يقظة اللحظة الشعرية بين الأنساق
الجدلية للأنا والمتخيل والعالم
قراءة في ديوان
"اغتراب الأقاحي "للشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة
حاتم
عبدالهادى السيد - مصر
ما الذي تعنيه اللحظة الشعرية الخاصة ويقظتها لدي الشاعر؟
أهو الوعي بالعالم ؟ أم الانفصال عنه؟ أم إعادة صوغه لاكتشاف الشعرية الكامنة
فيه؟ أم هي محاكاة لأنساقه الجدلية لتأسيس مقاربات بين الأنا والمتخيل
والعالم؟!. إن اللحظة الشعرية ــ التي أعنيها ــ هل كل ذلك, وهي فوق هذا كله
تحاول استجلاء التفاصيل الحياتية الصغيرة لتكتشف إنسانيتها, وهي بهذا الفعل
تحلق في سدم ميتافيزيقية آناً, وفي آفاق كونية غير محدة أيضاً, لكنها تعود
لتخاطب النفس وتستشرف لها آفاقا جديدة.
إنها علاقة جدلية تؤسس للذاتي الخاص, و للآني العام, ولما هو كائن وسيكون, إنها
اللحظة الفارقة التي تعتمد اللغة أداة يقظتها, وتعتمد التشكيل النفسي للذات
وحالاتها لتحقق انزياحاً لتفرد الأنا وتحقق الشعرية عن طريق الاتساق مع الآخر
دون نفيه أو إزاحته وبذا تتحقق الذاتية الخاصة للكون والإنسان وذلك في محاولة
للقبض على اللحظة الشعرية الفارقة وعندئذ يبرز السؤال: كيف تتحقق للحظة الشعرية
الخاصة تفردها بعيداً عن الأنساق المتساوقة بين الأنا والمتخيل والعالم ؟!
وللإجابة عن هذا السؤال لابد أن نطرح النظريات الأدبية جابناً فلا يفيد التحليل
هنا للعلاقات اللغوية ولن يجدي تحليل النص لدراسة علاقاته الصوتية وفونيماتة
وفورمولوجيته, كذلك لن يجدي الشرح أو التفسير والوصف لأننا بصدد دراسة اللحظة
الشعرية الآنية في كينونتها وعلاقاتها الجدلية التي تمثل يقظتها لاستجلاء فضاء
النص, دون التعويل إلى دلالاته اللغوية وأبنيته البنيوية والتركيبية والتوليدية
لأننا نتتبع الشعرية في لحظتها الفارقة والتي تشكل وعيها بالكون والإنسان,
تستجلي أنماطه, وتشكل آفاقه, وتؤسس له علاقاتة الخاصة.
كذلك لن نبحث عمن سرق المشار إليه في النص مثلما فعل "رولان بارت" في حديثه عن
العلاقة بين الدال والمدلول, إنما سنجث فيما خلق الدلالات وارتباطها باللحظة
الشعرية, لنؤسس غائية جديدة لنصوص فارقة, كما أننا لا نعني بالبحث عن نص مثال,
أو أنموذج شعري, وإلا سنؤطر للشعر أيقونات ونردفه خلف الأيديولوجيا التي تقتل
الشعرية, بل أننا سننادي لا بموت اللغة فحسب, ولكن بانصهارها في اللحظة
الشاعرة, واللغة في حد ذاتها فيما أحسب ــ تشكل حالة اليقظة الدائمة لديمومة
اللاوعي والتي تتداعي منها اللحظة الشعرية لتؤسس ميلادها الآني والمتخيل معاً
لتتماس مع اللامحد الكوني دون أن تندمغ فيه لتؤسس لشعريتها ديمومة متساوقة
وجدلية تؤسس للأنا أساس وجودها وعلاقتها بالكون والعالم والحياة.
وفي ديوان "اغتراب الأقاحي" لفاطمة بوهراكة, النماذج الدالة على ذلك, وأول ما
تجابهنا اللحظة الشعرية اليقظة في قصيدتها "عبور إلى المشتهى" تقول:
" عوالم الفرح تعانقني
وقيت التمرد الطويل
المنبعث مني / منك
الساطح فيّ / فيك
أيتها السجية المضمخة
بالإخلاص
السابحة في مسافات
الزمن الغابر
القادم
الممتد مني إليك
يا أماني الشجن الساكن فينا
انتحري
اندثري
ساعة الانعتاق الحر
القاتل للعتمة
اهجري أجساد الثلج
المكبلة بقيود الزمن
التائه خلف الأنخاب "
فهي هنا تؤسس للأنا عالمها, وإن كانت الأنا متمردة ورافضة للواقع, إلا أنها
مندمغة مع المتخيل المتمثل في التمرد, أماني الشجن, الانعتاق, وهي بهذا ترسم
صورة متأرجحة للأنا, وتحاول أن تظهر الأنا بصورة مغايرة, إلا أن العالم المليء
بالشجن والقاتل للعتمة والتائة خلف الأنخاب أيضا يجعلها تحن إلى القيم الموجودة
داخلها فتعود تقول:
" لا قهر, لا ظلم , لا عناد
وحدها الحقيقة العليا
تكشف دهاليز الأقوال والأفعال
من المهد الصارخ فينا
إلى اللحد الضارب فينا "
فهل اكتفت بتأسيس علاقة بينها وبين العالم, أو المجتمع فحسب؟ أم أنها تجاوزت
ذلك إلى لا محد غير ملموس, لتقف في نقطة تفصلها بين الواقع والمتخيل, بين الرفض
والبوح, وبين الحقيقة والحلم, تقول:
" أيها المشتهى المتواري خلف الرذاذ
لي حقيقة واحدة
ولك البقية الأولى
ولي ما تبقى منك
ولك حقيقتي العليا "
إنها تخاطب المتخيل لتحقيق معادلة العبور إلى المشتهى, ولكنها تحاول أن تعبر
بالأنا المحملة بالقيم, فنراها تنشد الحقيقة, وترتضي بالبقية الباقية, إلا أنها
تسلم حقيقتها العليا للزمن لتندغم فيه لتؤسس للأنا كينونة مثالية, وإن كانت
متخلية, ومع ذلك تظل اللغة هي التي تقوم بفعل اليقظة للحظة الشعرية, ولولا
اللغة وتكثيفها هنا لانطفأت اللحظة الشعرية وتوارت خلف الأنا, دون عبور إلى
المشتهى, أو الحقيقة العليا لديها.
ولو نظرنا إلى عناوين القصائد وبدون ترتيب: "انشطار الزمن الآتي, الثامن من
مارس, متعبة, قساوة كبري, عشتار لحظة النار, حكاية نورس حزين, كلام الصمت, في
مهب الريح, رقصات الجسد العاصي, عتبات الجرح الأخير, لم السفر, الثامن من مارس,
لكل هذا الألم أرفض كينونتي, وغيرها", أقول: لو نظرنا إلى هذه العناوين منفصلة
فإننا نراها تؤسس للأنا مساحة متأرجحة بين القهر والحزن, بين الجراح والآلام,
وكأنها بذلك تحيلنا من أول وهلة إلى ذات حزينة, مقهورة ولكنها غير مستسلمة
تحاول أن تجابه الزمن دون أن تتماس معه, وتحاول أن تتخيل عالماً آخر, ولكن دون
أن تندغم في الخيال, فكأنها تقف على عتبات أولى بين الحقيقة والخيال, وبين
الحلم والواقع, وفي قصيدتها "انشطار الزمن الآتي" صورة لذلك تقول:
" زمن التيه إلى التيه يرحل بي
بخطاه / عقاربه , يلوح إعصاره نحوي / نحوك
أيها الواقف الصامت
الراكح لغير الخشوع
وجه يتيم يعوي
وحده خلف الجدار الآدمي "
فهي هنا ترسم صورة قاتمة للأنا التي ترحل من زمن التيه إلى زمن التيه الآخر
بخطواته المتواصلة, وبأعاصيره المتتابعة, ولكن ما علاقة الأنا هنا بالذات
الأخرى, الذات التي شبهتها بأنها تقف صامتة وراكعة, بل وتضيف إليها عدم الخشوع
أيضا, فهي ذات متمردة, وهنا أنا متأوهة, ثم تفاجئنا بذات ثانية في الوجه اليتيم
الذي يعوي وحده, ولكن إلى أين؟ هناك خلف الجدار الآدمي, وأحسب أن هذه الجدلية
الصامتة لعلاقة الأنا بالآخر هي اندغام للأنا في الآخر, والذوات, بل والعالم
أيضاً. وهذا التخيل لحالات الأنا يجعلنا نقف أمام ثلاثة وجوه للأنا وتفاعلاتها,
أو أننا نقف أمام علاقة بين الأنا الحقيقية, والأنا المتخيلة في صورها, وهذه
الأنساق الجدلية التي أمامنا تحيلنا إلى اللحظة الشعرية ومقارباتها (نحوي/
نحوك/ وجه يتيم يعوي) وكأنها تؤسس علاقة مع العالم, بل لا تكتف بتأسيس هذه
العلاقة الجدلية إذ تسأل:
" آه كم عمرك أيها الوجع
المشاغب تحت الظلام
وحرقة السؤال تعصف بي
وحيدة أشاطر نصفي
لأرسم وجهاً نورانياً
يخيفني هذا الوجه
يشنق يدي عبثا
سيأتي الموتى من عالم الغد
مشفقون عليّ / عليك
وأفراح المدن تؤسس
منفاي
في الزمن القريب / البعيد "
فهى تسأل هنا لا لتنتظر الإجابة, ولكن لتؤطر للوجع مساحة تتماس مع الأنا
الحزينة لديها، لذا كانت تسأل وهى تحترق, وكأنها تتماس مع الحزن ثم تنشطر عنه
في حالة من الانزياح والوحدة فتتكور على نصفها الآخر ولكن لماذا؟ ربما لترسم
ذاتاً ثالثة لوجه نوراني تشكله بأوجاعها التي انسحبت عنها في حالة الانزياح
الأولى، لتخاف منها في الحالة الثانية, ثم لا تكتف بذلك, بل تفتح مساحة للأوجاع
مع العالم: "سيأتي الموتى من عالم الغد" وعندما يأتي الموتى فنحن الذين يجب أن
نشفق عليهم، إلا أنها قلبت الصورة هنا بجرأة فجعلت الشفقة في عيون الموتى
عليها، وعلى الوجع أيضا, أي على الأنا والذوات التي صنعتها, أو الصورة وظلالها,
ثم نراها تذهب لأبعد من ذلك إذ تؤسس أفراح المدن لها المنفى, ولكنه منفى متخيل
في الزمن القريب/ البعيد. إنه منفي لا يعترف بالزمن, بل يقف متأرجحاً كحالتها
المتأرجحة, وكأنها تعيد إلينا الأنا الحزينة في صورة دوائر, وكل دائرة تعيدنا
إلى الذات الأولى, ولكن بنظرة إلى هذه الأنا نراها على انكسارها قوية, شامخة,
وكأن هذه الانشطارات لا تؤثر فيها فتقول:
" أيها الراحل عبر المسافات
كسرت صوتي , حطمت وجهي
ونسيت أنى المزهوة
بالانتصارات "
وكأنها هنا تجابه كل انكسار, فهي تنتصر للأنا, ولكن بعد ماذا؟ بعد تكسير الصوت,
وتحطيم الوجه, وكأنها معركة بين الأنا والوجع, وذلك البعيد الذي تنتقم منه, وهي
تنتقم في الواقع من الأنا, ومع كل نراها صامدة, فأي جمال هذا الذي تصنعه اللغة؟
وأي معركة أشبه بهذه المعركة التي سلاحها اللغة, وبارودها الوجع, وأفعال الذات
دون اندغامها في المتخيل لتؤسس للحظة الشعرية يقظة وديمومة عبر الأفعال الشعرية
المتتالية في القصيدة.
إن الشاعرة هنا تؤسس لنمط جديد في الشعرية, حيث لا تنصهر الأنا مع المتخيل, بل
تحافظ على خصوصيتها, وتتفاعل مع الواقع والعالم وتدخل معهما في صراع تنتصر فيه
الأنا في الغالب عبر سرد متواتر تارة, ومتأرجح تارة أخرى, حيث تكون اللغة في
أضعف حالاتها لتعلو علاقات الأنا بالأفعال وبالتنامي, لتؤسس صورة تعادلية
وتقابلية, أو تضادية بين الأنا والأنا المتخيلة, أو الأنا الأخرى, وأحسب أن
"فاطمة بوهراكة" هنا تعتمد منهجاً وأسلوباً جديدين ومغايرين في الكتابة, وفي
الفعل الشعري، وهذا المنهج يجعلها فارقة عن كاتبات جيلها بصفة خاصة.
وفي أغلب هذه النصوص التي أمامي تحاول الشاعرة أن ترسم صورة مغايرة للأنا, وفي
قصيدتها "الثامن من مارس" نراها تجسد ذلك وتؤكده تقول:
" شعارات مزركشة على أريكة جسد امرأة
تطالب بالعراء / بالخواء
عارية هي حتى من اسمها
من لونها
من ذاتها
من بؤرة الألم كان الفراغ "
فأي جمال للوصف نراه هنا, وأي انتقال من وصف للأنا, إلى وصف لذوات الأنا, ثم
العودة إلى ذلك بالانزياح, ثم بتتابع الصورة من جديد للأنا الأولى وكأنها
بالانزياح تؤسس للأنا مرجعية, ثم تنسحب منها إلى ذوات أخرى تصفها, ثم تعود إلى
الأنا من جديد بهدوء, وبتراتب دون تشويش على الذهنية القارئة, وأحسب أن هذه
الانتقالات تشكل قوة للقصيدة, وأسلوباً تنفرد به الشاعرة وتتسم بامتلاكه بقوة,
وفي قصيدتها "متعبة" ثمة تأكيد لحدسي، تقول:
" مسافات الخطو تزداد اتساعاً
تبارحنى أنشودة لهذا الزمان
تصرخ لحظة الألم
حمقاء هى الذكريات
تؤثثنى هذه الجنازة
الضاربة في عمق الجسد
تقطع شهيتى لليلة الفرح "
وأقول: لولا أننا قد أطرنا هنا للانزياح منهجا للشاعرة لأخذنا عليها الانتقال
من موضوع لآخر دون تمهيد وهو أسلوب البلاغيين القدماء, ولكن لولا أننا عرضنا له
سلفاً عند الحديث عن وعي اللحظة الشعرية ويقظتها لديها, لكان لنا رأي البلاغيين
القدماء, الذين يعتمدون وحدة الموضوع أساسا في الفعل الشعري, ولكن الشاعرة في
تأسيسها للأنا وجدلياتها وتخيلاتها وعلاقاتها بالعالم قد شكلت سمتاً حداثياً
يجدد للشعرية أسلوبها دون الاتكاء على الصور المتواترة, أو اللغة المتتابعة,
وإنما تعتمد المفارقة إطاراً, والذهنية المتيقظه تواتراً, واللغة مرجعية
منصهرة, لتؤسس للحظة الشعرية ميلاداً جديداً, ولنا أن نؤكد ذلك بصوره أخرى في
قصيدتها "عيناك قساوة كبرى" تقول:
" جدار برلين يؤسس ديكتاتوريته الثانية
يبعدك إلى ما وراء البحار , يجعلني طفلة من ثلج
من نار ,
تحتار الكلمات بين شفتي
ترميني بلهيب الصدمات
تقذف بي في دموع عينك
عيناك قساوة كبرى
تداعب حفنة زجاج
لحيظة الصمت القاتل
وأنت الراحلة / المغتربة
شهوتك الضياع وقلوب حائرة "
وهنا نراها متوجعة فها هو جدار برلين يفصلها عن الحبيب، وكان عليها أن تصبح
متوجعة من نار الحزن على المفقود إلا أنها تعتمد المفارقة (الثلج) ثم يجيء
الانزياح (لهيب الصدمات) لتؤسس للحزن مرجعية، وكان يمكن للقصيدة أن تكتمل وتؤسس
نهايتها (بقلوب حائرة) إلا أنها لم تفعل ذلك بل نراها تجعل (القساوة الكبرى)
لازمة شعرية لتعود إلى الذات المنطفئة لتصنع لها حياة، فنراها تكمل القصيدة
وتتحدث عن العروبة تارة والتي تمثل حالتها، والإفرنج تارة والتى تمثل حياة
حبيبها، وكان من الممكن – كما في الأفلام البوليسية – أن يقوم البطل باختراق
جدار برلين من أجل حبيبته ولكن هذا لم يحدث, تقول:
" عيناك قساوة كبرى , تداعب حفنة زجاج
والجرح نزيف الذاكرة
تزيله الجبال العالية
غير أن الأضواء كانت خافتة
فضاعت ملامحك "
فأى تأرجح للذات هذا، فهى تقر هنا بضياع ملامحه بسبب الأضواء الخافتة، أو بسبب
غيابه خلف الجدار، إلا أنها المفارقة التي تصيبنا بالدهشة هنا في قولها "ضاعت
ملامحك" وضياع الملامح هنا ليس غياب الحب إلى الأبد، بدليل قولها أن الجراح
النازفة يمكن أن تزيلها الجبال العالية أو الأيام، ولكنه خفوت للأنا التي لا
تقبل بالانكسار بل تتحدى كل ذلك بضياع ملامحه ووقوفها صامدة في وجه كل ذلك،
وأحسب أنها تحدثنا عن امرأة من فولاذ، لا تتأثر بكل ذلك، وهذا شموخ للأنا، بل
وتمرد عليها في محاولة منها للتشبث بالقوة بهذا الصمود للأنا، وقد نجحت فعلاً
في تصويرها – إلى حد بعيد – ولكنها لم تنجح هنا في خلق جدلية بين الأنا
المتخلية والعالم، وانحسر الصراع بين الصورة والظل، أو الشبيه، وفي هذه صورة
ثانية تتميز بها، وربما عدم نجاحها هنا لتعويلنا على التأسيس الذي وضعناه
للمقاربة بين الأنا والذوات المصاحبة، وفي هذا تكون قد نجحت في إيهامنا بذلك،
وأصبحت فارقة أيضاً في هذا الانفلات بين الذات والأنا العليا، وأنا هنا لا
أنتصر للشاعرة بقدر ما أريد توضيح المراد من العلاقات الوشيجة التي تؤسس لها،
ونحاول معها أن نؤسس منهجا للدرس النقدى يمكن أن ينسحب على أعمالها، وإن كان
هذا غير مستحب منهجيا، لأنها هنا قد حاولت أن تخرجنا من مبحث الدرس النقدي إلى
مبحث الدلالات وهو ما نحاول أن نبتعد عنه الآن لمحاولتنا التأريخ للحظة الشعرية
في قصائدها وهذا ما وضعناه نصب أعيننا في المقام الأول في محاولة منا كذلك
لتأسيس منهجية جديدة لا تعتمد الدرس النقدي المعروف لدراسة النصوص الأدبية، بل
نستشرف له آفاقا جديدة.
إن فاطمة بوهراكة في هذا الديوان تغزل من صوف الشعر رحيق المفردات، وهي بذلك
تؤطر لها مكاناً فارقاً على مشجب الشعر، لتصبح في مقدمة شعراء المغرب العربي،
ولا أبالغ إن قلت أنها تجدد مسيرة الشعر هناك - مع آخرين - بل تفتح آفاقاً
جديدة لكاتبات جيلها ليضيفوا للشعرية العربية رافداً تجديدياً وتحديثياًُ،
وأحسب أن رؤيتها الإنسانية التي تطرحها عبر نصوصها تمثل لحمة النسيج الحي ليقظة
اللحظة الشعرية لديها.
إن هذه الشاعرة برؤاها التخييلية، وبمزجها الفلسفي الرائع بين ما هو إنساني
اجتماعي، وما هو فلسفي نفسي، قد فتحت للشعر مسالكاً جديدة، وأرجو ألا أكون
مبالغاً إذا وضعتها في مصاف الصفوة من الشعراء، الذين اتخذوا من القيم
الإنسانية أساساً، وانطلقوا من الحداثة، وما بعد الحداثة، والكونية، وما بعدها
ليحلقوا بالشعرية في سدم أحسبها جديدة على الذائقة العربية.
وبعد :
هل ظلمنا الشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة، في مبحثنا النقدي الذي انتهجناه، وهل
أخضعنا شعرها إلى استشرافات نقدية لم تزل في طور التجريب - من جانبنا - أم أننا
قد حاولنا هنا أن نرتفع بالدرس النقدي ليقارب الأدبية الطازجة في قصائدها التي
أزعم بأنها فارقة؟!
إن الإجابة عن هذا السؤال متروكة للذائقة النقدية لدى نقادنا، وللمتلقي، الذي
أثق في قدرته، عسى أن تكون هذه القراءة هي الشرارة الأولى للخروج بشعرنا العربي
من الأزمة النقدية التي يعاني منها، ولنحاول - بهدوء - أن نؤطر منهجية تجريبية
مغايرة للنقد الأدبي العربي.
حاتم عبد الهادي السيد/ كاتب مصري، العريش
مصر - شمال سيناء - العريش - ص ب 68
|