يعتقد البعض أن الهجرة يمكن ان تكون خلاصا
من ما يعانونه في ديارهم . ولكن هذا الأعتقاد لا ينسحب على أولئك الذين لديهم
مشكلات مع ذواتهم ، أعني لديهم مشكلات شخصية متأصلة في جذور اعماقهم . قد تكون
الهجرة حلا لبعض المشكلات الموضوعية . اما الذاتنية فهذا موضوع آخر . من هذه
الفكرة سوف ننطلق لقراءة مجموعة الشاعر بلند الحيدري المعنونة "خطوات في الغربة
" . وعلى ما يبدو من خلال الربط بين خطابات القصائد بين هذه المجموعة وقصائد
المجموعة التي حاولنا القاء الضوء عليها في دراسة سا بقة (2 ) ، فأن هناك علاقة
تتممية ، إذا صح مثل هذه المفردة . أن الحارس المتعب بعد ما غنى اغانيه الحزينة
تلك ولم يجد صدى لها في موطنه ، ولذلك قرر الرحيل في بلدان الغربة ، عله يجد من
يمد يد العون له لحل إشكاليته . فتاه في الغربة وذاق مرارتها . نعم قد يجد
البعض لغة السوط والسيف والحذاء ؛ مثلما وجدنا أدونيس وهو يتغنى لعصره الذهبي (
3 ) . الرحيل في هذه الحالات ، على الرغم من لا أخلاقيته ، في تقديرنا ، فأنه
وسيلة لا بد منها قد لجأ اليها الكثيرين . الذي يرفض فلا يرحل . الرحيل بهذا
المعنى إذن العجز بعينه .. هو الهروب بذاته . ما قيمة الرفض من الخارج وأهل
الداخل يعانون ما يعانون من عذابات السياط وأهانة الحذاء . إذن الذي يرحل فلا
مكانة له في الداخل . الذي يقاوم ، هو من يقاوم من الداخل وليس من الخارج .
هراء إذن كل انينيهم وكل ما يكتبون وكل ما يقولون طالما هم احياء في الخارج .
فليموتوا في الداخل وألا فليس لهم الشرف في الخارج . أنا لا أعني بلند على وجه
التحديد . هذا تعميم لا غير . إذن قد رحل بلند وهناك بدأ ينادي .. يصرخ .. يهتف
.. هذا في الصباح . أما في الليل .. فهناك الحانة والعبث والنساء . أليس هذا هو
ما يريدونه .. إذن كل صياحهم وصراخهم و أنينهم هراء في هراء !!! . لنرى ما هي
خطوات غربة بلند . كيف يرى بلند ارضه ؟ هذا سوف نجده في قصيدته المعنونة "
واليوم .. أعود " حيث يقول :-
****************************
تلك هي أرضه إذن . لقد وصفها لنا بلند بدقة .
ولا أدري أى أرض يقصد ؟؟ . بلند لا يحدد لنا هوية هذه الأرض . هذا مردود عليه .
موقفه موقف معروف للذي يدرس تاريخ العراق والذي يعرف انتماء بلند . المهم هو
أنه سئم العيش بها ويئس منها . وغنى لها كثيرا وخاطبها مرارا وصرخ بوجهها زمنا
طويلا . ولكن وأسفاه فليس هناك من يحرك ساكن . من عذابه . هذا ما تكشفه لنا عنه
هذه القصيدة . في قصيدته المعنونة " عشرون الف قتيل .. خبر عتيق " يحدثنا بلند
عن أحزان أرضه التي انحدر منها سوف يعتبر هذه الارض بمثابة نقطة انطلاق لتعميم
احزان العالم . بلند هنا ايضا يناشد امه . هذا الحنين .. بل قل هذا النكوص
دلالة على فشل بلند في مواجهة العالم ويتمنى العودة إلى احضان الأم .. يقول
بلند :-
هنا ... بلا حبي ولا بسمتي
رغم السنا المطفأ في غرفتي
هذه إشارة إلى أن بلند قطع الأمل بالعودة إلى
وطنه . ان الام هي رمزإلى الوطن فإذا كان قد لفظه وطرده ، فليس بالبعيد ان تكون
الأم هي الأخرى قد نسيته أو في طريقها إلى ذلك . من هنا هذا الشعور بالحزن .
لقد اصبح وحيدا . لقد كانت الأم ، على ما يبدو اخر ما سوف يخسره . ها هو قد
خسره . لقد تخيلها وهي تصلي وتتمتم لتقول مناجية ربها :-
لم تفكر الأم إذن بولدها وهو مغترب . ولم تذكر
احزانه ولا الطين الذي غار به . لقد فكرت بنفسها ونجاتها فحسب ونسيت بلند وحيدا
يشد يدا على يد . يقول بلند :-
واكاد اسمع من هناك } إشارة إلى بلده البعيد
عنه
ومن هنا
} إشارة إلى وجوده في المنفى وليس من وسيلة للاطلاع على
اخبار وطنه وامه سوى المذيع
شاءوا له ان لايحس بما يذيع
معنى هذا أن بلند خسركل شيئ . وأصبح
مصابا بمرض الفقدان اى الأكتئاب .
ويعزز هذا الأكتئاب وجوده بعيدا عنها ... أعني عن امه وبعيدا عن
وطنه ، وهو بهذا المعنى يكون مصابا بمرض الحنين إلى الوطن
Homesickness
. الأزمة إذن تفاقمت لديه .. رغم كل هذا ، عاش بلند في
غربته يحمل بين كفيه احزانه راثيا ايامه ، مجترا لياليه منتظرا الفجر الذي لا
يأتي . يقول بلند في هذا المعنى :-
من البلاد البعيدة .. رأى بلند رفاقه قد أكملوا
المسيرة وهو هنا ... أعني في بلاد الغربة لا حول له ولا قوة . أليس هذا شعور
بالذنب اعترى بلند وهو في هذا البلد البعيد لا يحرك ساكن ومع ذلك فهو قد تجاوز
محنة الشعور بالذنب هذه وعاش سعادة مجيئ الفجر مع رفاقه ، على الرغم من يأسه
الواضح من الشمس لن تشرق على بيته من جديد . لا يمكنه ان ينسى تلك الليالي التي
عاشها مع رفاقه في البلد الأمين . يقول بلند :-
تلك إذن هي حال بلند وهو في الداخل أو كان في
الخارج . لقد مزقه الصراع .. دمره الشعور بالذنب . وتأتي امرأة ..سلطة ..
مخابرات .. رجال شرطة ... من البلاد البعيدة ، لتغويه .. لتكشف عن
سره .. لتعريه .. لتجعله يترك كل شيئ . ولكنه يصمد ويقاوم ويبقى امينا على السر
. يقول بلند :-
هذه صورة من صور عذابات بلند وهو يعاني إشكالية
البعد ، إذا صحت هذه العبارة ، من محبيه ، أيا كانوا ... . في هذه الاجواء ،
تنشط مخيلة بلند ، في جانبها الحزين هذا ، وهو يجول في حانات هذا البلد البعيد
، ليلتقي امرأة ، يبث إليها بشكواه ، وفي تفس الوقت يعيش محنة الخوف من مراقبة
الاخر وملاحقته بزي امرأة متخفية .. متقنعة بقناع الحملان . بلند هنا ، حائر
بين الانسياق إلى حاجاته البيولوجية وضرورة اشباعها وبين الانصياع إلى واجب
الالتزام لمفرادات الخطاب ، ولذلك نراه يتشكك في كل النساء .. حتى نساء الليل ،
معتبرا اياهن زبونات لعدو الخطاب ، ولذلك يمكن القول ان بلند يعيش عقدة ، ما
يمكن تسميته بعقدة التعميم ، بمعنى اخر انه يرى ان المرأة عموما هي رمز للخيانة
والوشاية .. وان لا وفاء إلا من خلال رفاق الخطاب . وهذا يقودنا إلى الاستنتاج
إلى ان لا امرأة حقيقية في حياة بلند إلا امه . وفي عنوان ، يحمل في طياته بعضا
من المفارقة ، يسرد لنا بلند من خلاله ، عينة من مظاهر عقدته هذه
.. ففي هذا العنوان ما يوحي إلى ان بلند يعيش هذه العقدة في فترات مبكرة أو قل
في فترات الشباب ، إذا شئنا الدقة . والعنوان هو " صورة قديمة " ترى إلى فترة
تعود ذكرى هذه الصورة ؟؟ نترك تاريخ هذه الصورة إلى بلند نفسه !!! . يقول فيها
: -
فعلى مدى عيني تغرق في السكون
في عرق اسود } رمز إلى ركام السنين
مرت سدى
} إشارة واضحة إلى مشاعر الندم والاسف على مسيرته
احرقت امسي كله } إشارة اخرى إلى عبثية
المسيرة .
ولم يدفأ غدي } صورة
متشائمة للغد وللمستقبل عموما .
ماذا احاول ان اكون } ضياع لصورة الذات
لديه .
وتغور دقاتي الرتيبة } فقدان للاهتمام
بالحاضر
لن اجيبه } مخاطبة سرية للقدر ،
عودة إلى الامل
يا امرأة مريبة } عودة الشكوك إليه
قصي جناح ذبابة كي لا تطير
ولتزحفن على التراب الى المصير
وليهزأ الكون الكبير ، كما يشاء
بذبابة } إشارة الى الذل في المنفى
كأنت ِ } الشاعر يشبه نفسه بفتاة الليل الضائعة
بالامس كم درات بنا الايام من بيت
وكما انتهيت انا .... انتهيت ِ
انحتاج الى دليل لنرسم صورة الذات لدى بلند ؟
أليست هذه الصورة واضحة وجلية تكفينا لنرسم تلك الصورة ؟؟ انها صورة الى
احتقار الذات بل توجيه الاتهام لها . يستمر بلند في رسم تلك الصورة فيقول :-
لضائعين } هل دار هذا الحوار بين احضان بنت الليل .
ان بلند في هذا المقطع ، يعيش مفارقة نفسية
كبيرة . هو لا يأتمن الى احضان هذه ... ، على الرغم من انه يتكور بينها .
والدليل هو انه كان سريع البوح لهمومه كطفل عندما يرى من بعيد عينا امه أو يشم
رائحتها . بلند ، هنا منكسر .. مهزوم . انه مثل لفائف ملقية على طاولة متسخة
بأدران الرجال السابقين وبلند هو واحد مهم .. بل إذا شئنا كان الاخير بينهم .
يا لتعاسته إذن . كيف كان هذا الرجل الذي قاوم ونادى وهتف ودمر واحتج وكسر وعصا
و.. و... واخيرا صار بين نهدي بنت الليل هذه . أليست هذه مفارقة اخلاقية ، كما
تزعم مفردات الخطاب وتوهم بها نوايا ابرياء العقل الجمعي ؟؟ ياله من مخادع
وكذاب ودعي .. ياله من شيطان كبير .. تعالوا ايها الرفاق وانظروا الى هذا
المناضل العظيم الذي غنى لكم وهتف من اجلكم ودمر واحتج و.. و .. . كيف انه من
اجل نزوة شيطان عايرة باع كل ما لديه .. جسد بلند تمتع .. ارتاح .. ازاح عنه
عبأ السنين وركامها .. ولكن ضمير بلند محترق ... معذب .. مشتت .. ممزق ...
منفصم ، بين قدسية مفردات الخطاب ومثالياتها وبين ساقي مومس !!! . بلند ينتهي
الى لا شيئ انه ، يلتزم صمت الفشل وسكوت الخسارة ومرارة الفقدان . بلند يؤكد
لنا هذا الاستنتاج . هذا الاستنتاج ليس من عندياتنا بل هو من تأكيد بلند
واعترافه . يكرر العبارة . التكرار يعني التأكيد والتأكيد يعني الاصرار ...
يقول بلند :-
**************************
بلند لن يستمر في الغوص في نهر الغواية . هذا
النهر دائم الجريان .. لاينتهي . لذلك بلند يعلن التوبة . ولكن اي توبة ؟
. هذا ما تعلنه قصيدتين من قصائد المجموعة القيصيدتان تحملان عنوان لاسم شخص
صار رمزا لخيانه الذات أو لخيانه الخطاب . المعنى واحد . الشخص هو يهوذا . ذلك
الرجل الذي باع سيده من اجل ثلاثين من الفظة . هكذا تقول القصة المسيحية عنه .
وتضيف هذه القصة أنه بعد ما باع سيده وقع فريسة الشعور بالذنب فتاب وشنق نفسه
ضنا منه انه سيقوم بقيامة سيده . ولكن هيهات له ذلك . فقد مات بعد قيامة سيده
وخسر ما ربحه لص اليمين (2 ). هل بلند يعيش نفس المحنة . هل خسر ما خسره يهوذا
؟؟؟ . لنرى خسارة بلند إذن . يقول بلند :-
واثمي خنجر يوغل في قلب صغاري
من قصور لغدي } قصور الفشل والغدر والرذيلة
كلما ابصر بي الوحش الذي داس حقوقه
كلما ابصر الليل الذي سد طريقه
كيف القيتك في الدرب } إشارة واضحة الى
فعل الخيانة
بعد ان احرقت حتى بيت جاري }
إشارة الى تضخم شعور الندم لديه
ان حكم الموت لن يمسح عاري
الف صغير لم ينل غير سجوني
ان حكم الموت لن يمسح عاري
فانكروني يا صغاري
} الحاجة الى العقاب
اتركوني لعنة تزحف في التاريخ
**************************
تلك هي مشاعر الذنب لدى بلند وتلك هي وخزات
ضميره . ذلك الضمير الذي نام لفترة ثم استيقظ ليزعج بلند ويجعله يتذكر مواثيقه
وعهوده مع شعبه وخطابه ، ثم ، وهذا هو المهم ، مع ذاته .. انه لأمر خطير ان
يتشبه بلند بشخص يهوذا . ترى الى اي حد كان بلند موغل بالذنب ومتورط فيه
؟؟؟ . ان هذا التشبه هو الذي يمكننا من تحديد ذلك المدى . ولذلك يمكن القول ان
ذلك الذنب كان عظيما جدا لدرجة ان بلند قبل بأي عقوبة يفرضها شعبه عليه . حتى
لو كانت تركه وتهميشه من حساباته . تمنى بلند لو يكون لعنة للتاريخ وعندما يكون
كذلك تكون جراحات ضميره قد تعافت واقتربت من الشفاء . لكن اقسى صفعة وجهها
القدر الى بلند هي عتاب حيبته له . لقد خان ، وعلى ما يبدو ، حتى العهد مع
حبيبته . ما الذي بقي في رصيده من شخوص لكي يسند رأسه عليهم . وتشكو هذه
الحبيبة الحزن الذي تسبب به بلند . والقصيدة هي سرد لهذه الشكوى . لنسمع
تفاصيلها :-
فكأننا لم نبن في أحلامنا بالأمس بيتا
وما شدت يداك على يدي } رمز للعهد
وبناء الاحلام
يا من وقفت مع العيون القائمات
يا من وقفت مع الأصابع آثمات
رغم الليالي الحالكات تدور في داري
بيت عرفتك عرفتك فيه ... أنت } إشارة إلى
التعارف في الاجتماعات السرية
لا ... لم نقل
} بلند يتنكر للعهد الذي اقامه معها
لنظل في المصباح زيتا } إشارة الى المضي
في التضحية رغم كل شيئ
وقد رأيت القيد ينهش من يدي
هلا خجلت } إي لغة تهكمية وتقريعية
هذه !!!!!
وقد وقفت مع العيون القائمات
لتبيعني .. حيا وميتا
} إشارة واضحة للغدر والخيانة
*************************
تعتز هذه الحبيبة ، كثيرا ، بذاتها
لكونها لم تكن مثل بلند الذي خان وباع وترك وهجر و..و .. !! هنا الحبيبة تصب
جام غضبها ولومها وعتابها على بلند . بلند يذرف الدموع .. يشبك يديه .. تتيه
عينيه .. يتكأ على حائط الغرفة يتوه في عوالم مختلفة . كل هذا الكلام وهو
مسمر في مكانه .. غارق في ماضيه .. يتصيد أي حجة .. أي دليل .. أي مسوغ .. ولكن
لا يجد فيلوذ بالصمت .. إلى الابد!! . القصيدة سرد لتاريخ الوفاء ...
للاحلام ... للرؤى .. للامنيات .. للغد المشرق .. ولكن بلند خيب ظنها .. لم يك
.. كما ينبغي .. لم يف بالواجب .. لم يصن العهد .. أهذا هو ، كما تقول الحبيبة
، الذي هتف وتوعد وواحتج وأنشد للغد الجميل . ليس هو ، تقول الحبيبة ، وافرحتاه
ما كنت ... أنت . !!!!!!!!!! . في خضم هذه الاوجاع يتذكر بلند
تاريخه .. وعلى وجه التحديد .. ولده .. يبكيه.. يتمزق قلبه عليه ..
فيكتب له رساله . تقول الرسالة :-
لا قبل النور الذي في ناظريك
ان عدت ثانية اليك ... فلا تسل
عما وراء الصمت من زهر وشوك
لا ادري ، بعد هذا السرد الذي قام به
بلند عن عتاب حبيبته له لكونه غدر بها وخان عهدها ولم يصنه . إذن فهذا الولد
ليس ثمرة ذلك العهد . نحن لا يهمنا كثيرا من يكون هذا الولد وما هي هويته .
ولكن قد يكون رمزا للولد الذي ينتظر . أعني أي ولد كان بلند قد وعده بالغد
المشرق . أليس هو الذي هتف .. وصرخ .. وتظاهر .. ؟؟ . عليه ان يفي بالوعد .
لكنه خان العهد مع حبيبته . قد يكون معذورا في هذا الجانب . الحاجات لا ترحم ..
لا تعرف لغة اخرى غير لغة الالحاح والمطالبة . وهاهو يعيش في بلد غريب . هو
الغريب فيه . لا احد يعرف اسراره . لا احد يعرف همومه . قد يقضي وقته في
الحانات والمقهى ، وهذا ما سوف نراه لا حقا . وكتاب وجريدة ولفائف تبغ . هذا كل
ما في الأمر . هذه هي حياة المنفيين والمهمشين . لا شيئ غير هذا . فكر في
الوفاء بوعده فتذكر ولده .. شعبه .. اهله .. كل ما لديه هناك . الرسالة حزينة
لا تبشر بأمل .. كل ما فيها هو أن بلند يريد من الذي يقرأها ان لا يسأل . لانه
لو سئل لبكى .. كم قال الولد لرفاقه ان اباه سوف يأتي يوما وسوف يجلب معه
الهدايا وكل ما يتمناه .. لكن بلند خيب ايضا حلم الولد وبدد كل ما تمنى .. لقد
عاش بلند اليأس بعينه . مرت اربعون سنه وبلند هو هو لم يحصل على ما يريد .. لم
يجني ما قد زرع . يقول بلند في قصيدة ملئها الحزن على الايام التي عاشها في
العمر . يقول :-
لا تبحثي في ناظري عن موعد
ما عدت غير صدى خطاي الشرد
بالفجر يولد في رؤى زهر ندي
ايقظت في الاشواك من عطشي المهين
حقد الاماني المائتات على طريق
يا انت ، يا من تحلمين بالفجر
هذا هو الذي جناه بلند من اعوامه الاربعين .
القصيدة واضحة الابعاد .. جلية المعالم .. هناك حبيبة تنتظره . قد تكون هي ..
اعني تلك كانت موضوع قصيدته ( يهوذا ) . ها هو يطلب منها الرحيل لكي لا تتعذب
معه في عذاباته ولا تنجر الى ما انجر اليه في بلاد المنفى ... يطلب منها ان
تكون نقية وبمنأى عن كل ما تعرض له وسيتعرض له فيما بعد . يخبرها ان دربه صعب
.. ملوء بالاشواك .. بالعثرات .. بالحاقدين .. الكراهين ... انه الضحية و لا
شيئ غير ذلك . ففي قصيدته التي تحمل عنوان المجموعة أعني خطوات في الغربة يصف
لنا بلند حاضره ومستقبله ، على أعتبار أن ماضيه كان ذهبيا . يقول في القصيدة :-
وخطى تجوس على رصيف لا يعود الى مكان
حبلى كرومك يا طريق ولم تزل
أخاف أن تصحو ليالي َ الصموتات
يد تلوح في رصيف لا يعود الى مكان
فوراء كل ليالي هذي الأرض لي حب
وبرغم كل سكونها القلق الممض
لو ضم صحو سمائي الزرقاء هدبي
اني أرى في ناظريك حكاية عن ألف ميت
لا تقربوه ففي يديه ... غداً
سينتحر الصباح فلا طريق ولا سنى
ــ ملقى ــ هناك ... حقيبتان
يد تلوح في رصيف لا يعود الى مكان
ما عدى القصائد المهداة الى شخوص او احداث أو
ذكريات ، فأن هذه القصيدة تعتبر خاتمة الرحلة بالنسبة الى المجموعة . وبالتحديد
خاتمة بلند في عهد هذه المجموعة . وهي خاتمة مأساوية الى حد ما .. بل الى حد
كبير . بلند هنا بلا وجهة .. بلا مكان محدد يتجه اليه .. هو مسافر ومسافر لا
غير . حتى هو بلا هويه . مجرد رجل يحمل حقيبتين !! ربما معه دفتر للمذكرات وبعض
قصائده المخطوطة التي يقرأها بين الحين والآخر . هل يعدل من مضمونها أو
عناوينها أو اسلوبها لكي يرضى بها الحاقدين من اعداء بلند ، عندما يعود ،
يوما ما ، وهل سيعود ، أم يبقى زميلا ابديا للحقبتين وللرصيف ولعربة القطار
القديمة ؟. لا ندري أيا من هذه البدائل كانت نصيبا لبلند ؟؟؟؟ .
1-
الحيدري ، بلند ، 1974 ، خطوات في الغربة ، دار العودة ، بيروت
، لبنان .
2-
بهنام ، شوقي يوسف ، 2006 ، من كوة الزنزانة : قراءة نفسية
لمجموعة اغاني الحارس المتعب للشاعر بلند الحيدري .
e-mail:-shawqiyusif@yahoo.com
e-mail:-shawqiyusif@homail.com