قصائد
الشاعر محمد عبدالسلام منصور وثقافة الحب
د. وجدان الصائغ
- العراق
يؤثث الشاعر محمد عبد السلام
منصور ميثاقاً شعرياً لتجربة ابداعية مكتملة امدها
يزيد على ثلاثة عقود ودونتها طباعياً اربع مجاميع شعرية
(الهزيم الاخير من الوقت ) الصادر عن الهيئة العامة للكتاب
، صنعاء 1997 و(تجليات حي بن يقظان) الصادر عن دار
الحكايات، بيروت 2001 و(تراتيل يمانية) الصادر عن اتحاد
الادباء والكتاب اليمنيين ، صنعاء 2003 فضلاً عن ترجمة
شعرية لقصيدة الارض اليباب للشاعر ت . س. اليوت
صادرة عن دار الحكايات ،بيروت 2001 .وهو في
ديوانه الاخير (ايقاعات على خطى النفري) - الصادر عن دار
جامعة عدن 2005 - يبلور ميثاقاً حداثوياً يعيد صياغة
القصيدة الصوفية لتكون بين ايقاعين ؛ ايقاع محمد عبد
السلام منصور المغلف بندى المجاز والمدثر بشذا المكان
الرامز للهوية والانتماء (اليمن) وبين ايقاعات الوجد
الالهي المطلة من مواقف محمد عبد الجبار النفري
المغلفة بالترميز المبهم حد الغموض والتلغيز .
لتعد هذه المجموعة فتحاً شعرياً جريئاً برؤاها التي تخطف
القصيدة المتصوفة من الانغلاق على مباهج الذات الى
معايشة الراهن بكل تراجيدياته وفهم متناقضاته والسعي الى
اعادة صياغته ، لترسم صورة ناصعة للفكر الاسلامي
ولصلوات الذات المتعبدة في محراب الوجد الالهي في زمن ملبد
بعتمة العولمة وغوغائية الغزو الثقافي والفكري بل والديني
.
ولقراءة التجربة الشعرية لمحمد عبد السلام منصور ، لابد من
تلق حذر يعايش ماتحفل به هذه التجربة من طقوس حداثية
تتمظهر مثلا في مجموعته الاخيرة عبر هتك ذاكرة مواقف
النفري السبع والسبعين التي لم تبق منحبسة في مناخات
النفري وانما كانت منحازة الى فرادة التجربة الشعرية لمحمد
عبدالسلام منصور وخصوصية الصياغة الفنية لديه فتراه يمنح
تارة مواقفه العشرين ايقاعات الشعر الحميني التي تذكي جمر
المكان ليعلن انخطاف الموقف ايقاعياً وزمكانياً صوب
اليمن هذا المكان المقدس الذي سما فصار محراباً للوجد
الصوفي . وتارة اخرى يبلور من المواقف فضاء ناصعا لثقافة
الحب والمصالحة مع الآخر . لاحظ مثلا كيف جعل محمد
عبدالسلام منصور من موقف الامر صيغة جديدة تنبع من
القلب المضاء بالعشق الالهي المعادل للفضيلة لتتحرك
صوب الجسد الفاني المكتنز بالغرائز وعبر حوار درامي متنام
بينهما يتقد على مدار الموقف يبدأ من حيث انتهى النفري :
هو الحب في القلب زيتونة
اصلها ثابت العشق
في زيتها فضة الضوء
تسكنها نسمات السحاب
فلا تبرح القلب
حتى الى شفة الحرف
يتحرك االمخيال الشعري بين نسقين احدهما
منطوق به والآخر مسكوت عنه ، فاما الاول فقد اضاءته الصورة
الشعرية المرصعة بالفيض القرآني (زيتونة + اصلها ثابت +
زيتها {فضة الضوء}) لتهب افق التلقي مناخات
قدسية، واما الثاني فقد تمظهر في رؤية المضمر النصي ازاء
التصوف لابوصفه طقساً غرائبياً يبقي المرء داخل دائرة
العزلة وانمافعلاً انسانياً يمنح الانا المتعبدة في محراب
الذات الالهية هالة من الحب بالمصالحة مع الآخر ، بل ومع
الحياة والكون. لنكون وعبر هذا الموقف ازاء خطاب اجتماعي
تنويري يؤكد على ضرورة اعمار النفس وتخليصها ليس من ادران
الجسد حسب وانما من ادران الخطيئة والبغضاء ليرقى بالبشرية
صوب فراديس النور المطلق.
وفي مجموعته الشعرية الثانية (من
تجليات حي بن يقطان) التي مزجت منذ العنونة بين الفلسفي
والشعري لتخليق فراديس الدهشة البكر تجد صيرورة
القصائد مرايا تعكس هموم الانسان العربي وتراجيدياته
الممزوجة بولعه بالمكان وتحضرني في هذا المقام قصيدة
(مقامات عراقية) التي يعلن فيها الشاعر ادانته للغزو
الثقافي الذي يهمش تاريخ المكان وحضارته التي شهدت بمرارة
مرور بساطيل المارينز ومجنزراتهم التي اغتالت براءة بغداد
ورمدت فضاءاتها ليعلو صوته مدويا في وجه العتمة :
بغداد لن تموت
ياقاتل الاطفال والنخيل والبيوت
الطفل باق في خيال الام نبعا دافقا
كالرافدين ...
النخل مشتاق الى نسمات دجلة
البيت يبقى عند ذاكرة المدامع
في الجفون المستحيلة
في الحصى الظمآن في مجرى الفرات
دم الشهيدة والشهيد هو البيوت
من اللافت ان المخيال الشعري يصوغ لوحة
تعكس عمق الخراب الذي تلفعت به بغداد - هذه الفاتنة
الاسيرة – لنشهد عيانا تفاصيل الابادة الجماعية ... ليغدو
الالم ومنذ العنونة (مقامات عراقية) طقسا عراقيا واغنية
حزينة لاتبرأ لذلك يطلق الشاعر صرخته التي تشجب
العنف السياسي الذي جعل من بغداد حاضنة للموت والدمار :
بغداد ليست حائطا يهوي
ولا الاسفلت يرقص كالدخان
بل انها يا ايها الغازي هوانا
انها احلامنا جاءت مع القرآن
نورا في صهيل الخيل يبقى خالدا
ان احرقت يوما اضاءت
انها روح من التاريخ تجري في شراييني دماء
فيضا من الاشواق يتلوها كتاب الله
سيفا لايموت
وفي مجموعته الشعرية الثالثة (تراتيل
يمانية ) تجد ان القصائد تمفصلت بين محورين الاول
يوظف فيه ثقافته الموسوعية متمظهرا في (بكائية جديدة
لجلجامش / تراتيل يمانية على ذاكرة الحلاج / من يوميات
عروة بن الورد / سلو عين ذي قار حنظلة ) والاخر يمتزج فيه
الشعري باليومي المعاش وابعاده التراجيدية
التي يتداخل فيها الواقعي بالسوريالي وعبر قصائد (فلسطين /
الوطن العربي الكسير / الغريب / الكروان الحزين) .. تأمل
على سبيل المثال قصيدته (اخي ص137) ولاحظ كيف طوع محمد
عبدالسلام منصور الصور الشعرية لتغدو لافتات سياسية تدين
الارهاب بكل مسمياته التي تسوغ قتل الذات الانسانية
العزلاء وتخترم حرمتها :
إن بسطت الي يدا من رصاص
بسطت اليك ضميرا من الود
انت اخي
لاتسول لك النفس
فتش اذا شئت بين ضلوعي
تجد شجرا يتلألأ بالحب
او قمرا مورقا بالضياء
انظر الى الله ملء دمي
لاتطوع لك النفس
إن دمي بيننا الجسر فاعبر اليّ
انا الآن اعبره
فاقترب
انني انت
اقسم بالله انت
فلاتغترب
وتمد اليّ يدا من رصاص
لتقتلني ؟!
يستلهم المتن نورانية النص القرآني (لئن
بسطت الي يديك لتقتلني ما انا بباسط اليك يدي لاقتلك لاني
اخاف الله رب العالمين / سورة المائدة 29) ليجعلك ازاء
قابيل وهابيل معاصرين يتحركان على مساحة النص ويتسربان
اليه من واقعنا المعاش المغلف بجريرة الارهاب... الشاعر
ينجح وعبر الدايولوج الراعف ان يعكس رؤاه ازاء مايحصل على
الارض من تراجيكوميديا تسوغ قتل الانسان الاعزل
فتغتال احلامه ليترمد الاني والاتي معا ...
وانت تجد هذا النزوع الى مصالحة الاخر وفتح
حوار معه منذ مجموعته الاولى (الهزيم الاخير من الوقت) .
تأمل مثلا قصيدة رأفة :
هو الحب يخفى
في الحديث : لتلقه
وراء ابتسام المقلتين
مقيما
اذا المرء لايمحو
عن النفس غيظها
ويعفو عن الاعداء ليس عظيما
وان كنت تدري مالصداقة والوفا
ستحيا رؤوفا
بالعدو رحيما
وخلاصة القول : فان الشاعر محمد عبدالسلام
منصور الذي منح القصيدة خبرته وعصارة تجربته قد منحته
القها الخالد فاضاءت حركة انامله وهو ينسج من المتون
الشعرية لافتات تدين ارهاب الآخر والغائه ليصوغ
فراديس مدثرة بالسلام والامان في زمن احوج مانكون فيه الى
االطمأنينة والسكينة .