يعيش الشاعر محمود درويش ، الذي لا يحتاج الى
اطراء أو مدح من أي نوع كان ، محنة الجديد والقديم ... الاتباع والابداع
؛
إذا استخدمنا العنوان الفرعي لكتاب
اودنيس الذي يحمل نفس العنوان . ولايحدد الشاعر محمود درويش نمطا معينا من
انماط هذه
المحنة ، بل يحاول تعميمها على كل تفاصيل
الحياة ولكنه ينطلق من خصوصية الشعر ، لأنه شاعر .. قبل كل شيئ . ولغة محمود
درويش في هذه القصيدة ، لغة رمزية ولكنها ليست
تجريديه . وهذا يعني ان القارئ قد يحتاج الى بعض الفهم وبعضا من الخلفية
المعرفية حتى يتسنى له فك مفتاح القصيدة .
والقصيدة من عنوانها توحي الى ان الشاعر حمل مفردتين بالمعنى الذي يمكن ان
تتحملهما من دلالات وابعاد . وهذا يعني ان
الشاعر كان موفقا الى حد كبير في توصيل ما يريد توصيله الى ذهن المتلقي . وعلى
الرغم من صغر حجم القصيدة لكنها كانت صريحة في
خطابها . وحتى لا نقع في دائرة الاطراء الاجوف ، سوف نرى عبر
مقاطعها هذا الذي زعمناه . يقول الشاعر :-
لابد للشاعر من نخب جديد ْ
( الاعمال الكاملة ، ص 488 )
ومفردة لا بد تعني ان هناك حاجة حتمية لاحداث
تغيير في الاشياء . والشاعر يؤمن ان هذه الحتمية هي حتمية مطلقة وأكيدة .
ينبغي في هذا الصدد ان ندرك لماذا كان الشاعر
بهذه القطعانية في التفكير ؟ أن ايمانه بالمسلمات الفكرية للمنظور الماركسي حتم
عليه مثل هذا النوع من التفكير. هذا المنظور
يؤمن بالحتمية التاريخية لإنتصار قوى البروليتاريا على اصحاب رؤوس الأموال .
هذا الانتصار ليس حلما براقا ورديا بل هو حتمية
يفرضها منطق التاريخ الذي يتجه ، كما يرى هذا المنظور ، الى تحقيق هذه
الحتمية . لكن الشاعر يدرك ، تمام الادراك ، ان
هذا التحقيق له مصاعب ومعوقات ، لكنها سوف تزول وتنتهي ايضا بمنطق
حتمي . وحتى يتم هذا التحقيق استخدم الشاعر
مفردة ( ليكن ) ليعبر عن اعترافه بهذه المعوقات والمصاعب . الشاعر يعتبر نفسه
نموذجا متفردا لهذا الايمان عندما يقول ( لا بد
لي ) . بمعنى انه هو الآخر ينبغي ان يكون مثل نموذجه في ادوار ومراحل التحقيق
هذه . كيف سرد الشاعر مراحل امنيته هذه ،
أعني أمنيته بظرورة او حتمية التغير في مسار التاريخ . يقول محمود درويش :-
إنني أحمل مفتاح الأساطير وآثار العبيد
وأنا أجتاز سردابا من البخور
( المجموعة الكاملة ، 488 )
ماذا يعني الشاعر انه يحمل مفتاحا للأسطورة ؟
الاسطورة في حسابات الشاعرهي كل تفسير غيبي للعالم . وفي ادبيات المنظور
الذي يؤمن به الشاعر فأن هذا التفسير مرفوض ما
لم يقم على اساس مادي مبني على الملاحظة والتجربة . والربط الذي قام به
الشاعر محمود درويش بين الأسطورة والعبيد تعبير
منطقي ، وفقا لمنهجه ، طبعا ، لأن العبد محكوم بإطار من الفهم ، هكذا
يفترض ، يجعله عبدا له . فإذا كان فهم العالم
اسطوريا فكل من يتبنى هذا الفهم يكون في مستوى العبودية ، بمعنى الأنصياع
الاعمى لذلك الفهم . من حق محمود درويش
ان يتهم اصحاب الرؤى الغيبية للعالم بأنهم عبيد تلك المنظورات . وقد راح
الشاعر
في الامعان في التقليل من شأن هذه الرؤى بأن
يرى نفسه أو يتخيل نفسه بأنه يمر أو يدخل سردبا من البخور . ينبغي ان نعرف ان
البخور هي المادة الأساسية في العبادات ،
لاسيما القديمة منها . ولكن نعتقد ان إضافة كمية من الفلفل إلى
مادة البخور إنما هي
رمز لضبابية الصورة لدى القائمين بهذه
الممارسات ، وإذا لم تكن بهذا المعنى ، فهل نتهم الشاعر بأستخدام مفردة الفلفل
بانها تكون
قائمة على غير اساس ؟؟؟ . ما يدعم منظورنا هو
استخدام الشاعر لعبارة ( والصيف القديم ) . إذن كل المنظورات الغيبية وما
يرافقها من ممارسات طقسية وشعائرية هي صيفية
قديمة وفلفية الطابع . الفلفل من شأنه ان يخرش اللسان لكونه حاد المذاق . إذن
العبادات القديمة هي الأخرى مخرشة للعقول
والقلوب في وقت واحد . ينبغي طرحها جانبا . إذن ماهو التاريخ في نظر الشاعر .
يقول الشاعر في هذا المعنى :-
وأرى التاريخ في هيئة شيخ ،
أنه يذكر حراء ، وبيت العنكبوت
( المحموعة الكاملة ، ص 488 )
هل هناك صورة أكثر وضوحا للإزدراء للرؤى
التي يخالفها الشاعر أكثر من هذه ؟؟ . التاريخ عبارة عن دورات كونية ، هذه
فكرة انطلق منها الفيلسوف الألماني شبنجلر،
ليصف نمو الحضارات ونشأتها وازدهارها وانحلالها وموتها . الشاعر لا يشهد فقط
انهيار حضارة معينة بل جميع الحضارات التي لم
تتبنى أيديولوجية الشاعر . ايديولوجية الشاعر وحدها فقط هي التي سوف يكتب
لها الإنتصار . لابد من تاريخ جديد تصنعه ايدي
جديدة . كان التاريخ شيخ يلعب النرد . هذا يرمز الى عشوائية احداثه وعدم
اتساقها بما يخدم مصالح الطبقة العاملة . وتمتص
النجوم دلالة على اعتمادها على قوى مجهولة هي التي تسير التاريخ . بينما
منظور الشاعر : يقول الناس هي التي تصنع
تاريخها . لا اريد ان اقف على موقف الشاعر من الاديان ، فقوله ( يذكر حراء ،
وبيت العنكبوت ) هو دليل على ان الشاعر يعتبر
هاتين الحادثتين ضمن قصص ورويات التاريخ الشيخ . . ومع ذلك فالشاعر لا
يأبه بكل هذا . لنراه كيف انه يرفض كل ما يمت
بهذا الشيخ من صلة . يقول :-
انني أبحث في الأنقاض عن ضوء ، وعن شعر جديد
( المحموعة الكاملة ، ص 489 )
هنا رغبة عميقة تستبد بالشاعر برفضه لكل مزاعم
التاريخ ويريد كتابة أو بناء تاريخ جديد ؛ الحياة .. الناس .. القيم .. الافكار
..
الرؤى .. حتى الشعر . الشعر القديم يعبرعن ذلك
التاريخ الهرم الآيل للسقوط والانهيار . يتأوه الشاعر . وعندما يتأوه الشاعر ،
فهناك إشكالية في الحياة وإشكاية في التصور
للتاريخ . الشاعركائن حساس ، يحس بالمشكلة قبل غيره ويدرك ابعادها قبل ان
تتبلور لدى الوعي الجمعي .. الوعي الغوغائي .
لكن في حسابات الشاعر فأن هذا الوعي هو الذي سوف يكون طليعة التاريخ
المبتغى .. التاريخ الذي يتطلع اليه الشاعر .
يستمر الشاعر في وصف احزانه .. احزان التبرم بما حوله والاستهجان به .
يقول
الشاعر :-
آه . . هل أدركت قبل اليوم
أن الحرف في القاموس يا حبي ، بليد
كيف تحيا كل هذه الكلمات !
( المجموعة الكاملة ، ص 489 )
ليس هناك ، كما عودنا المبدعين ، من الذين
يساندون قضاياهم من هو مشاركهم الوحيد ، سوى الحبيب . يصرف الشاعر معه وقتا
طويلا في اقناع هذا الحبيب بجدوى ومصداقية وجهة
نظره . الطرف الآخر ، غالبا ما يساير المبدع مسايرة قائمة .. ليس على
المنطق قدر ما تكون قائمة على الاعجاب بالبهرجة
العامة لفكره أو إذا شئنا الدقة ، الاعجاب بشخصيته أو بأسلوب عرضه لخطابه
مثلا . وتاريخ الحياة الشخصية للمبدعين قد يكون
عونا لنا ، حيث نجد أن هذا الحبيب ، ينفذ صبره من إنشغال الشاعر أو المبدع
بقضيته ، ويتركه ، حيث يصبح هذا الحبيب مجرد
ملحق من ملاحق قضيته أو هامش من هوامشها . ومن هنا ظهور الانتكاسة في
حياة الشاعر ، حيث يصاب بخيبة امل ويكتشف ان
هذا الحبيب قد مل من مسايرته . يدعو الشاعر ، محمود درويش حبيبته إلى
مشاركته في قضية جمود مفردات حياته اليومية .
والذي رمز بهذا الجمود بالقاموس . القاموس .. معيار .. مرجع .. لايمكن
محاورته أو مناقشته . انه سلطة .. ما بعده سلطة
. ويتسائل الشاعر كيف يستمر هذا الجمود وكيف تهيمن مرجعية القاموس هذه
على مجمل مشاعر الناس وافكارهم . يقول الشاعر
في هذا المعنى :-
نحن ما زلنا نغذيها دموع الذكريات
هنا الشاعر يتهم نفسه ضمن مجموعة انتمائه ..
أعني .. شعبه . في استمرارية هذه الافكار القاموسية السلطوية التي تقف حجر
عثرة في تقدم الشعوب . فيبهرجها ويعقلنها
ويبررها ويضفي عليها طابغ الاسستساخ والاقناع . تعبير الشاعر المتمثل ب( دموع
الذكريات ) إنما هو إشارة إلى الانجذاب بالماضي
عن طريق البكاء عليه . الماضي هنا هو الذي يستحق الاتباع وكل ما عداه
يستحق الرفض والاستهجان . ويكرر الشاعر محمود
درويش عبارته ( وليكن ) وهنا نشم رائحة الاصرار والمكابرة في وقت
واحد . يقول الشاعر :-
لا بد لي أن أرفض الورد الذي
يأتي من القاموس ، أو ديوان شعر
( المجموعة الكاملة ، ص 489 )
إذن حتى الورد قد وصل إلى الرفض . أعني اصبح
مرفوضا . تلك مفارقة .. ولكن هذه المفارقة لا تكون كذلك عند الشاعر، لا
لشيئ الا لأنه قاموسي المرجع . ليس فقط الورد
هو الذي دخل دائرة الرفض في حسابات محمود درويش بل الشعر ايضا .
الشعر الذي هو هبة السماء والربات ... يرفضه
الشاعر لأنه يحصر جماله وخطابه بين هوامش القاموس وحواشيه . إذن أي نوع
من الشعر أو الورد يطمح اليه الشاعر ؟؟؟ . جواب
هذا السؤال نراه في المقطع الاخير من القصيدة . يقول محمود درويش :-
ينبت الورد على ساعد فلا ّح ، وفي قبضة عامل
( المجموعة الكاملة ، ص 490 )
ذلك هو الشعر الي يريده الشاعر إذن وذلك هو
الورد الذي ينتظر ان يشم عبيره . لقد انزل الشاعر محمود درويش الشعر من
عليائه السماوي وجعله ينبت أو بتعبير أدق ،
هكذا يريده ، على ساعد فلاح وفي قبضة عامل وعلى جرح مقاتل بل يذهب إلى ما
هو اكثر من ذلك .. إلى جبهة الصخر . الصخر رمز
العناد والاصرار والوجود العاتي . محمود درويش يريد من الحجارة ان
تنطق شعرا لكي تساهم في بناء حركة التاريخ
الجديد الذي يبنيه الفلاح والعامل والمقاتل . هنيئا لمحمود درويش صرح احلامه
الجديد ....
e-mail:-shawqiyusif@yahoo.com
e-mail:-shawqiyusif@hotmail.com