من
كوة الزنزانة
قراءة نفسية لمجموعة
( أغاني الحارس المتعب ) للشاعر بلند الحيدري
شوقي يوسف بهنام - العراق
يصطدم
الدارس بعنوان مجموعة الشاعر بلند الحيدري المعنونة " أغاني الحارس المتعب " ،
حيث يوحي هذا العنوان .. إلى ان الحارس له أحزانه وأنه ليس ساديا ، كما يعتقد ،
يستمتع بعاب الآخر .. و لاندري هل أن بلند ؛ كان حارسا يراقب مسجونيه .. ويرى
أحزانهم ومتاعبهم . فكان التعاطف معهم ، وعلى هذا اساس هذا التعاطف برزت لديه
تلك الأحزان المتمثلة بأغاني المجموعة .. ؟ لا يمكن أن يكون بلند داخل زنزانة
انفرادية وينتظر حكم الاعدام المنفذ ضده ، وفي نفس الوقت يغني أغانيه تلك . .
أنها أغاني الحارس الذي يمشي خارج قضبان الزنزانة ويلفه الأسى والحزن على من في
الزنزانة . هذا يعني ، في تقديرنا ، على الأقل ، أن بلند لم يكن دقيقا في وضع
حل لهذه الإشكالية .. أعني هل هو السجان أم السجين ؟؟ . ويفترض ، على أساس هذا
الإطار أن يكون سجينا من أجل قضية . .. في المقابل هناك تأويل يتحمله عنوان هذه
المجموعة ، وهو أن بلند اعتبر نفسه حارسا للعالم .. أعني رقيبا عليه . وفي هذا
المعنى تكون أغانيه ناتجة من أن رقابته لم تؤدي فعلها المطلوب . وإذن فهو رقيب
أو حارس فاشل .. وحزن أغانيه إنما هو إجترارلذلك الفشل . إذن العالم إنفلت من
يدي بلند .. وأصبح من ثم ، عبارة فوضى عمياء لا تقودها غير رغبة هوجاء . وهذا
سبب أحزان بلند .. سنجد ، عندما نقرأ قصائد المجموعة ، أن هذه القصائد واضحة
الخطاب .. لا تحتاج إلى فك رموز أو تأويل عبارات . في قصائد المجموعة ينطلق
الشاعر من تصور محدد للعالم .. وعلى أساس هذا التصور يريد ان يبني عالما جديدا
خاليا من تلك الفوضى التي تسوده وتملأ اجوائه . و لا يخفى ، إنطلاقا من بعض
المفردات ، أن الخطاب الذي يتبناه بلند عن العالم ، هو الخطاب الماركسي .. الذي
يرمي إلى بناء العالم أو المجتمع اللاطبقي واللاقومي أو الأممي المنشود .. وعلى
أساس هذا التصور ينطلق بلند في هجاء العالم . .. ومنددا به صابا جام غضبه عليه
.. تلك الدلالات الأساسية لأغاني هذا الحارس المتعب .. أن تبني تصور معين عن
العالم والأشياء في فترة عمرية متأخرة إنما ينتج من تداعيات التنشئة الأسرية
الأولى .. وبهذا المعنى يكون مضمون الخطاب المتبنى ، حنينا لتلك التداعيات ..
فالطفل المحروم أو الذي يعاني من أزمات أقتصادية شديدة ؛ إذا صادف خطاب يقدم له
حلولا لتلك الأزمات ، عندها يكون هذا الخطاب هو الخطاب المتبنى .. وهكذا مع
سائر انواع التداعيات التي تظهر في فترة التنشئة الأولى من حياة الطفل . وهذا
ما سوف ينطبق ، على الأقل في تقديرنا ، غي حالة شاعرنا بلند الحيدري .. إذن
فلننطلق من تداعيات التنشئة الأسرية الأولى للشاعر . وأول نموذج لهذه التداعيات
جسدها بلند في قصيدته المعنونة " الطرد " يقول الشاعر فيها
:-
السؤال
عن الأصول ، كما توحي مفردة الولادة ، متروك للشاعر !!! . وللنطلق من رمزية
المفردة لا من بعدها المباشر ، ولنعتبر عبارة خلف الباب إشارة إلى مشاعر
الأهمال لدى الشاعر . ويبدو من السياق أن هذه المشاعر كانت مزمنة وعميقة
ومتأصلة فيه . .. حتى أنه لم يذق طعما للهوى غير الصورة التي يصفها لنا الشاعر
له . فعلاوة على كونه قد ولد خلف الباب فهو لم يتلق َ غير المخلب والناب . وهذه
إشارة واضحة إلى مفهوم الشاعر عن قدره البائس والشقي معا . لم يكتف الشاعر
بالتعبير عن هذا الحرمان من التواصل مع العالم بعبارة " خلف الباب " بل زاد هذا
الحرمان توكيدا من خلال عبارته " كبرت خلف الباب " . هذا يعني أن القطاع الأكر
من طفولة بلند مر على هذا الأساس ، أعني أنه مقذوف ، إذا استخدمنا مفردة هيدجر
، لا في العالم بل خارج العالم . أن بلند هنا دقيق في التعبير عن حالة القذف
خارج العالم هذه ، بأنه ولد وكبر خلف الباب . ويواصل الشاعر في سرد تفاصيل ذلك
القذف خارج العالم والانكفاء على الذات . يقول الشاعر
:-
كم مرة
يا دمي المسفوح للتراب
والمقتول
، كنت الجرح والذباب
وإذا
كان بلند في المقطع الأول مقذوفا قذفا اجباريا .. فأنه هنا ، في هذا المقطع ،
يغير ادوار اللعبة ، فيصبح هو القاذف وليس المقذوف ... أن سلوكه ، هنا ، هو رد
فعل .. أعني أنه قذف معاكس .. هنا برزت مشاعر الأنا لديه ساطعة الأضواء على
الرغم من صور السلبية الواضحة .. أنه ينام ولا يحلم .. مفارقة بايولوجية .
النوم .. النوم العميق ترافقه الأحلام .. إذن بلن لم يكن نائما بل كان متنائما
. إشارة إلى رغبة في أن لا يرى العالم . هو لا يسأل .. لأنه يعرف أن لا جدوى
لسؤاله لأن لا جواب له .. أن الأنا عند بلند أدركت ان العالم لا يستحق غير
القذف بل ان يتقيأ كل الصور التي رسمها عنه في مخيلته . ان في ذلك التقيئ نقاء
للمخيلة . وإذا كان بلند لم يرى في العالم سوى الخالب والناب ، وجسده اصبح ين
هذا الخال وذاك الناب .. فأن من الضروري له أن يقذف العالم . إلى هنا وبلند
يحاور ذاته .. أنه ، أعني هذا الحوار، تقليب لصفحات الماضي . أنه ماضي قاتم ..
مظلم .. لا هوى فيه .. لكن في المقطع التالي سيتوجه بلند بالخطاب إلى آخر ..
وبالتحديد إلى امرأة .. سنترك هوية هذا الآخر للشاعر نفسه .. ولنرى ماذا قال
لها :-
لأنني
... } من حقنا أن نتسائل لأنك ماذا ؟
وإننا
... } من حقنا ايضا أن نقول أنكم ماذا ؟
نظل في
الوليمة الصغيرة الحضور في الغياب
بلند ،
في قوله لأنني .. وبعد ذلك لإننا ، متحفظ في الكشف عن هويته .. هل هي سياسية ..
قومية .. دينية .. بلند هنا خائف من الأنكشاف . كان الماضي ، أعني ماضي بلند ..
ناب ومخلب .. وها هو الحاضر .. بل والمستقبل كله ذئاب وذئاب .. أن بلند يائس من
كل ابعاد الزمان ؛ الماضي .. الحاضر .. المستقبل .. أن بلند يعمم هذا اليأس ..
ليس وحده هو اليائس .. بين المخلب والناب .. بل الجميع يحيون تحت وطأة هذا
اليأس . وتظهر ملامح البؤس هذا في ضياع بلند ، هو وهذا الآخر .. وكلنا معه ..
بين الحضور والغياب .. حضور الأنا وغيابها معا .. في تلك الوليمة الصغيرة ..
صورة لمسرح العالم... ذلك هو نموذج واحد لتداعيات ذاكرة بلند .. في قصيدة أخرى
يعود بلند بأدراج ذاكرته الى الوراء وهي قصيدة " الأمس المطعونا " والتي يخاطب
فيها جده . الجد ليس ، بالضرورة ، جدا بيولوجيا ، قد يكون رمزا لتاريخ الأنتماء
.. أعني التراث .. أو قد يكون الخطاب المتبنى .. المحتذى .. وقد يكون الأنسان
النموذج . وقد كون الجد البيولوجي ... المهم هو أن بلند يتوجه إليه بخطاب ..
برسالة .. يبث له شكواه ، على وجه التحديد يتمنى أن يكون الإنسان النموذج ..
لنرى في هذه القصيدة والقصيدة السابقة لها وامعنونة " قل لي .. هل لي .. " ماهو
مضمون الخطاب الي يتوجه به إلى جده . لنقف عند الخطاب الأول .. أعني قصيدة "
الأمس المطعونا " . يقول بلند
:-
أن
اولد ثانية في فرحة عرسك ِ
أن
أولد .. لا جرحا } عودة إلى صورة الذات المنجرحة لديه
.
لا
سجنا .. لا سجانا .. لا مسجونا
ما زلت
براءتك .. كل براءتك
(
المجموعة ، ص
121- 122 )
*************************
تلك
إذن هي امنية بلند .. أن بلند ، هنا ، يعيش أو يتمنى ذلك ، امجاد عصر الجد
الأكبر .. الأعظم .. الأبهى ... . بلند ، هنا ، منسلخ عن الواقع . أن هذه
القصيدة هي حلم يقظة جميل .. أنها رغبة في الرجوع إلى الأصول .. بلند يدير ظهره
للعالم .. لأضوائه .. لبريقه .. ويتوجه إلى جده .. بلند هنا يرسم صورة لأبيه .
الأب المتنسك .. الزاهد في الدنيا .. الصوفي فيها الذي يدير ظهره لها . من
الممكن أن تكون هناك صورا مشتركة وانطباعات متماثلة بين بلند وأبيه عن العالم .
هذا يعني أن المحتمل جدا أن يكون بلند قد رسم صورته عن العالم أنطلاقا من صورة
أبيه عنه . ويكرر بلند نفس الصورة .. أعني رغبته وطموحه في قصيدة " قل لي .. هل
لي " . يقول بلند فيها
:-
قد مت
ّ ولم تك ملونا } إشارة إلى مصداقية الأنتماء والرسالة
قد مت
ّ ولم تك جرحا أو سكينا
قد مت
ّ وما كنت َ السجان ولا المسجونا
لن
تحمل إلا رقمي المطعونا
وإذا
مت ، رحلت ولم تك ملعونا
فقد
صار بي الجرح وصرت به السكينا
أما
العهد فقد عرفته مناحات الساحات الثكلى
مشنقة ، ويدا تتدلى
كل مساء
وبغيا ما زالت تنتظر
الزنـاء
بأن
لا تصبح جرحا أو سكينا
(
المجموعة ، ص
117 - 122 )
تلك
إذن هي رسالة بلند إلى جده .وذلك هو خطابه .. أن معاناة بلند ، هنا ، لم تغدو
معاناة شخصية أو فردية ، بل اصبحت معاناة جمعية . بلند هنا إذن هو صوت الجماعة
.. عهد الجد . أليس الرقم والشرف المطعون . لكن ثقة بلند في هذا العهد .. أعني
عهد جده الذي أوصاه بأن يصونه ؛ كبيرة وعالية . وهذه صورة لتطور مفهوم الذات
لدى بلند ، المولود والذي كبر خلف الباب . أنه الآن صندل محترق ومبخرة .. يقول
بلند في قصيدة " بين مسافتين
" :-
والليل
خلف دارنا
المسكرّة
ما
دام لي عبر دروب امسي المبعثرة
(
المجموعة ، ص
115- 116 )
**************************
ذلك هو
ما يريد أن يكونه بلند . أن بلند ، هنا ، بعد ما قذف العالم ، عاد إلى احضان
الأنتماء وأذرعه .. ليكون مبخرة وصندل ( وهو نوع من انواع العطور يجلب من الهند
) . ان سعادته هنا في هذه الأحضان . أن هذه الرغبة في العيش في هذه الأحضان
إنما هي تعويض لقذف العالم له وركنه خلف الباب .. لا يكتفي بلند في البقاء في
دفء أحضان الأنتماء هذه وإنما كانت هذه الرغبة ، على ما يبدو ، عابرة .. أو قل
حلقة صغيرة ضمن سلسلة احلام بلند . أن بلند ينطلق من احضان الأنتماء إلى احضان
الخطاب الذي يتبناه من خلال صون عهد الجد ... و لاحاجة بنا ، إلى القول ، ان
بلند يتبنى الخطاب الماركسي في بناء المجتمع اللاطبقي المنشود . لأن هذا الخطاب
كان موضة للكثيرين من الشعراء من جيل بلند. ذلك هو ما تجسده قصيدته المعنونة "
اقراص النوم " يقول بلند فيها مخاطبا امه
:-
والقصيدة
كلها تدور عن علاقة بلند الحميمة مع الأم ، والشكوى من فوضوية العالم واضطرابه
. انها شكوى من شخص يتبنى خطاب محدد المعالم ، كما قلنا ذلك . قصائد المجموعة
كلها تتمحور وفق هذا المحور . أعني تجسيد لمعالم الخطاب المتبنى في فترة الشباب
، بعد طفولة معاشة خلف الباب . وعلى الرغم من بعض العلامات المشرقة في خطاب
المجموعة ، الأ انه يئس من ذاته ومن صبره .. وبدلا من ان يكون حارسا للعالم
ورقيبا عليه .. اصبح هو السجين الذي ينتظر نوم حارسه ، عله يجد فرصة للهروب من
زنزانة الحياة التي تحيطه من كل جانب . ذلك هو فحوى الحوار الذي دور بينه وبين
سجانه الأكبر ..أعني قدر بلند المعذب . يقول بلند في قصيدة " حوار في المنعطف
" :-
ألم
تنم ْ ... يا الحارس الحزين
يا
أيها الساهر في مصباحنا من ألف عام
يا
أيها المصلوب بين فتحتي كفيه من سنين
_
للمرة العشرين ..
أريد أن أنام
ليحرقوا
روما .. ليحرقوا برلين
_
أنام ... ولم تزل
تحرق كل لحظة برلين
يسرق
كل ساعة سور من الصين
أن
بلند في هذا الحوار قد خسر المعركة واعلن عن قلقه . أن النوم عند بلند ، الحارس
مرة .. السجين مرة أخرى .. مثل حافة السكين ..ولذلك فأن زفرات القلق لديه
انطلقت من كوة زنزاته
.
الحيدري
، بلند ، 1971 ، اغاني الحارس المتعب ، دار الآداب ، بيروت ، لبنان
.
e-mail:-shawqiyusif@yahoo.com
e-mail:-shawqiyusif@hotmail.com