ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

شوقي يوسف بهنام - العراقانقسام الحب أو البياتي بين " لارا" و " خزامى "

قطاع من عذابات المنفى - رؤية نفسية

شوقي يوسف بهنام - العراق

 

هناك ظاهرة رصدها ناقدنا الكبير ( جورج طرابيشي ) في الرواية العربية الحديثة التي عالجت مشكلة ما اصطلح على تسميته بالعلاقات الحضارية .. وبهذا المعنى فأن الرواية العربية الحضارية تستحيل إلى ضرب من ادب الاعترافات ..  وهذه الظاهرة تتجلى في أن البطل ، اعني بطل الرواية يختار .. أو بتعبير أدق يقع في حب فتاة تنتمي إلى خطاب الآخر الذي يمثل للبطل عدوا لا يجاريه في خطابه . ويرى هذا الناقد ان هذه الظاهرة لها علاقة .. إن لم تكن نتيجة لمكونات البطل اللاواعية .  فهو يوهم نفسه بأنه رد على التحدي بتحدٍ أشد مضاء ، محولا نفسه في خياله أو لاوعيه من مركوب إلى راكب .. (1) . ونحن لمسنا  نفس هذه الظاهرة  في الشعر العربي ، وكنا قد وضعنا دراسة صغيرة كنموذج لهذه الظاهرة  في قصيدة صغيرة لأدونيس  (2)  . ورأينا في تلك الدراسة كيف أن أدونيس لم يكن الوحيد الذي كانت له نفس الأزمة ، فهناك أيضا شاعرنا ( محمود درويش ) و ( طه حسين ) مثلا . وها هو ( البياتي ) ينظم إلى هؤلاء ، وكما سوف نرى أيضا عند ( محمد الماغوط ) . وفي هذه السطور سوف نلقي الضوء على قطاع من حياة البياتي ... شاعر السفر والمنفى .. حيث تتجلى في تلك الحياة مثل هذه الظاهرة . ففي قصيدته المعنونة (  احمل موتي وارحل )  مكرسة لعذابات ( البياتي ) ومعاناته ، لا سيما المنفوية  منها  مع " لارا " تلك الأميرة التي جسدها من خلال هذا الاسم . فلنقرأ إذن نص القصيدة لنرى معاناة  ( البياتي ) تلك . يقول الشاعر :-

 

ناديت’ غزالة حبي في الصحراء الليبية –

في العهد الملكي البائد – كان البوليس ورائي

- فاجأني البحر الأبيض بالجزر المخبوءة ِ

تحت لسان عروس الماء وتحت عيون

الأسطول السادس- كنت’ وحيدا

كان البوليس ورائي – والليل الملكي

و" لارا " في البحر الأسود – في

سوجي – و " خزامى "  في اربد – في ضوء

بنادق حرب التحرير الشعبية للأرض الحبلى

بالثورة ترنو وتصلي – فاجأني البحر الأبيض

                                                       

                   ( ديوان البياتي ، المجلد الثالث ،  ص 211-212) *

 
 
 
 
 
 
 

                                 *******************

 

أولى  المفارقات التي نلاحظها في هذا الجزء من النص .. هي ان ( البياتي ) ينادي غزالة حبه . هذا حق مشروع . لا شك في ذلك . ولكن ما ان يدخل القارئ إلى تلافيف النص  سرعان ما سوف يدرك أبعاد هذه المفارقة . وواحد من هذه الأبعاد هي اكتشاف القارئ ان (البياتي ) لا يوجه ندائه إلى غزالة واحدة بل إلى اثنتين .   هما " لارا " والأخرى تدعى " خزامى " . هذا على صعيد الشخصيات . بعبارة أوضح ان هناك شخصيتين في النص .. ويبدو ان البياتي منقسم المشاعر والاتجاهات بينهما . أنه إذن في حيرة وصراع .. ومطلوب منه ان يوفق بينهما .. أي فشل في حل إشكالية التوفيق هذه إنما يعني ان البياتي .. لم يستطع العبور من هذه الازمة .. او اجتيازها .. لا اريد ان أصف أو ألج إلى عذابات البياتي في هذا المجال .. أو لا أريد سبق الأحداث .. ولكن هناك مفردات في المقطع الذي توقفنا عنده بجعلنا ان لا ننظر إلى هاتين الشخصيتين على انهما اثنتين .. بل رمزا للصراع الذي يراه البياتي دائرا بين الشرق والغرب . والمفردات التي تجعلنا ان نتبنى هكذا اعتقاد هي :-

1-   العهد الملكي البائد

2-   الاسطول السادس

3-   بنادق حرب التحرير الشعبية

4-   الأرض الحبلى بالثورة

5-   البحر الأسود

 

                                  *********************

 

الشاعر ينادي غزالة حبه .. ما علاقة كل هذه المفردات بهذا النداء ؟؟ . رغم كل هذا فأن البياتي ملاحق من قبل البوليس .. إذ هو لايعيش هم الغربة فقط .. بل يعيش فوق هذا .. هم المطاردة .. الغريب قد لا يكون مطاردا بالضرورة انه فقط شخص غير متكيف أو متوافق مع بيئته . قد يكون الخلل في بنائه النفسي هو .. وليس في بناء الجماعة .. لكن المطاردة تعني ان هذا الغريب هو شخص يرفض خطاب الجماعة .. وبالتالي فهو متمرد عليه .. ورد الفعل إزاء هذا التمرد .. هو سلوك المطاردة .. هذا هو ما ينطبق على حالة البياتي .. يستمر البياتي في وصف وجدانه الذي تشبع بالغربة وما يرافقها من مشاعر وانفعالات .. فيقول :-

-  كنت‘ وحيدا – أبحث في الصحراء الليبية  عن

 مفتاح المدن المنسية في خارطة الدنيا

 
 
 

                                                           ( المرجع السابق ، ص 212 )

                                   ****************

هنا ايضا .. مفارقة  في هذا المقطع .. وطبيعة هذا المفارقة .. هي مكانية .. و لاشك .. فأنها تنتمي إلى عالم اللامعقول .. فقط هي ممكنة على مستوى الحلم .. عن ماذا كان يبحث في الصحراء الليبية ؟؟ . يقول البياتي جوابا على هذا السؤال :-

عن مفتاح المدن المنسية في خارطة الدنيا

 

                                     ***************   

 

لا نريد ان ندخل في دائرة المنسي  ... اعني الظواهر غير المرغوبة من قبل الوعي . ترى مدرسة التحليل النفسي ان النسيان الذي تقوم به إليتي القمع والكبت هي عملية اقصاء وطرد للمشاعر الغير مرغوبة والمخدشة لحياء الوعي لغرض تعزيز احترام الانا لنفسها .هذا موضوع شائك قد يقودنا إلى جوانب نحن في غنى عنها .. وإذا كانت ظاهرة النسيان على هذا النحو من مستوى التعقيد في مجال الأنا .. فأن لهذه الظاهرة البعد عينه على مستوى الجماعة .. .. فالجماعة تنسى كل ما يعكر صفوها وهدوءها بالتهميش والنسيان تارة و بالاقصاء والعزل تارة اخرى .. وهكذا نرى ان دلالة المدن المنسية عند البياتي .. انها  المدن المقصاة أو المهمشة أو المعزولة .. هنا تبرز امامنا إشكالية .. من هي الجماعة التي تقصي تلك المدن ؟؟ نميا إلى الظن أن البياتي يعني ، وعلى وجه التحديد كل المدن التي لا تساير الذي تمجده الامبريالية .. وقد جسد البياتي هذا المعنى .. إنطلاقا من المفردات التي اشرنا اليها .. خصوصا مفردة الاسطول السادس الذي يرمز إلى ما يطلق عليه بعدو الشعوب .. امريكا .. والبياتي عندما كان في الصحراء الليبية فأنه كان يبحث عن رمز هذه الصحراء .. عمر المختار .. الزعيم الشعبي للثورة الليبية . ولا اريد التعليق على الخصائص التي تماهى بها البياتي مع هذا الزعيم .. يبدو ان البياتي تاهى في تلك الصحراء ليعود بذاكرته إلى رمز آخر سوف نرى ملامحه .. ومن هو ذلك الرمز الذي كان يسبح في البحر الأسود .. اعني لارا . يقول البياتي :-

ـ لارا تنشر في الريح   ضفائرها ـ ترقص

في الغابات الوثنية ـ تمضي عائدة للفندق

بعد عناق البحر وفي منتصف الليل

عشيق آخر يتسلل اليها .

 

                                                    ( المصدر السابق ، ص 213 )

                                     **************

ها هي لارا إذن تنشر ضفائرها وفي نشر لارا لضفائرها فإن هذا يعني ان هناك شهوة نرجسية إزاء هذه الضفائر . وبالتالي فأن عملية النشر إنما هي سلوك استعراض من قبل لارا . في السلوك الاستعراضي رغبة لاشعورية ، كما يقول استاذنا الحفني مفي موسوعته ( الاظهارية   exhibitionism  أو حب الظهور أو الاستعرض يحقق الفرد بعض الاشباع الغريزي بعرض نفسه ، ويفوز السوي بمتعة ثانوية بأن يكون محط الانظار ، بينما يفوز المنحرف بمتعة رئيسية تصل إلى حد الإنزال عندما يلفت الأنظار اليه . ويظهر التعري أو الأظهار الطفولي للعودة فيما بعد في شكل انحراف هدفه إثارة الدوافع الجنسية .. ومن هنا كانت الطبيعة النكوصية للإظهارية ، الراجعة للشعور بالعجز الجنسي  ،الذي  يؤدي إلى الحاجة إلى تأكيد أن القضيب penis قادر وفعال .. (3) . نعم هناك رغبة لإظهار جمالية الأنا وعلى وجه التحديد جمالية القضيب . هكذا ترى مدرسة التحليل النفسي .. وعلى الرغم من شذوذية هذا السلوك ، فان السوي يستمتع بصوة او باخرى بهذا السلوك . لا نريد أن نحصر البياتي في هذا المعنى .. أعني في معنى الاستعراض .. على الرغم من ان البياتي نفسه وفي بعض المقاطع اللاحقة يجبرنا على مثل هذا الإجراء .. ومع ذلك فسنحاول ان نبرأ البياتي من هذا المعنى بتأويل نشر الضفائر الجميلة بشر مفردات الخطاب . الخطاب المولود حديثا يمارس فعل الاستعرض لجمالية مفرداته . فهو إذن إغرائي مثلما يفعل الاستعراضي بغري الآخر بجمالية أناه عن طريق التفاخر بقضيبه !!! . وما يعزز هذا التأويل هو ان لارا تنشر ضفائرها في الريح .. الريح ..  كما ارى ، هنا رمز لعالمية الخطاب  وضرورة شموليته . مثلما هي رمزية الغابات الوثنية التي تعيش في ظلام الفوضى الدامس .. والخطاب هو النور لذلك الخطاب .. هذا التأول هو محض تأويل من عندياتنا .. و لا استطيع ان افرضه على النص بالشكل الذي يوحي للمتلقي بإن هناك لوي لعنق النص . لارا  التي استحوذت على قلب البياتي تظهر قي بقية النص أو هكذا يصورها لنا البياتي .. واحدة من بنات الليل !! ويبدو لنا ان البياتي هو الآخر قد اصبح ضحية لها . لنصغي إلى ما يقوله البياتي في هذا المجال :-

عشيق آخر ينسل إليا

و‘يعريها

ويقبل عينيها

ويقبل نهديها

ويقول لها نفس الكلمات

                          ( احبك ِ )

                                     لارا ـ هي والاخر

كانت تبكي ، فالبحر سيأخذ منها الاخر

كانت تبكي ، ويدي تمتد إليها ويد الآخر

وفمي في فمها وفم الآخر

ودمي ودم الآخر

وحياتي وحياة الآخر

 

                                        ( المصدر السابق ، ص 213- 214 )

                              ****************

 

من المفروض ، في حالة لارا ، على وجه التحديد ، ان تكون سعيدة ويملأ صدرها السرور ، لأن لها ضفائر جميلة تنشرها عبر الريح .. علاوة على رقصها .. ولا نريد ان ندخل في تفاصيل سايكولوجية الشخص الاستعراضي .. هذه مسألة لها شأن آخر . وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تبكي لارا إذن ؟؟ . هل هو علامة من علامات الندم والشعور بالذنب ؟؟ هذا الشعور الذي نفترضه عند بنات الليل بعد كل ليلة يقضينها مع احدهم . هل هو علامة التمزق والحيرة والتذبذب ما بين عشيقها وبين البياتي . ؟؟ ذلك العشيق الذي يشاطره البياتي جسد لارا وعبر تظاريسه الجميلة ؟؟ . أهو ضياع تعيشه لارا ، لأنها قد وجدت في البياتي ارضا لزرع زهورها فيها ولم تجد مثل تلك الأرض في جسد ذلك الآخر ؟ المشهد جنسي برمته . لا اريد ان أقارن بين البياتي ونزار أو أدونيس مثلا (4) . مواجهة إشكالية الجنس والتعبير عنه هي قضية مقترنة بقدرات الإنسان الأسلوبية وجمالية مخيلته . وعند هذه النقطة يستطيع الدارس ان يقارن بين اشكال التعبير للفعل الجنسي وجماليتها بين هذا الشاعر أو ذاك . البياتي هنا يتعامل مع لارا كموضوع جنسي صرف ، بعدما كانت تشكل له ، هذا فيما إذا كانت لارا امرأة تعيش على ارض الواقع ، رمزا لخطاب براق ولحضارة يرنو إلى العيش في غاباتها . الصورة مختلفة تماما هنا . لارا لها عينين ونهدين و... و .. و.. . لارا قد تكون شقراء وقد تسكن عند ضفاف البحر الأسود .. يبدو أننا أوغلنا كثيرا في التأويل .. والبياتي يبين لنا سبب بكاء لارا . أنه كما يقول :-

 

كانت تبكي ، فالبحر سيأخذ منها الآخر

 

                                                **************

 

لارا إذن ممزقة .. مشتتة .. منقسمة في الأتجاهات .. كانت تعشق هذا الآخر . الآخر هنا هو الند للبياتي . الند بكل ابعاده المحتملة . على الرغم من الصورة الجنسية الصارخة للمشهد .. فان المشهد يمكن ان يدخل في غطار غير اخلاقي . امرأة بين رجلين . هذا هو ما يقودنا اليه النص . لا ادري هل انتبه البياتي إلى ذلك . ؟؟؟ . هكذا ينتهي المقطع الأول .. وسوف يكرر البياتي ما قد بدأه من عبارات ( ص 214 ) . البياتي يترك لارا وهي تبكي من حيرتها بينه وبين الآخر .

في المقطع الثاني والثالث ينقلنا البياتي إلى احزان الشاعر الغريب . اعني عن احزانه .. وهو وصف مباشر يستطيع الدرس تلمس ابعاده بسهولة . لا ضير من المرور بهذين المقطعين مرورا سريعا لاغير حتى نتتبع مسار احزانه بصورة أكثر وضوح . يقول في هذا المقطع :-

 

يحمل العاشق  في غربته

موته ، تاريخه ، عنوانه

وعذابا كامنا في دمه

وحضورا ابديا كأنه (5)

 

                                     ( المرجع السابق ، 215 )

                            

                            ****************

وفي المقطع الثالث يقول البياتي :-

 

يتفرق الاحباب قبل صياح ديك الفجر

في المدن الكبيرة : يرحلون ويتركون

ما تترك العربات فوق الثلج : ها هي ذي السماء

زرقاء من بعد الرحيل

والشمس تشرق من جديد فوق أشجار الحدائق والبيوت

 

                                                                ( المرجع السابق ، ص6 21 )

 

                                *******************

 

إذن هذين المقطعين هما سرد لإحزان البياتي ولوعته في منفى هذا العالم . وفي خظم هذه الأحزان واللوعات .. تتقيأ ذاكرة البياتي بمنسياته ومتروكاته .. وإذا كان هم البياتي في المقاطع السابقة هو لارا ، وقد تركها وحيدة تبكي ، فهو هنا ، في المقطع الرابع يقارنها بالشخصية التي تركه ترنو وتصلي في ضوء بنادق حرب التحرير الشعبية للأرض الحبلى  بالثورة .. نعم يقارنه بلارا .. لارا وخزامى هما الآن رفيقت لدرب واحد .. وكأني بلارا قد عذبتها وخزات الضمير .. ذلك لأنها كانت في أحضان الآخر .. ولم تقبل البياتي .  وهل كانت تبكي لو كانت في احضان البياتي فقط ؟؟؟؟ .   نعم شاطرته بعضا من احزانه .. ولكنه تركته يرحل .. إذن لارا وخزامى اصبحتا تحت راية خطاب واحد .. راية الاحتجاج والتمرد والثورة ... لنرى كيف يصف لنا البياتي ذلك ... وهذا هو محور المقطع الرابع .. يقول البياتي :-

 

لارا   و   خزامى

في صحراء الليل الوثنية اشعلتا النار

                                                      ( المرجع السابق ، ص 217 )

 

                                 *****************

لا اريد ، هنا ، ان اتتبع أو أسلط الضوء على رمزية النار ودلالته في شعر عبدالوهاب البياتي بشكل عام  ، ولكن اشعال النار هنا ، اعني في هذا المقطع ، أعني في صحراء الليل الوثنية هو رمز للخبر السار الذي يحمله البياتي في جوانحه .. والذي يبشر به العالم .. وهذا الخبر هو مسار الحتمية التاريخية .. اعني انتصار البروليتاريا واعلان دكتاتوريتها على مجرى حركة التاريخ .. في المقطع الخامس ، وهو مقطع طويل نسبيا .. يعيش البياتي حالة اللاأمل .. أو اللاجدوى .. بل وحتى الضياع ..  نعم انه ادرك انه يعيش في دوامة أو في دائرة مغلقة ... وفي المقطع استغراق في مفردات لا علاقة لخطاب البياتي الاساسي بها .. مفردات لا تمت  إلى عالم الواقع بصلة .. بل هي غيبية وخيالية .. ونميل إلى الظن إلى ان هذا اللجوء إنما يأتي من فشل البياتي في إقناع نفسه .. الآخرين معه .. بمصداقية مفردات خطابه .. لارا في هذا المقطع لا تبدو أنثى ، قد مارس البياتي الجنس معها .. قبل َ عينيها ونهديها و........ !!! . لارا تظهر في هذا المقطع رمزا .. لا أدري في أي خانة أدرجه .. رمز متشابك الابعاد والمعاني .. وقد لخصه البياتي أو حصره بعبارته " موسيقى الأشعار " يقول البياتي في هذا المقطع :-

 

" لارا "  رحلت بعد رحيلي

ضاعت في زحمة هذا العالم

في غابات البحر الأسود والأورال

عادت للأرض المسحورة تذرعها

في قداس رحيل الأمطار

 

و" خزامى "  نذرت  للبحر ضفائرها

ولنجم الميلاد

 

                                                     ( المصدر السابق ، ص 218-219 )

البياتي هنا .. يعيش أزمة .. تتجلى هذه الأزمة .. بتصوره ان العالم فوضوي .. ويمضي إلى حيث المجهول .. لارا التي سكن إليها ولامس جسدها .. وداعب ما داعب !!! . وقبلَ ما قبل ْ ... لارا الرمز .. ضاعت  في زحمة هذا العالم .. تعيبر " زحمة العالم " إشارة إلى فوضويته وعبثيه ... عودة لارا إلى أرضها المسحورة قد تكون إشارة إلى عدم قناعتها بزحمة هذا العالم .. وايضا عبارة " في قداس رحيل الأمطار " يعني اليأس من هذا العالم .. العالم بهذا  المعنى اصبح ارضا جدباء...  مقفرة .. عطشى ... متشققة من ذلك العطش .. لارا إذن انسحبت وإلى الأبد .. البياتي حزين على لارا .. وفي غمرة هذا الحزن ... هناك بصيص من الأمل .. يلوح في افق البياتي .. هذا الأمل هو ظهور "خزامى " بعد صمت طويل .. خزامى .. كانت منشغلة هي الآخرى بهموم التحرير والمقاومة .. وها هي الآن تنذر ضفائرها للبحر ولنجم الميلاد .. لارا ضاعت في زحمة العالم وخزامى لازالت تنتظر نجم الميلاد .. هذا يعني ان هناك امل تترقبه خزامى . ولكن ماذا عن البياتي ؟؟؟ . لم نكن نتجنى على البياتي عندما قلنا انه فشل في إقناع الآخر بل وحتى نفسه ايضا بمصداقية خطابه .. هذا إذا كان للبياتي ثمة خطاب يتكأ عليه !! . نعم لم نتجنى عليه ... ولنسمع ما يقوله عن حاله هو عندما ضاعت لارا في زحمة هذا العالم :-

 

وأنا حطمت‘ حياتي

في كل منافي العالم

بحثا عن لارا وخزامى

وعبدت‘ النار

مارست‘ السحر الأسود في مدن ماتت

قبل التاريخ وقبل الطوفان

واستبدلت‘ قناعي بقناع الشيطان

 

                                                   ( المرجع السابق ، ص 219)

 

                               ***************

لا اردري كيف وصل البياتي إلى هذه النتيجة ؟ وهل هي النتيجة النهائية لحياته ؟ هل هذه القصيدة هي آخر ما كتبه البياتي ؟ الضياع هو المحصلة النهائية لأوجاع البياتي في منافيه . البياتي محطم إذن .. منكسر .. منهار .. ما اشقاك يا رجل !! . البياتي ضاع منه الخيط والعصفور .. كما يقال .. خسر لارا لأنها كانت تنتمي إلى خطاب آخر كان مثار اعجابه .. وترك خزامى تعيش همومها وانشغالاتها .. وهاهو الان ضائع .. يضرب كفا بكف على ما آلت إليه الأحوال .. اعني أحوال حياته .. البياتي يغرق في عمق الغموض ... في هذا المقطع .. وينقلنا ، كما قلنا ، إلى عالم غير العالم الذي من اجله ذاق عذابات المنفى والمطاردة .. فهو ، علاوة على ممارسته للسحر الأسود  ، فأنه ترك قناعه البشري وراح يلبس قناع الشيطان .. ونعتقد ان في عملية اللبس هذه رغبة في الانتقام للارا من البشر . وقناع الشيطان هذا جعل من البياتي ان يسترجع صورته عن لارا  وخزامى ،  فتبدوان بمظهر آخر . لنرى كيف رأى البياتي هاتين الفتاتين أو هذين الرمزين :-

 

ظهرت لي لارا وخزامى في موسيقى الأشعار

في حرف السين وحرف الهاء وحرف التاء

      

 

                                    ******************

الا نجد هنا اُثارا واضحة لكتاب ( الطواسين ) للحلاج . ولاسيما في تجلي الحروف . حتى لا نغرق في التأويل .. ، سوف أترك مسألة التأويل إلى البياتي نفسه  . في المقطع السادس والأخير من القصيد .. يصل البياتي إلى اقصى حالة من حالات النرجسية ، وذلك عندما يقرن رحيله برحيل الأشياء . هذا يعني أن الأنا عند البياتي ، هنا ، أصبحت ليس فقط محور الوجود بل علة لهذا الوجود ايضا . يقول البياتي :-

 

برحيلي رحلت كل الأشياء

 

                                               ( المرجع السابق، ص 220 )

 

                               *********************

 

هل حقا رحلت كل الأشياء عندما رحل البياتي وإلى الأبد ؟ لا  فالأشياء لم ترحل عندما رحل البياتي  . رحل هو وبقيت الأشياء كما هي . ولذلك طوبى للذي يبقى إلى الأبد .. إلى الأبد ..!!!!! .

 
 

الهوامش :-

* البياتي ، عبد الوهاب ، الديوان ، المجلد الثالث ، دار العودة ، بيروت ، لبنان .

1- طرابيشي ، جورج ،  1978 ، شرق وغرب .. رجولة وانوثة ، دار الطليعة ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 5-17 .

2- بهنام ، شوقي يوسف بهنام ، 2007 ، أدونيس وعذابات الأنتماء ، الندوة العربية للشعر ، تحرير سيد جودة ، موقع على الانترنيت .

3- د. الحفني ، عبد المنعم ، 1987 ، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي ، دار العودة ، بيروت ، لبنان ، ج1 ، ص ، 287 .

4- بهنام ، شوقي يوسف ، مدينة أدونيس ، نفس السنة ونفس الموقع .

5-      وجدنا  المفردة هكذا في الديوان .

 

 

 

 

                                                    ( المرجع السابق ، ص 219-220)

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا