ويعلن الصاخب ضد الليل والمدينة العماء. ثم هو اللاعب بالحالات النفسية الحادة حين تصيب مريضها بالسكتة الدماغية أو الذهول يليه الهذيان متخيلاً البحر كائناً ذا شعر أبيض متمسكاً بالهواء ليحلق، مخترقاً عتمة الليل تلمع نظراته في السماء، يسمي النجوم أدعيته الصامتة، ويحكي على مسمع الشاعر وحده قصة ضجره، يقول:" منذ زمن قديمٍ كنت ضجراً فاخترعت الشمس، كنت ضجراً فصنعت ألعاباً سميتها السمك"، كأن ناظم السيد في عزلته الفلسفية شبيه الفلاسفة اليونان في علاقتهم بالنهر والبحر والصخر، يقرأون فيها ما خفي على العقل البشري العادي من هيروغليفية الكتابة عن الخلق والكون والإنسان. هي أرض معزولة بالنوم تشبه الأرض نفسها مختزلة بمساحة قدميّ شاعر لا يتسع لهما الكورنيش حين يضيق بذكرياته عن الحرب والحب وأمور أخرى، أقلها كرتا حديد ربطتا بساقي رجل رمي في البحر، أو رصاصة اخترقت رأس امرأة من الوراء، يدها ما زالت تقبض على كمشة تراب، أو قذيفة أصابت الحائط المقابل، أو رجلٌ ذبح ورمي في بستان المدينة الوحيد، وكلها تداعيات ذاكرة شاعر أو شارع ، وبينهما الصبية يطردون الكرة بالأرجل، كما يتمنى الشاعر أن يفعل. ذاكرة أرض معزولة بالنوم لأنها تشتهيه هرباً من ضجر الوقت والصخب في البنايات الصفراء التي تساقطت أسنانها، في المدينة التي ترسم ابتسامة الشاعر وهلعه معاً، فهو حيناً ربان سفينةٍ في البحر، يؤاخي الموجة والرملة والأزرق وهو أحياناً شكلٌ مستعار لإنسانٍ سقط في الفراغ، مستعاراً وبلا وجه، يقول:" إذا كنتم تريدون الحقيقة، كل ما أملكه استعرته من قبل، المشية من الرجلين، اللمس من الهواء، والنكتة من الموج". ناظم السيد لا يفاخر بذاتية متعجرفة، ولا يدعي امتلاك القدرة على رسم حدود العالم المستقل لتلك الذاتية الشاعرية فهو يتسرب كالماء إلى وجع المكان، يحضنه ويحنُّ عليه كأم، ويربت على ظهره كصديق يشاركه ما يعانيه من قلق، مصوباً رصاصة رحمته على رأس هذا المكان الجماعة، ليفجر دماغه أو يوقظه من وهم ألاّ يتكرر ثانية، فالمكان سجن للروح، والشاعر شاهد الجدار، السجين الذي يحفر في الإسمنت العاري أيامه، منتصراً على رتابة الموجودات وبلاهتها، فالشباك الرمادي ليس رمادياً وإن كان كذلك والستارة سؤال الجسم البحري الرخو، والشجرة استقامة الأبله، والنافذة لا تفتح يديها وتقفز إلى الشارع، إلاّ بمشيئة الشاعر الذي يمثل الأنا الكلية، متحدثاً بلسان بشر المدن المرمية على شاطىء المتوسط صدفة، المدن القرى التي لا تشبه مدناً ولا قرىً بل تقع فيما بين بين، وتسقط في التكرار منتظرة هذا الصبي الذي كان عليه أن يقنع الآخرين بما حصل له، ككائن شعري لا بشري، يطرح الأفكار نكاياتِ الوقت ويحفظ عن الجدات الأمثال، ويقفز من المدرسة إلى الحقل، راكضاً حتى يبتلع الليل قدميه، فيرى جسمه أليفاً كالعشب. الشاعر ابن المكان، يروي السيرة الذاتية لشعب لا لفرد، ويحكي عن البحر الممتد ما بين بيروت والصرفند، برمله وملحه، ومائه وفضائه، وموجه وهديره في أذن الشاطئ بالضحك الفارغ كالقهقهةِ. وهو في ذلك يتسلح بالكم الهائل من الأساطير التي تحيل المكان كائناً يتنفس ويحس، وتشع بالدلالات الرمزية لمكان أسطوري تدل عليه تلك الطريق الوعرة التي كانت العصافير فيها تأكل آثار قدمي الشاعر حتى ضاع. والشعر شراع يغادر بحر الشاعر إلى مجهوله، ويشير إليه بأصابع العزلة كاشفاً ومتآمراً، يحيله أحدب نوتردام حامل عقدة الظهر في ظهره حد البلاء الأزلي، يقول ناظم السيد في مجموعته:" الطريق مغمضة العينين تقود كل ما يمشي عليها، الظهر يدفعك، الظهر يصم أذنيه عن أنفاسك المتكررة كاليورانيوم". ناظم السيد يقسم مساحة القول الشعري في مجموعته ارض معزولة بالنوم على آخر لا يشبهه، يتمظهر حيناً كمكان ثابت، في البحر، الكورنيش، البنايات الصفراء، الطريق الوعرة، البيت والشرفة ليصغر حتى يسكن علاقة المفاتيح في الإصبع، المفردة النقيض للدواليب على الزفت، دلالة المكان المتحرك يرتسم في النص على شكل قطار بنوافذ مكررة ومحكمة الإغلاق، أو مطارات حارة تنادي للرحيل. وهذا الآخر هو الأنا الجمعية التي يستسلم ناظم السيد لسطوتها في المجموعة، فيقع في خوفه منها وشعوره بالهامشية المتصعلكة في مدن العزلة، يقول:" عندما تمدد على ظهره ونظر إلى السماء شعر بوجهه فارغاً، وتذكر كائنات الأم التي لاحقته حتى باب البيت، وأحس بعينيه عميقتين كالإهانة". فكأن هذا الآخر يلاحقه بالاتهام، محاولاً محو ذاكرة الولد الذي نسي رجليه في الغابة، فمضى في المدينة مردداً أغنيات النهر وأمنيات البحارة، مستعيداً أشكال الزواريب والرسم بالطبشور على جدران القرى:" الكلسات رأس حصان، الشجرة صرخة، البيت جندياً، الكلمات ماءً في مزراب". يكتب ناظم السيد ذاكرة المكان لينتمي إلى فئة الشعراء الفلاسفة، الناظرين في الليل بعين الليل، وفي البحر بالأزرق، معلناً براءته من ذاته الطفلة، وانتماءه إلى الفعل الشعري المحرض على الكشف الصوفي لما في ذاكرة إنسان المدن من ارتباك وجودي لا يتيح له إلاّ الدهشة المريضة بالقدرة الفائقة على استحضار الذكريات، وتصوير حيثيات الحركة المكانية والزمانية لأسماء ووجوه تحت سماء تهدر لونها. وكما كل شاعر كاتب بالشفافية ألوان وجود الآخر، جماعة كان أم أنثى، يعطي ناظم السيد مساحة الأداء الشعري الممسرح لأنثاه في النص، تاركاً لها حرية الحضور والغياب، بدلالة وقوفها في الوقت كله بارزة دمعها وعظامها، تكتب الشتائم والذنب الذي ينتظرها خلف الباب، كأن القصيدة لا تبدأ إلاّ بها، وهي القصيدة والقول الشعري الذي يستفزه شكل امرأة تحمل كتاباً لتقرأ فيه، والعبارة الشعرية "الجمال بلا إرادة" قول الشاعر في التداعي، كأن عنوان مجموعته" أرض معزولة بالنوم" منكتبٌ بترتيب لا واعٍ يشبهه في العبارة "حياة كاملة تعيش معزولة تحت المبالغة". ناظم السيد يكتب بحدة الشفافية، رائياً في الموت كأنه الميت بالأمس، كاتباً لحظة الاحتضار وسرعة السقوط في الموت كالنوم، مبشراً الأشياء بقيامتها الآخروية، في ما يشبه الموت الاستعراضي للحيتان كأنها غيلان المدينة أو بشرها متمثلين بالشاعر وحده، ساقطاً من الشرفة إلى القبر المجاور، يقول:" هذه المرة أيضاً لم يمت بكابوس يستيقظ حاراً كالمطارات". والشاعر بعد هذا الموت ينصع بالفرح لأنه يرتاح به من الحياة نفسها، يسقط في العزلة كأنها الملاذ الأخير لجثته التي تريد أن تستريح في الحلم، لصوته الذي كان يدندن أغاني الحقول والزقزقات صانعاً منها أغنية واحدة كأنها الحكاية من أولها، يقول:" يحلم بحياة عادية: زوجة وأولاد وكلب يمد رأسه من السيارة في النزهات الطويلة ... ينظر إلى الطرقات التي تطول خلفه، وبشيء من الارتباك يهتف: المستقبل وراء ظهري".
|
|
|
![]() |
![]() |
|