المعري
والمشاعر الاوديبية -
رؤية نفسية
شوقي يوسف بهنام - العراق
ليس هناك تعبيرا وذو دلالة ،
يمكننا الركون اليه ، افضل من تعبيرات اللسان ذاته
. ونحن نعلم ان من التقنيات الاساسية في التحليل
النفسي هي لجوء المحلل النفسي إلى زلات اللسان
lapsus linguae
أو زلات القلم
lapsus calami
أو
زلات الذاكرة او النسيان سهوا
lapsus memoriesلسبر
اغوار لا شعور المريض لغرض التقاط زلات لسانه ومن
ثم يمارس عمليات التأويل والتفسير لغرض تكوين صورة
اكمل لذكرياته وبالتالي لمعرفة ديناميات عصابه
بشكل افضل . ما حاجتنا الى عملية الالتقاط هذه ..
وفي حوزتنا اعتراف صريح من قبل الحالة ، وهي هنا
شاعرنا الكبير المعري ، التي بين ايدينا .. شاعر
الفلاسفة وفيلسوف الشعراء .. هذا هو لقبه . وقد
ضمن اعترافه هذا في بيته المشهور الذي اوصى
بكتابته على قبره والذي يقول :
هذا ما جناه ابي علي
وما جنيت على احد
*************
في هذا الاقرار الصريح .. يصف
لنا شاعرنا سر مأساته . وفي الوقت نفسه نجده وكأنه
يوحي لنا ، خصوصا في عجز البيت ، بأنه رمز من رموز
البطوله ، خصوصا في جانبها الاخلاقي ، لا في
حضارته فقط بل في عموم الحضارة الانسانية لأنه لم
يكن سببا في مأساة أحد . بمعنى آخر ، فأن هذا
البيت هو اتهام صريح موجه ضد الآخر .. والآخر هنا
هو الأب . ليس هذا البيت اتهاما فحسب بل هو القاء
اللوم كله لأنه السبب الاكبر لوجوده وبالتالي
لمأساته في هذه الحياة .. من جهة اخرى نجد ان
المعري يبرأ ذاته تماما من التهمة ؛ واعني
بها السبب في مأساة الآخر .. وهذا هو سر الافتخار
بذاته بهذا القدر وعلى هذا الشكل الذي عبر عنه
الشاعر من خلال هذا البيت . يقول الشاعر في هذا
البيت :-
وإني ، إن كنت الاخير في زمانه ،
لآت بما لم تستطعه الاوائل
************
لم تكن الإشارة الواردة في هذا
البيت غير إشارة اولية إلى مفهوم أو صورة الذات
لدى شاعرنا . وثم ابيات في سنشير اليها لاحقا وهي
تنتمي الى قصيدة واحدة وهي بعنوان " ألا في سبيل
المجد " (1).. يتحدث فيها المعري عن ذاته من
زوايا متعددة وهي قصيدة طويلة سنحاول استكشاف
عولمها في محاولات لاحقة . الا ان ما يهمنا من هذه
الابيات هو علاقتها بالبيت الذي انطلقنا منه والذي
يهدف الى الكشف عن المشاعر الاوديبية ، وليس
بالضرورة أن تكون تلك المشاعر قد اخذت طابع العقدة
المرضية عند شاعرنا
.الا ان هذا لا يلغي عدم وجود
شكل من اشكال العصاب لديه . وما تضخم الذات الذي
وجدناه في البيت الا مؤشرا اوليا لذلك . فضلا عن
ذلك فان عددا من انماط السلوك والتي تشكل في
مجموعها صورة العصاب والتي سوف نتعرف عليها لاحقا
ستكون سندا لنا في تعزيز ما سوف نذهب اليه . هل
كان لوالد المعري هذا القدر من المسؤولية ، والتي
يحملها المعري عليه ويعتبرها علة في شقائه الذاتي
هذا ؟؟ . و لاحاجة بنا إلى الاشارة إلى ان العمى
وما يولده من حرمان في الاتصال او التعرف السليم
على العالم الخارجي كان سببا ظاهريا وراء التهم
التي توجه بها المعري ضد ابيه .. كيف ادرك المعري
ان والده كان سببا في ان يكون على تلك الصورة التي
هو عليها ،اي ان يجعله كفيفا ؟ هذا يعني أن للأب
بعض التقصير في هذا الشأن ، وهكذا انطلق المعري في
تحميل الاب تلك المسؤولية الكبرى في ذلك العمى .
واذا كان الامر على هذه الصورة ، الا يدفعنا
الفضول الى توجيه القدر نفسه من تلك المسؤولية على
الام ، وكيف غاب عن المعري انه قد يكون للأم ذات
الدور الذي حمله للاب في ذلك الشقاء الذي سوف
يواجهه طيلة الحياة . وهذا يتجلى في اخبار الام عن
تقصير الاب في علاج ولده إذا كان هناك بالفعل مثل
هذا التقصير بأي شكل من الاشكال . وبهذا تكون الام
قد برأت نفسها والقت اللوم كله على الاب . كيف لم
تستطع ذاكرة المعري ، تلك الذاكرة العجيبة التي
اختزنت ما اختزنته من معارف واخبار وشعر وقصص وووو
... كيف لم تستطع تلك الذاكرة من التقاط جمل ..
عبارة .. صورة لوم .. صورة عتاب .. تهمة .. تقصير
وجهتها تلك الام الحزينة التي ترى صبيها ينمو وهو
لايرى شيئا الى ذلك الاب المقصر .. المهمل ..
العازف عن رعاية صبيه هذا ؟؟ وهذا سوف يساعد وبدون
شك ، في تشويه صورة الأب عند شاعرنا الكبير . هذا
يعني ، ويمكن ان نستدل من هذا ، ان المعري عاش في
ببئة اسرية مفككة تسودها تسودها سلطوية الام
وتهميش واضح لدور الاب . هذا التفسير قائم على
افتراض انه كانت للمعري معرفة يقينية بدورالاب في
ظاهرة العمى لديه . اما اذا كان الامر على خلاف
ذلك ، اعني عدم وجود تقصير من قبل الاب في عمى
صبيه هذا ، فيكون المعري قد تجنى ، حقا ، على ابيه
. من جهة أخرى نرى المعري نفسه يرثي اباه في قصيدة
طويلة وهي بعنوان " طاهر الجثمان " . يمكن ان نقف
عند بعض ابياتها للتعرف على الصورة التي رسمها
المعري عن ابيه ، ولكن مهما يكن حزن هذه الصورة ،
فأنها تعد في تقديرنا على الاقل ، مفارقة تحتاج
الى تأويل أو تفسير .. لأنها لا تتفق و البعد
النفسي الذي تحمله الوصية التي اوصى بها المعري ان
تكتب على قبره . ومن ُثم سوف يكون لنا الحق في
ان نعيد هذا الموقف الذي اتخذه المعري إزاء ابيه ،
الى مشاعر اوديبية واضحة . بهذا المعنى ، وقد
يوافقنا المعري نفسه ، لا يكون لابيه اي علاقة
بمأساته التي نتجت من فقدانه لبصره . هذا الموقف
من الاب الذي نجده عند شاعرنا والذي يتسم بالعداء
الواضح سوف يتحول الى عداء من نوع اخر . عداء إزاء
الله . على اعتبار ان الله وفق مفاهيم التحليل
النفسي ما هو الا اب قد اضفيت عليه صفة الاطلاقية
.. اي قادر على كل شيئ . وهذا ما يبدو لنا جليا ،
في تلك الازمة الروحية بشأن الوجود وحيرته إزاء
مفاهيم الاديان الكبرى عموما ومحاولته في اختراق
اللامرئي من خلال ملحمته الكبرى والمعروفة برسالة
الغفران . هذا هو الذي جعل من شاعرنا ان يعيش
متشائما .. كئيبا يتمنى الموت كما في قوله ..
فيا موت زر! ان الحياة ذميمة
ويا نفس جدي ! إن دهرك هازل
*************
المعري لا يطلب الموت خلاصا من
العالم وابتغاء العالم الآخر أو ارضاء لشوق صوفي
خفي لديه ، بقدر ما هو جهاد في سبيل اعلاء
الذات وتمجيدها . وهذا ما يفسر لنا حالة التسامي
sublimation
التي عاشها المعري على صعيد حياته اليومية من خلال
امتناعه عن الزواج وعزوفه عن ملذات الدنيا والتي
يمكن ان تكون مؤشرا بل دليلا على وجود صراعات
داخلية في منظومة جهازه النفسي . هذه الصراعات
تتجلى في ضغوط الهو ومطالبه والحاحاته وبين كوابح
ونواهي الانا الاعلى . وهذا الابيات يمكن ان
تساعدنا بعض الشيئ على كشف المحنة الجوانية التي
عاشها الشاعر ، حيث يقول :-
اعندي ، وقد مارست كل خفية ،
يصدق واش ِ ، أو يخيب
سائـــل ؟
تعد ذنوبي ، عند قوم ، كثيرة ،
و لا ذنب لي الا العلى والفواضـل
وقد سار ذكري في البلاد ، فمن لهم
باخفاء شمس ، ضوئها متكامـــــل
***************
إذن هي الذات التي يدور في
فلكها المعري و لاشيئ سواها . تلك هي بعض مظاهر
تلك المحنة التي ذاق المعري مرارتها حتى قادته الى
حالة الانسحاب واتهام الآخر بسوء الفهم ، الذي
كثيرا ما نصادفه في حياة غير العادين من الاشخاص
سواء اكانوا مرضى أو مبدعين . ها هو يقول :-
واني جواد لم يحل لجامه ،
ونضوُ يمان ٍ اغفلته الصياقل
تلك هي إذن ضريبة الابداع
والعبقرية والفضيلة و..و..و.. . وقد يستغرب القارئ
لماذا انحرفنا بعض الشيئ عن المسار الذي كنا قد
حددناه لأنفسنا الا وهو التعرف على المشاعر
الاوديبية وبعض اشكال العصاب لديه . واتخذ هذا
الانحراف شكل الاستطراد في تحديد مظاهر تضخم الذات
لدى المعري . وقد يكون لهذا الاستطراد بعض التبرير
. ويمكن القول ، ان مظاهر أو مشاعر العداء التي
اظهرها الشاعر إزاء ابيه بشكل صريح قد ازاحها نحو
رموز تحمل ذات المدلول الابوي لديه ، كالسلطة
الدينية أو سلطة المعايير أو العقل الجمعي
عموما . ولذلك نراه يتهم هذه الرموز بشكل إجمالي
بالجهل حيث يقول :-
ولما رأيت الجهل ، في الناس ، فاشيا
تجاهلت ، حتى ظن اني جاهل
******************
وعلى الرغم من اننا نرى حكما
اطلاقيا يتبناه المعري إزاء جهل العقل الجمعي ،
وقد يكون هذا الحكم متعسفا بعض الشيئ . الا اننا
نجد فيه صورة من صور الرفض والتمرد على احكام
ومعايير ذلك العقل . فمثلما كان الاب سببا لشقائه
– على حد تصوره – وحرمانه من وظيفة (نعمة) الابصار
مما قاده إلى ما هو عليه .. هكذا ذلك العقل الطاغي
لم يقدر عظمته وعبقريته ولذلك تجاهلوه .. ان
المفردة التي استعملها المعري للتعبير عن انه هو
الذي تجاهل – عن عمد – معايير ذلك العقل وهي مفردة
" تجاهلت " لا تناسب مفردة " اغفلته " الواردة في
البيت السابق وهي تعني انهم قد تجاهلوه
بالفعل . ولذلك كان من الطبيعي أن يكون تجاهل
المعري رد فعل معاكس لذلك الاغفال . فاستخدم
مفردة " تجاهلت " إذن المشاعر الاوديبية تحولت من
رمز الأب إلى رموز السلطة بأشكالها المتنوعة ليحل
بعض انواع الصراع الذي تولده تلك المشاعر الموجهة
ضد الأب . وتبقى اناه ذلك التابو اي المحرم الذي
لا يمس فهو المقدس الأوحد وما عداه خلاف ذلك وقد
اكد هو هذه النقطة من خلال هذا البيت الذي سوف
نكرره هنا :-
تعد ذنوبي عند قوم كثيرة
ولا ذنب لي الا العلا والفواضل
************
وهذا مؤشر على انه عانى مشاعر
الاضطهاد لأنه شخص ليس له من مبتغى غير ما لا طاقة
للبشر عليه !!! .
e-mail:-shawqiyusif@yahoo.com
e-mail:-shawqiyusif@hotmail.com
|