ف |
شعر مترجم |
طقس العبور .. قراءة في نزيف الحجر لإبراهيم الكوني كوثر خليل - تونس
"وإذا جاء ذكر الودّان تغيرت ملامحه وقال بلهجة خفية : "الودّان شيء آخر .. أنا أخاف الودّان.." ص 61 "ما أقسى أن تجهل لغة الأنعام" ص 134
تتلاشى صورة الإله تماما لتظهر صارخة، مالئة لكل فجوات الأسئلة الخلق والفحولة صورة الودّان. أسوف هو الشخصية الرئيسية للحكاية، اشتق اسمه من الأسف يعاني من طفولة متزمنة، هو صورة المثقف وهو صورة الإنسان العربي في صحراء من الاحتمالات والعجز تقابله المدنية الغربية والأمريكية بكل ألقها وصلفها يتواصل في صراع مرير على مدى الرواية صراع لتجاوز الطفولة للفحولة وتجاوز صورة الأب فصورة الحاكم فتتعدد مسميات الودّان ويصير مجالا لغويا ونفسيا صعب الاختراق فهو الأب وهو الحاكم وهو المراد بالقتل وهو المنقذ وإذا تحقق العبور من خلال الكتابة فإن التجاوز لم يكن كاملا فقتل الودّان في داخل أسوف قد تمّ فعلا ولكن لم يحققه أسوف بل حققه آخر. تقوم الرواية على جملة من التقلبات تفضي تدريجيا إلى بعضها البعض يجمعها إطار مكاني واحد ومتعدد هو الصحراء فترى الكاتب يتجول بمنظاره ليركز في كل مرّة على زاوية دون أخرى من صحراء هذا الواقع العربي ومن صحراء ذاته التي لم يتعرّف مجالها كلّها ويبدو الوعي لدى أسوف مثبتا (la fixation) في مرحلة بعينها وهي الطفولة فالكاتب يتحدث عن فتى يعاشر الأغنام ولا يأكل اللحم ويعيش في ظل عقدة الأب وما تدلّ عليه من علاقة مع الأنا الأعلى من جهة والحاكم من جهة أخرى في حين أن الإشارات المتناثرة عبر النص تدّل على أنه عجز "تذكّر كيف استقبله جنود الكابتن لورد يللو في غات منذ ثلاثين عاما" ص 92 أو "ظهرت لحيته المكسوة بالبياض ورأسه المهدّد بالصلع " ص 114 وهذا لا يتطابق مع ردود أفعاله تجاه أبيه أو تجاه الأغراب من القبائل المجاورة أو من النصارى أو من مسؤولي الآثار. - يا حفيظ إلى هذا الحدّ تحبّ اللحم؟ - وهل في الدنيا ألذّ من اللحم هل سبق لك وذقت لحم المرأة هز أسوف رأسه بالنفي - أنت مسكين إذن لم تأكل لحم المرأة صرخ أسوف في هلع - لا، لا لم أذق اللحم. أنا لا آكل اللحم" ص 22 كما أن استعمال النعوت لبعض المسميات يدلّ على نظرة مخصوصة للأشياء (الودان العظيم، بحر الرمل العظيم، الشمس المتغطرسة، الودّان الرهيب، الودّان الأسطوري، القرنين الخرافيين، الجندب الخرافي، الجندب العظيم (الهليكوبتر)) وتصور دوني للذات. يضطلع أسوف في جانب من شخصيته بوظيفة المثقف كحافظ للتراث "أنا احرس الوادي. أنا احرس كل وديان "مساك صطفت" بدون فلوس. ماذا افعل بالفلوس في مساك؟" ضحك الرجل بعصبية .قال محاولا أن يقنعه ولكن هذا لا يجوز لا بد أن نتقاضى فلوسا إذا كنت موظفا هذا حقك هذا من الحكومة. مرتب. أنت عسّاس. أنت موظّف كيف اشرح لك هذا" ص 17 ولكن تعامله مع التراث يبقى تعاملا جامدا وفي حدّ ما مشروطا بعلاقته مع الأب والحاكم "الآثار؟ وما عسانا نفعل بالآثار ؟ ألا تعرف أننا بحد ذاتنا آثار؟ نحن مثلك آثار تزار يأتي الأوروبيون من وراء البحار لتفرجوا علينا ويشاهدوا حياتنا فهل رأيت أثرا تهمه الآثار؟ ص 21. وعلاقته بالجسد سواء كان جسده أو جسد الوجود المقابل لوجوده (جسد المرأة) فتراه يتجنب الخوض في موضوع المرأة فتغدو الصحراء المؤنث الواقع والمؤنث المثال وتبقى على مدى حياته طيلة الرواية مجرّد اسم بلا مسمّى يتجاوز طفولته عبر رمز الودّان ولكنه لا يرقى إلى التجربة الجنسية الفعلية وقد صوّر الكوني تجربة العبور التي عاشها أسوف وكأنه يعيشها وكأن كل قراءة هي إعادة تحقيق لها ولو عن بعد. الودان "روح الجبال" ليس سوى رمز طفولي يدلّ على الذكورة والفحولة "قفز الحيوان العظيم المجنون في الهواء بمجرّد أن تشكلت المشنقة في قرنيه المهيبين وانطلق نحو السفح المكسوّ بالأحجار الوحشية (...) الحيوان الهائج يشدّه وهو يتشبث بالحجر (...) لم تمض لحظة أخرى حتى انسل الحجر من الأرض (...) لم ينتبه إلى أنه يجرّ بيده اليسرى حجرا طويلا إلا بعد أن قطع به مسافة أخرى متوغلا في المملكة التي لا يعرفها أحد مثله ولا يملكها سواه، تخلى عن الحجر وأحس بالحروق لأوّل مرّة (...) سائل يغمر ركبتيه وساقيه ويديه ومرفقيه:الدم" ص63 هكذا يصاحب التحقق الجنسي تحقق في مجال الكتابة."سمع كيف ارتطمت قرون هذا الثور المتوحش بصخرة وبعدها بلحظة واحدة، قصيرة، كومضة البرق وجد نفسه معلقا في نتوء صخرة في أعلى الجبل وساقاه تتدليان في الهاوية الأبدية لا يعرف كيف ولا متى تخلّى عن الحبل المشؤوم وأي قدر ساقه إلى هذا النتوء فتشبّث به فوق فوهة الهاوية التي لا نهاية لها (...) لم يتبين شيئا في العتمة. جسم يتحرّك أمامه ويجرّه بقوّة هل هو الجنّ؟ استمر الجسم يتحرك يجرّه من فم الهاوية .لا مس صدره النتوء، فأحس أن كل الجبال التي كانت ترقد على صدره قد انزاحت مرّة واحدة. نجا. نجا. أغمض عينيه وفتحهما عدة مرّات قبل أن يركزّ في الشبح الصبور إنّه الودّان في مكانه المكسوّ بالأحجار الشرهة، صرخ بصوت مخنوق أنت أبي لقد عرفتك انتظر أريد أن أخبرك ...أغمي عليه " ص 75. تواصل هذا الاختبار القاسي طيلة 17 صفحة من الصفحة 62 إلى الصفحة 78، إنها العلاقة المرهقة بين الإبن والأب والتي يعيشها أفراد المجتمع الذكوري أقسى من غيرهم فالأب من جهة يعيق رجولة الابن فيريد هذا الأخير في سرّه قتله ليستوي ذكرا كامل الفحولة ولكن الأب بصفة "المنقذ" يقيد الابن بحبل الامتنان فيظل مشدودا إلى الوراء إلى الطفولة ويصعب عليه النضوج. وقد حدث التحوّل على مراحل أدت إلى التوحّد بكيان الأب والودّان "هو والمرحوم والودّان العظيم شيء وحد لا يفصل بينهم شيء" ص 81 ولكن التمفصل الخطير كان يحدث في كل مرّة عبر شخص آخر غير أسوف فتحقق الفتى كان مشروطا بقتل الأب الذي كلّف به الودّان وتحقق المبدع كان مشروطا بقتل الودّان الذي كان مكلّفا به قابيل ابن آدم " يا قابيل يا ابن آدم، لن تشبع من لحم ولن تروى من دم، حتى تأكل من لحم آدم، وتشرب من دم آدم" ص 98 لأن هناك حاجز أخلاقيا يجعل أسوف/ الكوني لا يقتل الودّان بنفسه وهو الحاكم-الأب ولكن هذه التجربة جعلته يقف على صراع آخر مع الحياة "لن يتألم أبدا. لا ألم هناك. الألم هنا في الصخرة، في التشبث بالنتوء، في الحياة، النتوء في الحياة، ما أقسى الحياة "ص 68 ولكن هل استطاع بعد هذه التجربة أن يخوض تجربة الحس فيتحقق كإنسان (امرأة/رجل) وهل قاده ذلك إلى خوض تجربة العدد فاختلط بالشعب وانطلق معه أو عاد إليه وهل أخذه ذلك إلى معرفة بإلاه حضارته؟ هي تجربة خالية من الثراء بمعنى الكمّ ولكنها ثرية بالمعنى الداخلي وإن كانت مبتورة هي تجربة تجعل من الفن طقسا للعبور بالمعنى النفسي- الإكلينيكي وهي تجربة تكرّس عزلة المثقف فالمرّة الوحيدة التي وجد فيها نفسه مع الآخر بشقّيه الإنساني والحضاري حدث ما يشبه المعجزة فتحول إلى ودّان "شاهد إنسانا يفلت من الأسر ويتحوّل إلى ودّان يعدو نحو الجبل يتقافز فوق الصخور في سرعة الريح غير عابئ بمطر الرصاص الذي ينهال عليه من كل جانب (...) رصاص الطليان؟" 89/90 وهذه ليس معجزة بقدر ما هي رمزية العجز عن مجابهة الأخر بوسائله والدخول معه في حوار على أساس الندّية هي قراءة مخصوصة للدين فأسوف هو مثال "الطفل المتوحش" l'enfant sauvage " الذي كتب عنه لوسيان مالسون Lucien Malson وحيّ ابن يقضان الذي كتب عن ابن طفيل قبل ذلك فهويّة أسوف الدينية غير متبلورة بحكم عدم تواجده في جماعة إنسانية ينتمي إليه ولهذا تبدأ الرواية بهذه الجملة الخطيرة التي تحمل معني الرواية بأكملها "لا يروق للتيوس أن تتناطح أمام وجهه إلا عندما يشرع في الصلاة" ص 9. وتتواصل الكوميديا الدينية على نحو من المخاتلة الإبداعية " أنهى صلاته، وألقى برأسه إلى الوراء متابعا الجدار العملاق المنتصب فوق رأسه كبير الجن يباركه نظرته الغامضة من خلال القناع تنطق بالرضى والسكينة والودّان المهيب المتوج بقرنين ملتويين أيضا يوافق إلهه ويوحي بأنه قبل الصّلاة وفاز برحمة ربّ المعبد لم يدر أسوف ابن اخطأ الإتجاه فلم يوجّه ركعاته نحو الكعبة وإنما نحو الصنم الحجري المنتصب فوق رأسه في قعر الوادي العميق "ص 15 فهذا التصوير للظاهرة الدينية يجعل الودّان-الحاكم يمتص كل القداسة حتى لحظة الصلاة ويجعل من فعل التعبد ظاهرة عشوائية وسلوكا لا شعوريا يتجه نحو الحاكم أولا وبالأساس وفي هذا النقد الساحر رغبة في التحرّر من أية سلطة دينية كانت أو سياسية أو نفسية. إذا كان المجال المكاني للرواية محدّدا بالصحراء فإن مجموعة من العلاقات المتشابكة تنسج داخل هذا المكان أو في علاقة به فالعلاقة بين عالم البشر والعالم الحيواني في الصحراء تقوم على تقابل شديد يحكم بإبادة الواحد للآخر من اجل البقاء والتضحية ويسبغ صفات على الحيوانات لا يرقى إليها البشر كالنبل و التضحية (الغزال) والروح (الودّان) ولهذا حين قتل قابيل ابن آدم تلك الغزالة التي ضحّت بنفسها من اجل عهد جديد بين الإنسان والحيوان كان فعله جريمة بعيدة الرمز "في تلك الليلة لم يقتل قابيل ابن آدم أخته فقط بل أكل لحمها أيضا" ص 138 ويظل أسوف محور المصالحة من العالمين "كيف يستطيع المخلوق أن يأكل لحم مخلوق؟ ما الفرق بين لحم الحيوان ولحم الإنسان؟" ص 81. ويمثل قابيل الصورة العكسية لأسوف فهو المهاجم آكل اللحم النيئ المستفيد من كل الأطراف يستخدم الأشخاص ويلتهم الحيوانات ويتشارك مع الأجنبي في استنزاف خيرات بلاده في حين يبدو أسوف على قدر كبير من البلاهة إضافة إلى أن إصراره على الاعتصام بالصحراء ونبذ الاجتماع يجعل البنى العقلية لديه في مرحلة تشكل لا في مرحلة تبلور وتنتهي الرواية وهو لا ينفك يعيد كلمات تعلمها عن أبيه فكأنه الطفل في جسد العجوز "لن يشبع ابن آدم إلاّ التراب. أبي قال ذلك" ص 112 ويمثل قابيل الخيط الرابط بين الصحراء والمدينة ولكن الصورة المقدمة عن المدينة هي صورة تدلّ على تشكيل بدائي للدولة فالطرائق الصوفية التي تحكم عالم البشر وطريقة تفكيرهم تقيم علاقات مع الأجنبي أساسها المصلحة وعن طريق أهل المدينة دخل الأجنبي إلى الصحراء بسياراته اللاندوفر وخراطيشه وطائراته الهليكوبتر بحثا عن النفط ولحم الغزال "فمن ذاق لحم هذا المخلوق حطّم في نفسه العجز ومزّق حجاب السوى ووقف على رؤيته في المقام" ص 124 و لحم الودّان "السرّ الإلهي في الودّان ص 127 ولهذا حين تخاصم جون باركر وقابيل قال الأخير" إذا قمت بإبادة الغزلان فبفضل مساعدتك زودتني بالسيارات وبنادق الخرطوش وأكلت من الغنائم نصيبك وأكثر من نصيبك الدودة التي تدغدغ أسنانك أشرس من الدودة في أسناني" ص 129 ولكن أين لسوف من كل هذا؟ أين المثقف وأين إنسان حضارته المتشبث بالتراث كالحمار يحمل أسفارا لا يتفاعل معه ولا يفعّله لبناء المستقبل و لا يملك من وسائل الاقتصاد ما يغلب به المستعمر الغازي ولا من وسائل نقد الذات ما يحاور به عقل الآخر "نزيف الحجر" هو صرخة المثقف الذي مازال يعاني من مخاض بلا نهاية يدفعه الأب إلى اعتزال البشر ويدفعه الودّان إلى مفترق النضج المبتور فيقتل الأب ويقتل الودّان كتابة دون أن يستطيع العبور إلى الحرية التي هي أساس كل إبداع ..
كوثر خليل 22/03/2006
|
|
|
|