سعدي
يوسف والفأر والجبن الأبيض
قراءة نفسية لقصيدة الفأر (1)
شوقي يوسف بهنام - العراق
هناك أكثر من شاعر ينتمي إلى جيل الحداثة تخيلوا أنفسهم بأنهم أصبحوا فأرا مثل
الماغوط (2) أو ان فأرا قد دخل إلى رأسهم وأحدث حفرة مثل الشاعر الذي أحبه
كثيرا ... الشاعر ادونيس (3). وها هو شاعرنا سعدي يوسف ، ينظم إلى هذا
السرب من الشعراء فيتخيل نفسه بأنه قد مسخ فأرا . وشتان ما بين فأرة ادونيس وفأر
الماغوط وسعدي يوسف . حيث ان ادونيس صار من خلال الفأرة شخصا جديدا . بمعنى آخر
هناك تحول ونقطة انطلاق لمشروع لتغيير الأشياء . هنا نجد صورة ايجابية نحو الذات .
لكن عند الماغوط وسعدي ، نرى ان هذه الصورة سوف تتغير .. فعند الماغوط سوف يكون
الفأر رمز للتمرد والعصيان والثورة على واقع اليم لا يمكن لهذا الفأر ان يجد مكانا
فيه . بينما سوف يكون الفأر عند سعدي يوسف دلالة على تحقير الذات وإلقاء اللوم
عليها والتقريع بها . بهذا المعنى سوف يكون للفأر دلالة سلبية .سوف نرى لماذا تصور
سعدي يوسف نفسه بأنه أصبح فأرا . وقبل الدخول في أزقة القصيدة ، لابد من الإشارة
إلى ان الاعتقاد بالتحول إلى حيوان مثل الفار أو الذئب هو دالة الدخول إلى الذهان .
وأشرنا في دراستنا عن فأرة ادونيس إلى وجود هكذا حالات في مجال الاضطراب النفسي
والعقلي ، كان فرويد قد قدم تحليلا نفسيا لها . ولذا فلن نعيد تلك المعلومات هنا .
وإذا أراد القارئ معرفة تلك التفاصيل فعليه الرجوع إلى مقالتنا فأرة ادونيس
تلك . نعود إلى شاعرنا الكبير سعدي . القصيدة مكتوبة في الكويت . إذن هي مكتوبة في
المنفى . فالحالة النفسية والمزاج النفسي مقترن بهذا الوجود . لنرى تفاصيل تلك
الحالة . نقرأ قصيدة سعدي يوسف المعنونة " الفأر " : يقول فيها :-
ها
أنت َ وحدك مرة أخرى كأنك لم تسافر
يوما إلى أرض الجميع
ها
أنت وحدك مثل طائر
ألقت به ريح الشمال على الكويت
( الأعمال الشعرية الكاملة ، 1952-1974 ، ص 542 )
***************
إذن
هذا هو القدر مرة أخرى . بالفعل انها ليست المرة الاولى التي يغادر ذكرياته مع نخيل
البصرة . في هذا يصور لنا الشاعر نفسه على انه طائر . وهذا التصور متأتي من أنه لم
يبقى في أرض واحدة حيث يطير من أرض إلى أخرى . كل أرض لها سماء بقدر تلك
الأرض . وها اليوم يطير في سماء الكويت . لكن المهم هنا أننا لا نجد سعدي إلا وهو
وحيد .. من هنا منشأ الاغتراب عند سعدي . هل هو اختيار ذاتي محض قائم على قرار حر
... يجيبنا سعدي فيقول :-
أو
هكذا أحببت َ ؟ -
( المصدر السابق ، نفس الصفحة )
*******************
ولكن مع ذلك فهو حزين على هذا الاختيار . لأن هذا الاختيار قد أبعده عن نخيل
البصرة . في هذا الإبعاد تكمن أحزان سعدي يوسف . إلى هنا لا نجد سوى صورة جميلة عن
الذات . من حقنا ان نتساءل كيف تحول هذا الطير الذي يجوب السماء وهو منتشي بعبير
الريح وضوء الشمس إلى فأر قذر يجوب في .... !!! . فاتنا ، عند دراستنا عن أدونيس ان
وقفنا عند رمزية الفأر في الذاكرة العربية . وللوقوف ذاك نلجأ كالعادة إلى المعجم
الذي وضعه مالك شبل عن الرموز الإسلامية .. يقول هذا الباحث ( إن هذا القارض الذي
يخافه العرب هو حيوان ’يتَطيـَّر به . والفأر عند العرب هو ، بخلاف ما هو عليه في
الثقافات والميثولوجيات الأخرى ، وإلى حد ما ، علامة ايجابية . ) (4) .
هذا المفهوم هو للوقوف عند رمزية هذا القارض عند العرب . كيف سوف يوظف سعدي يوسف
هذا المفهوم . لنقرأ تتمة القصيدة لذلك الغرض . يقول سعدي :-
أن تبقى وحيدا
متلفت العينين تنتظر البريدا
وكأن في ورق الرسالة
موجا سيحمل المضنى بعيدا
شيئا فشيئا في ظلام البحر . . .
ثم ترى يديها
بين
الزهور تلـّوحان
والنور يغمر مقلتيهما
( المرجع السابق ، نفس الصفحة )
*******************
لا
يزال هذا الطائر أعني الشاعر سعدي يوسف يعيش محنة الانتظار . انه هنا في ارض المنفى
وهو يطير في سماء المنفى ينتظر رسالة من مـَن كانت تجالسه تحت أفياء نخلة من
نخيل البصرة . انه أيضا سيتخيل يداها وهي تلوحان له بمنديل أحمر . سعدي مثله
مثل البياتي يعشق اللون الأحمر والأخظر . حتى لقد تكنى بكنية هي ( الأخظر بن يوسف )
(5) هو الأخظر الذي يريد ان يرى العالم من خلال فلسفة اللون الأحمر !!!!!!! . حتى
هذه اللحظة سعدي يعيش في حلم يقظوي من ارض المنفى . هل ملّ سعدي الطيران في الأجواء
رغم العنفوان الذي يعيشه كل ثائر متمرد . ؟؟ سوف نرى ذلك في تتمة القصيدة . يقول
سعدي : -
عد
ْ . . عد ْ لنفسك أيها الأفـّاق ، يا رجلا يطوف دون بيت
( المرجع السابق، نفس الصفحة )
*****************
هل
كان سعدي واقعا تحت تأثير وهم مزمن من الأوهام التي تعشعش قي أذهان مرضى الفصام ،
وفجأة تندفع سهام الأستبصار نحو جدران الأنا فتتحول إلى ما يسمى بصحوة تلك الأنا ،
وهناك فرق بين هذه الحالة والحالة التي تسمى صحوة الضمير . و الأستبصار
insihgt
وهو مفهوم في الطب النفسي يفيد أو يعني الوعي بحالة الفرد العقلي(6) ، أي ان
المريض يشعر أنه قد عاد إلى حالته السوية ، وهذه العودة لا تتم إلا بفعل عقاقير
مضادة للذهان . ولا أريد ان أزج سعدي بين هذه الزمرة . النص هو الذي قادني إلى مثل
هذا الاستنتاج . من المؤكد أن سعدي لم يكن يعاني من شعور بالذنب بمعناه الأخلاقي ،
أي نتيجة ارتكابه لفعل محرم ومضاد للمجتمع . كل ما كان لدى سعدي هي قضية إحساسه
بأنه معدوم وبأن حقه ان يعيش في الحياة التي يتمناها اي مسلوب . مثل
هذا الاعتقاد لا يؤدي إلى شعور بالذنب في إطاره الأخلاقي حتى يصحو من ذلك الشعور
ويقوم بفعل امحاء لذلك السلوك الذي أدى إلى مثل هذا الشعور. .يجب ان نعرف أن
الإحساس الذي سيقترن بشعور سعدي هو شعور الاضطهاد
persecution
لا غير . هذا التوضيح هو فقط لكي افسر أسلوب التفكير ومرجعياته لدى الشاعر . الشاعر
يعيش ، من ثم ، ما يمكن تسميته بفحص مسيرته في الحياة .. وهل هو مخطئ في هذا المسار
أم مصيب . وعلى هذا الأساس يمكن القول أن سعدي أحس بخيبة أمل كبيرة في مسار
حياته ذلك . ولذلك هو يصف نفسه ب ( الأفاق ) و لا أريد أن اعلق على أبعاد هذه
المفردة التي ان دلت على شيئ فأنها تدل دلالة واضحة على خفض قيمة الذات ولومها
وتحقيرها . يمضي سعدي في توجيه ذلك النداء لنفسه ليصف لنا ، كم من
الوقت ضيع نفسه في الأوهام !! ويدعوه إلى ان يعاقب كل من دفعه وأغواه ليمضي
في طريق بلا هدف . يقول سعدي :-
أرجع لنفسك ، واصفع " الشعراء " . . . انك في الكويت
كالفأر تبحث عن وظيفة
عن
جبنة بيضاء تأكلها . . . فدع تلك الفتاة
واذا شبعت َ غدا فأرسل ْ ألف أغنية إليها
( المرجع نفسه والصفحة نفسها )
*******************
لا
أريد ان أعلق على صورة الجبنة البيضاء الواردة في النص . أميل إلى الاعتقاد أن هذه
الصورة مستعارة من أفلام ( ميكي ماوس ) وصراعه مع الهر في أفلام الكارتون
الأمريكية . وهي صورة رمزية للصراع الطبقي لملكية رأس المال . الهر يرمز إلى
الإمبريالية التي تستحوذ على مصادر الحياة .. بينما يرمز الفأر إلى الطبقات
المسحوقة التي تتهالك على لقمة العيش . هذه الصورة تتلاءم تماما مع الإطار
الأيديولوجي الذي يدور في فلكه سعدي .. فكيف به وهو يعيش هذا الإطار على ارض الواقع
فهو مثل الفأر يبحث عن وضيفة لكي يسد رمقه من بعض القطع من الجبن الأبيض . النداء
يطالبه بترك فتاة أحلامه في الصبا لتمضي إلى سبيلها . وفيما إذا شبع
يرسل لها ألف أغنية ليجتر ذكرياته معها . هذا كل شيء . هنا يتجلى في هذا الصوت هذا
الشعور الأخلاقي الذي اشرنا إليه . أن لا يكون مسئولا عن تلك الفتاة التي ستكون
ضحية لأوهامه الخضراء تلك . ترى هل شبع سعدي من الجبن الأبيض وهل أرسل أغانيه
الألف تلك .. ؟؟؟ هذا ما نتركه للشاعر ...
الهوامش :-
1-
يوسف ، سعدي ، 1987 ، الأعمال الشعرية الكاملة ، 1952-1974 ،
مطبعة الأديب البغدادية ، بغداد ، العراق .
2-
بهنام ، شوقي يوسف ، أحلام الفأر الهائج ، موقع الندوة العربية .
3-
بهنام ، شوقي يوسف ، فأرة أدونيس ، موقع الندوة العربية .
4-
شبل ، مالك ، 2000 ، معجم الرموز الإسلامية ، ترجمة : أنطوان الهاشم ، دار الجيل ،
بيروت ، لبنان ، ص 236 .
5-
راجع الدارسة الجادة التي قدمها الناقد الدكتور شاكر النابلسي عن شعر سعدي يوسف
والمعنونة ؛ قامات النخيل ، والصادرة عام 1992 عن دار المناهل ، بيروت ، لبنان .
6-
د. الحفني ، عبد المنعم ، 1987 ، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي ، دار العودة ،
بيروت ، لبنان ، ج1 ، ص 395 .
e-mail:-shawqiyusif@yahoo.com
e-mail:-shawqiyusif@hotmail.com