لكن
الابحار مع نص "قرويات" يكشف لنا نوسطالجيا غير عادية عايشها حبيب بولس في قروياته
، مسجلاً تفاصيل بدأت تختفي من اجواء قرانا ومدننا العربية ، من علاقاتنا
وممارساتنا اليومية ، من شوارعنا وبيوتنا ، من العابنا وتسالينا ، ومن وسائل تنقلنا
، من مدارسنا ، من معلمينا، من افراحنا واتراحنا ، من مفاهيمنا السياسية ووطنيتنا ،
من مواسمنا وسهراتنا ، من أعيادنا وعقائدنا الدينية ، من ثقافتنا وفنوننا ونضالاتنا
.
التغيير الذي يرصده حبيب كان اعمق من الشكل ، لدرجة انه شكل لنا مضامين جديدة ،
افكاراً جديدة ، رؤية سياسية جديدة ، ثقافة جديدة ، اطعمة جديدة ، بل ولغة جديدة
ايضاً في مفهوم معين . كأني به يرصد التاريخ والعوامل "التاريخية" والثقافية التي
غيرت مسقط رأسة ، قريته الجليلية "كفرياسيف" بشكل خاص وغيرت واقع بلداتنا كلها بشكل
عام وغيرتنا نحن ( الناس ) في الحساب الأخير .
الى
حد ما تذكرني "قرويات " حبيب بولس بكتاب للروائي السعودي عبد الرحمن منيف عن مدينة
"عمان" .. حيث يعود بذاكرته الى عمان في سنوات العشرين من القرن الماضي ليعيد
تشكيلها . حبيب في قروياته يرسم "لوحة نثرية " ان صح هذا التعبير ، لقرية علم من
قرانا ، كانت علماً سياسياً وعلماً ثقافياً ، وهو بذلك يضيف لها بعداً جديداً ،
علماً تراثياً اصيلاً ، وربما يريد ان يقول لنا ان هذه الاصالة التي عرفتها كفر
ياسيف ، هي اصالة دائمة لا تنتهي ، انما تتحول وتنطلق نحو اصالات جديدة دوماً .
حبيب في قروياته يريد ان يقول لكل واحد منا ان في داخله اصالة حقيقية ، يجب ان
يخرجها من داخله ويورثها لأبنائه . وهذا بالضبط ما يفعله حبيب بولس ، وهو بالطبع
يختار ابنه ، ليورثه اصالة اجداده وأصالة قريته ، وأصالة شعبه .. يختار ابنه
ليورثه أهم ما يملكه الانسان في حياته ، ذاكرته الخصبة .. وليملأه بالكرامة وعزة
النفس ، مقدما نموذجاً شخصياً ،استفزازيا لكل واحد منا ، ولكنه استفزاز طيب وانساني
، يحثنا بسياقه على الكشف عن جذورنا الاصيلة ، عن نقاوتنا ، عن قيمنا المغروزة
بأعماقنا الانسانية ، عنى جوهرنا الطيب الذي كان العنصر الحاسم في صيانة شخصيتنا
الوطنية والانسانية امام ما يجري في مجتمعنا من ردة حضارية ، وتعصبات قبلية وسياسية
ودينية حمقاء ، هذه هي المفارقة الاخرى التي يصدمنا بها حبيب في كشفه عن جوهر
اللؤلؤة المكنونة كفر ياسيف ، بصفتها نموذجا وطريقا وتاريخا .
هذا
النص الادبي يتجاوز الكتابة التسجيلية التاريخية ، ويقترب من النص الثقافي الحكائي
، البطل فيه هي قرية كفر ياسيف واهلها ، والهدف حفظ الذاكرة الجماعية لكفرياسيف ،
ولعلها الخطوة الاولى لبدء حفظ ذاكرة شعبنا الجماعية في كل اماكن تواجده .
"البطل"الآخر في هذا النص هو الرواي نفسه ، وكأني به يعود الى الايام الخوالي ،
ليتقمص شخصية الراوي التي عرفتها قرانا وسهراتنا ايام زمان ، وليجعل من هذه الشخصية
ذاكرة للزمن ايضاً ، يستعين بها الراوي- الكاتب لينقل للأجيال الجديدة ، ابنه في
المفهوم الضيق ، وابناء كفر ياسيف ، وكل ابناء شعبنا من الاجيال الناشئة في المفهوم
الواسع ، اصالة الماضي واصالة الانسان ، واصالة الشعب وليس فقط الحنين الذاتي
(النوسطالجيا ) . ربما هي نوستالجيا فعلا ، ولكنها نوستالجيا لابناء جيلنا الذي حان
الوقت ليسجلوا ذاكرتهم حفظا من الضياع .
حبيب
اختار اسلوباً جيداً ليروي لنا روعة الماضي ، عبر المقارنة الدائمة مع الواقع اليوم
، وذلك ليعمق، ليس روعة الماضي فحسب ، بل روعة الانسان الذي اجتاز المأساة الوطنية
وصمد ، وواجه القمع القومي بأبشع أشكاله ، ولم يفقد بوصلته الانسانية .. وبدأ
يبني نفسه من جديد وينطلق الى آفاق رحبة من العلوم والثقافة والتطور والصمود .
في
قروياته نكتشف حبيب بولس الآخر ، حبيب الحالم ، نصاً ولغة ، فنراه يقترب من لغة
القص في سرده ، ليتغلب على السرد التوثيقي والتاريخي ، ونراه يستطرد في اعطاء
النماذج والحكايات ليجعل قروياته اكثر قرباً للرواية والدهشة الروائية وعناصر
التشويق الحكائية ، وليس مجرد تسجيلا توثيقيا للذاكرة . واقول بلا وجل : هي حقاً
رواية من نوعع جديد بطلتها قرية بناسها وأحداثها.
قد لا
يوافقني بعض الزملاء على تصنيفي لقرويات حبيب بولس ضمن النصوص الروائية ، قد يكونوا
صادقين شكليا ، وأقول شكليا ، اذا التزمنا المفاهيم المتعارف عليها في التعريفات
الأدبية . ولكن من يملك الحق في جعل التعريفات قانونا ، وهل يعترف الابداع بقوننة
جنونه ؟
والأمر الأساسي ، هل من قيمة للتصنيف الادبي ؟ وهل يضيف التصنيف لقيمة العمل ؟ الا
يكفي الكاتب ، انه اعطى للقارىء نصاً لا يفارقه بعد طي الصفحة الاخيرة ؟
حبيب
في قروياته ، اعطانا عملاً توفرت فيه العديد من المركبات الناجحة ، اللغة اولاً ،
الفكرة ثانياً ، والاسلوب . كتاب "قرويات" يسد فراغاً كبيراً بمضمونه المميز ، وهو
ليس مجرد نوسطالجيا (حنين) بل كشف عن ثراء شعبنا واصالته وعمق جذوره في هذه الارض
الطيبة . ولعل قرويات يكون فاتحة لتسجيل التاريخ الشفهي ، والتراث الشعبي المتوارث
شفهيا ، وسجل نضالنا الأسطوري الذي يملأ صفحات ، اذا ما سجلت ستشكل ثروة اجتماعية
سياسية ثقافية ، عن بقايا شعب ، لم يفقد ثقته بنفسه ، واجه المستحيل وانتصر .. واجه
الضياع وبنى ذاته من جديد ، ليقف اليوم في مرتبة متقدمة بين الشعوب ، فخورا معتزا
متفائلا ..