ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

هوامش للكتابة - «من فرط الغرام»

جابر عصفور - مصر

 

«تغريبة المضطرين» هي الرواية العربية التي يهاجر أبطالها من عالم الفقر المدقع إلى عالم الغنى المرح، أو من أقطارهم العربية التي ينالهم فيها القمع متعدد الأنواع، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، إلى أقطار أخرى، ينأون فيها عن القمع السياسي والديني ويهربون من أشكال الفقر الوحشي اللاإنساني. وما أكثر ما نجد ذلك في روايات الهجرة إلى الخليج والجزيرة، حيث تحولت وفرة الثروة التي جلبها النفط إلى غواية تغوي المضطرين بالهجرة. وما أكثر الأدباء والأديبات الذين كتبوا هذا النوع من الروايات: عبدالرحمن منيف، حنان الشيخ، جمال الغيطاني، إبراهيم عبدالمجيد، محمد عبدالسلام العمري، طالب الرفاعي، محمد المنسي قنديل، ومحمد التونجي، وغيرهم عشرات من الأسماء التي أضيف إليها هذه المرة اسم رواية ناصر عراق «من فرط الغرام» التي صدرت ضمن سلسلة «روايات الهلال» القاهرية. وناصر الذي جذبته الرواية كان فناناً تشكيلياً في بدايته منذ أن تخرج في كلية الفنون الجميلة عام 1984، وهو الأمر الذي ترك، ولا يزال يترك، في كتابته، إحساساً عالياً بالتشكيل، ونزوعاً بصرياً في التصوير، مع حرص على واقعية المشهد بما يجسمه لعيني الخيال وقد طوحت به الحياة الثقافية ما بين إبداعات الفن التشكيلي ومعارضه، والصحافة بأنواعها، وانتقل من المسرح إلى الرواية التي وجد فيها مراحه وملاذه، وفي ذلك دليل مضاف على أننا نعيش في زمن الرواية الذي يجذب المنتمين إلى فضاءات مغايرة إلى فضائه المغوي الذي يشبه «النداهة» التي كتب عنها يوسف إدريس قصته الشهيرة وبدأ ناصر برواية «أزمنة من غبار» التي أصدرتها «روايات الهلال» منذ عامين، عام 2006، وها هو يصدر لنا روايته الثانية «من فرط الغرام» وتدور الرواية في مدينة خليجية متخيلة، تكتظ ببشر ينتسبون إلى معظم جنسيات العالم، وبخاصة شرق آسيا، هي مدينة «نورمكان» التي لن يستغرق القارئ وقتاً كبيراً في اكتشاف أنها مدينة «دبي» ولم أستغرق، شخصياً، وقتاً طويلاً لأرى فيها مشاهد دالة من حياة المؤلف المعلن، ناصر عراق، ذكرها كالقرائن البلاغية عن عمد، وربما عن غير عمد.


والبنية الأساسية للرواية تتجاذبها ثنائية ضدية، يتناقض طرفاها دائماً الوطن المهجر الأنا الآخر الماضي الحاضر مبدأ الواقع مبدأ الرغبة وهي ثنائيات تشير إلى غيرها الذي يصنع لحمة الرواية وسداها، مؤكداً أن الحركة فيها ليست صوب الإيجاب دائماً، وأن الأبطال، أو بعضهم على الأقل، يبدو كما لو كانوا يستجيرون من الرمضاء بالنار، وأن ما نسميه العروبة شعور رقيق هش، ينكسر، دائماً، نتيجة أي عاصفة تهب عليه كالتحدي أو اللعبة القدرية، وأنه بقدر ما يجتمع المقموعون جنباً إلى جنب، حماية للذات، فإن هذه الحماية قد تسرف في الذاتية، فندخل المدار المغلق للمقموعين القامعين، أو المقتولين القتلة الذين يعكسون القمع الواقع عليهم على غيرهم من ضحايا القمع نفسه، فندخل في دائرة الأخوة الأعداء التي تبدأ بجريمة قتل، وتتباعد عنها لتعود إليها لتنغلق الدائرة مؤكدة طابع العنف الذي يستجيب إلى البداية الزمنية لأحداث الرواية بأكثر من معنى أقصد إلى كارثة الحادي عشر من أيلول 2001، التي هي بداية الأحداث وعلامة المدار المغلق الذي تدور فيه الأحداث، كالهامش الذي يعيش فيه كل الأبطال الذين لا نرى علاقات إنسانية، واضحة أو دالة، بينهم من حيث هم غرباء، أجراء، مقيمون موقتون، وأبناء وبنات البلد الذين يعملون فيه، والذين جاؤوا إليه أملاً في خلاص، سرعان ما ندرك أنه وهم، وأنه لا شيء سوى الإحباط والتهميش الذي يؤدي إلى عنف مكتوم، ينطوي عليه المغترب أو المهاجر الذي يتوهم أنه يرتحل من بعض بلاده إلى بعض بلاده، بعد أن أنشد في مدارس الطفولة: «بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد». ولكنه سرعان ما يدرك أن النشيد شيء والواقع شيء آخر، وأنه لا مكان سوى هامش يرد مبدأ الرغبة على مبدأ الواقع الذي هو أقوى من كل حلم أو رغبة.


هكذا نواجه أبطال الرواية الأربعة الذين يجمعون بين صفات الخاص والعام في النموذج الروائي سامح عبدالرحمن المصري الذي بدأ ماركسي الهوى، مفتوناً بكتاب أو ثلاثية إسحق دويتشر «النبي المسلح» متطوعاً بين التنظيمات التي لم تبتعد عن الأفق الذي صاغه تروتسكي بنية المنبوذ الذي ظل ينطوي عليه في داخله، حتى في مهجره، وهو يعمل مشرفاً أدبياً في مجلة أو صحيفة جديدة بلا فارق تصدر في دبي، جاء من القاهرة محبطاً في حبه الذي سرقه منه ماركسي مثله، فأطاح بما تبقى في وعيه من مثاليات القيم الثورية التي يمتهنها أصحابها قبل غيرهم، خصوصاً في تعاملهم مع المرأة التي يحيلونها إلى طريدة لا رفيقة وتنغلق دائرة الحب الفاشل مع الأزمة الاقتصادية والقمع السياسي على سامح بما لا يبقى له سوى الفرار.


وحتى عندما يتوهم سامح أنه استعاد حبيبته القديمة في القاهرة بعد ربع قرن تنويعة مصرية على تيمة «الحب في زمن الكوليرا» فإن القارئ لن يرى في هذا الحب العائد ما يشفي العلة التي تجذرت، فيبقى الحب طائراً لا تصل إليه الأيدي، ومبدأ رغبة ينفيه عالم الواقع، ويحول بينه والتحقق الكامل أو حتى شبه الكامل ولذلك يظل حباً من زمن قديم، قد يثير الذكرى البهيجة أو الأليمة، لكنه يظل نائياً في التباسه، محاصراً بكل نقائضه أو نواقصه.


والبطل الثاني سوري، رضوان لؤلؤة، غادر مدينة حلب، بعد أن تلقى صفعة على وجهه من شرطي المرور وكان يعمل مدرساً للغة العربية في مدينته ولأنه لم يحتمل ضائقة العيش ولا قمع الدولة التسلطية ولا الصفعة التي تلقاها من شرطي يصغره بسنوات عدة، لم تحتمل روحه الحالمة البقاء في بلد يصفع فيها المواطن المقموع أصلاً على قارعة الطريق من دون سبب، فيحزم متاعه ويرحل إلى أن وصل إلى «دبي» بحثاً عن مناخ أفضل، يصون كرامة الإنسان، مضمراً في نفسه أنه لن يسمح لأحد بإهانته بعد اليوم، وأن زمن القمع الذي عاش فيه حيث كان رد الصفعة يعني الموت، أو السجن إلى الأبد قد انتهى، وأنه يستهل عهداً مبدأه الأول العنف بالعنف أو بما هو أشد وهو ما يقوم بتنفيذه فعلاً.
وثالث الشخصيات العراقي، على الموسوي، الهارب من جرائم قمع صدام حسين وزبانيته، تعاوده ذكرى المجند في الحرب مع إيران، حين قطع رجال صدام حسين أذنه لأنه استمع إلى نكتة ضد القائد الملهم، ولم يبلغ الأمن السري عن قائلها، ففر من العراق، لاعناً ما فيه، وحط به المقام في دبي نورمكان في المنفى الاختياري الذي أصبح باتساع الكرة الأرضية كلها أمام العرب المقموعين الفارين من جحيم القمع الذي لم يفارق ميسمه الشخصي عند علي موسى الذي رأى خيانة زوجته بعينيه فظل منكسراً، حتى بعد أن استبدل بها عاقراً، على سبيل التعويض والعقاب الذاتي على السواء.


ورابع الأبطال فلسطيني، مشعل خدّاش، القامع المقموع، القاتل المقتول، وقع عليه القمع اليهودي الصهيوني الذي طرده من وطنه الذي أصبح سليباً، لكن بعد أن ترك فيه بذرة التدمير لكل شيء، ورغبة النجاة وحده من دون اهتمام بالغير، فهو وحده ومن بعده الطوفان وكانت النتيجة أن أصبح كلبياً نافراً من الجميع، ومنفراً للجميع إلا أهل دبي الأصليين الذي لم يبرع في شيء سوى تملقهم والتقرب إليهم وكان من الطبيعي أن يصطدم مرات ومرات برضوان لؤلؤة السوري المقموع مثله، ويتلذذ بقمعه إلى أن يدفع بضحيته التي لا فارق جوهرياً بينها وبينه إلى نقطة الانفجار التي تتحقق على نحو مباغت، منفجرة كالبركان الذي ظلت حممه تتراكم إلى أن جاء ما يفجرها ويدفعها إلى الانفلات التدميري الذي لم يكن أحد يتوقعه.


بالطبع، هناك إلى جانب هؤلاء الأربعة ما يكمل عناصر اللوحة التشكيلية التي يصوغها ناصر عراق في نوع من الواقعية السردية التي لا تغرق في غموض الحداثة، أو تغوص في تيارات اللاشعور، فكل شيء في الرواية مطروح على مستوى الشعور الذي لا يفارقه السرد، وبسيط في ازدواجه مع مقدرة عالية على التشويق، وعلى نوع من الحرص في الإبحار بالقرب من الشواطئ الآمنة، خصوصاً في حركة السرد التي تبدأ من حيث انتهت إليه، كأنها بناء دائري في امتداده التشكيلي الذي يجعل من نقطة البداية هي نقطة النهاية، وما بينهما تنويعات سردية بسيطة سلسة، أشبه بموسيقى الغرفة، ليست بالغة التركيب مثل السيمفونيات التي تتجاوب حركاتها رأسياً وأفقياً، في تراوح إيقاعاتها البوليفينية ولذلك تغري رواية ناصر عراق بقراءتها في جلسة واحدة، تحمل قارئها إلى عالم لا يخلو من البساطة، ولا تتعدد أو تتعقد أبعاده بما يغري بثراء تولد التفاسير وفي مدى هذه البساطة تتحرك الأحداث، وتظهر الشخصيات الثانوية وتختفي بما يترك العدسة السردية مسلطة دائماً على الأبطال الأساسيين الذين نرى في كل واحد منهم ملامحه النوعية الخاصة والعامة، أي نراه في تفرده وتمثيله لغيره أما البطلة التي تبدو نوارة السرد وبؤرته الحالمة فتطل على الأحداث كلؤلؤة الانتماء المستحيلة أو عالم الأمان الذي لا يتحقق، مؤكدة نوعاً من النغم الشجي الذي يترجع ما بين تكوينات السرد الذي لا يخلو من تقرير وصفي، هو نوع من المعلومات التي تجعلنا أكثر معرفة بتاريخ المكان الذي يدور فيه فضاء الرواية وحتى العنف الذي يبدو بمثابة ضربة البداية التي هي ضربة النهاية في إيقاع الرواية النغمي لا يخلو مما سماه الناقد والفنان الإنكليزي رسكن «العدالة الشعرية» التي تقتص، في الرواية، من المقموعين في حالة قمعهم لأشباههم الذين هم إياهم بمعنى أو غيره ولذلك يظل الأبطال كالفراشات الحائمة حول النار، لكن قبيل لحظة النهاية التي هي لحظة الكشف أو الموت أو القتل أو الدمار، أو حتى الوعي بالنهاية التي بسطت جناحيها على المتطلعين إليها وكل ذلك في لغة بالغة البساطة والألفة وقدرة تشكيلية على السرد الذي يغري بالمضي في القراءة، حتى وإن خلا من العمق في بعض المناطق التي تظل دالة على ما يمكن أن تحققه روايات ناصر القادمة في مدى ما تعد به.

 

نقلاً عن الحياة     - 23/07/08

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا