قصيدة " الغزالة المسحورة " لأدونيس مكونة من مقطعين . وتأتي مفردة الغزالة
المسحورة في نهاية المقطع الثاني ولنبدأ بالمقطع الأول الذي يحمل عنوان "
السنبلة " . ولا أريد ان يمل القارئ من الرجوع إلى رمزية المفردات التي
يستخدمها أدونيس لأنني اعتقد ان هذا الشاعر لا يكتب النص جزافا ، بحجة المعنى
في قلب الشاعر .. فالمفردة المستخدمة من قبل أدونيس تعني له هما ينبغي اكتشاف
أبعاده . ولا أريد ان أتكلم عن الرمز ببعده الإنساني العام بل من منظور التصور
الإسلامي على وجه الخصوص ، على اعتبار ، هكذا افترض ، ان أدونيس ينطلق منه لأنه
منتمي إليه أولا وأخيرا . لنبدأ إذن بالمقطع الأول الذي يحمل عنوان السنبلة .
يقول الشاعر فيه :-
بين وجه الشريد وأيامه ِ ، وقفت سنبلة
جرسا يفتح الشبابيك والمدن المقفلة
في مدار الينابيع في شهوة الغبار
ورأيت ’ العصافير تبني ، وكان المطر
في طريق البراعم والعشب ، كان الشجر
سفنا ً تحمل المدائن أو تأخذ القمر
( الآثار الكاملة ، مجلد 2 ، ص 567-568 )
من حقنا ان نقول من هو الشريد الذي وقفت السنبلة بين وجهه وأيامه ِ ؟؟ . نعم
انها استوقفته واعترضت طريقه . ولكن هل للشريد وجهة ً ما يتجه إليها ؟؟ ! .
نعتقد ان المعني هنا هو أدونيس نفسه . أو صورة لإنسان يبحث عن معنى ولنرى ما
الذي ترمز إليه السنبلة ؟؟ ولنعود إلى شبل ومعجمه لكي نرى ما الذي ترمز إليه
هذه النبتة في منظور الحضارة الإسلامية . يقول شبل " القمح اشرف الزر وع .
تقدسه البلدان العربية – الإسلامية . يرمز إلى العيش والتجديد وإلى الأدوار
الكونية للأرض الأم المخصبة والكريمة " ( 1 ) ذلك إذن رمز سنبلة القمح . ونعتقد
ان أدونيس كان موفقا كل التوفيق في توظيف رمزيتها ، خصوصا إذا تتبعنا سياق النص
،أعني سياق المقطع الأول . ولكن ما معنى وقوفها ، اعني السنبلة ، بين وجه
الشريد وأيامه ؟ لقد عانى الشريد أعواما وهو يجوب الحقول والبراري والغابات ..
ولم يجد ما يسند عليه رأسه .. ونعتقد ان الشريد كان يتأمل وجهه المتعب .. إلى
قسماته .. إلى خطوط جبينه العريضة . الا يقال أن حظ الإنسان وقدره منقوش في هذه
الخطوط . ذهب إلى النهر .. كما فعل من قبل نرسيس . ورأى جمال صورته البهية فهان
بها وعشقها . فعاقبته الآلهة ، فتحول إلى زهرة النرجس .. لكن شريدنا ، ماذا وجد
في وجهه ؟؟ . أنه لم يجد سوى الألم والعذاب والخوف من المجهول .... ان أيام
الشريد إذن كلها هكذا عذاب وألم وخوف ..... . ولكن الأمل أبرق على حين غرة في
مسار هذه الأيام .. وهذا اليوم على وجه التحديد . اعني يوم وقفت
السنبلة بين وجهه وأيامه .. فكان الانقلاب في رؤى الشريد للعالم .. وأصبح
ينظر إليه بمنظار السنبلة . وعلى ضوء هذا نستطيع أن نقرأ بقية المقطع بكامله
... لقد رأت السنبلة النهار . كانت من قبل في ظلمة حالكة .. وها هي ترى ضوء
النهار . لقد رأت الشبابيك مفتوحة على رنين جرس أيقظ المدن المقفلة . وهكذا مع
مدار الينابيع وبناء العصافير والمطر الذي يجرف الجليد وهكذا إلى نهاية المقطع
. نستطيع القول ؛ ان الشريد وجد ضالته . هو لم يرى السنبلة .. هو تقمص السنبلة
..تماهى معها تخيل نفسه أنه هي بل هو آمن بذلك . لا .. لا .. هو السنبلة ..
والذي جرى للعالم كان بسبب تأثيره .. بل بقوته .. بل بسحره .. أنه ساحر . وهذا
ما سوف يقوله لنا أدونيس في مقطع الساحر . يقول أدونيس :-
يولد الكون مربوطا بقرنَيْ غزالة مسحورة
غصن يزهر بين المسمار والمسمار
انا تاريخ ذلك الغصن الآتي
انا تاريخ ذلك الغصن السائح
واسترجع َ سحرا ً يضيئه ’ ، وأضاعه
( نفس المصدر نفسه ، 568-569 )
إذا كان أدونيس ، في مقطع السنبلة ، قد قدم لنا صورة عن تاريخ
الشريد ، تاريخه هو إذا شئنا الدقة ، ولذي كان تاريخ غارقا في التيه .وفجأة
تفجرت طاقاته الكامنة وغيرت الأشياء وفاضت ينابيعه وروت صحراء العالم الجرداء
.. فتحولت إلى واحة .. إلى ارض تفيض لبنا وعسلا !! . وها هو في هذا المقطع يغوص
في بدايات الزمن . ولكن يبدو، لنا ، ان أدونيس غير متأكد من اللحظة التي بها
وجِدَ وربط َ حبه بقرني غزالة !! .وعدم التأكد يتجلى في عبارته " قبل’ أو بعد "
. ولا ندري لماذا هذه اللامعرفة واللايقين . نعتقد ان هذه العبارة التي تتبعها
فاصلة يمكن ان تثير إشكالية وجود أدونيس !! . فإذا كان موجودا قبل ولادة الكون
فهو إذن .... !!!! . أما إذا كان قد وجدَ بعد ولادة الكون فهو أيضا بكر الخليقة
!!! . وفي الحالتين أدونيس إذن لا ينمي إلى جنسنا !!! . أدونيس قلبَ أسطورة
بدايات الكون .. اعني كونه محمولا على قرني حيوان . ووفق المثيولوجيا العربية
هذا الحيوان هو الثور . يقول شبل في معجمه عن رمزية الثور " يرمز الثور إلى
القوى العاتية " يعتبر شرب دماء الثور " علاجا لجميع مشاكل الجسم الوظيفية
وللإحساس بالضعف . إن الثور ، على غرار العملاق أطلس في الميثولوجيا اليونانية
ـ الرومانية هو الذي يحمل كوكب الأرض على قرنيه . وتزعم الأسطورة أنه إذا
اضطربت الأرض كل عام ( أو قرن ) فذاك لأن الثور أراد ان ينقل الكرة الأرضية من
قرن إلى قرن .. ( 2 ) . وأدونيس لا يذكر أو لا يشير إلى هذه الأسطورة .. بل
بدلَ الثور بالغزالة . وسنقف عند رمزية الغزالة لا حقا . ولكن لماذا هذا
التبديل ؟ هل يضع أدونيس ي حساباته أن الغزالة هي رمز المرأة . وهذا ما يذكره
شبل في معجمه ، حيث يقول " هي أكثر ما يستعمل من الاستعارات لوصف المرأة في
الفلكلور العربي الشفهي وخاصة في الغناء الشعبي " ( 3 ) . أما مفردة القرن
qarn
فيعرفها شبل على انها " رمز القدرة والقوة
. يتسلح به الثيران والتيوس والأيائل وكل الحيوانات التي ، بالنسبة على بنات
جنسها ، تمسك بالسلطة وتوحي بالاحترام .. ان الطلسم المصنوع على شكل قرن يعتبر
فعالا في ردع العين الشريرة " ( 4 ) . نميل إلى الظن أن أدونيس لا يخرج في نصه
هذا من دائرة هذه التصورات . المهم في الأمر هو ان أدونيس عندما وجدَ الكون ،
كان هناك معه ... . أنه يذكر صراحة ، أنه كان هناك غصن . وهذا ما يذكرنا بالغصن
الذي جلبته حمامة نوح . وهذا النبي يتمتع بشهرة عظيمة عند المسلمين لأنه كان
الصالح الوحيد الذي نجا من الطوفان ، يرمز نوح إلى نجاة الكون المادي بعد
الطوفان . هذا ما يذكره شبل في معجمه . ( 5 ) . أدونيس يؤكد لنا أنه كان تاريخ
ذلك الغصن السائح مع حمامة نوح الذي وصل إلى اليابسة . عندها عرف نوح أن
الطوفان قد انتهى . في هذا المقطع أيضا يرى أدونيس نفسه وقد سار وجهه في قبة
الموت بين وجوه غريبة .. في غابة الرؤى والمجاعة ... قلنا أن أدونيس بدل الثور
بالغزالة ، فهل هذا التبديل يعود إلى اعتقاد أدونيس بالفكرة التي كانت سائدة
عند الإنسان الشرق أوسطي بأن المرأة هي واهبة الحياة وليس الرجل ؟؟ .
انطلاقا من الغزالة ، كما يقول شبل ترمز إلى المرأة إلى درجة
اعتبرها سر الأسرار إن لم تكن السر الأعظم ؟؟؟ . يقول أدونيس :-
فدعوت’ الجمرَ الصديق وبخرّنا
وحملت العشب الرّضيع َ كأهدابي
لحِبّيَ مربوطا بقرنَيْ غزالة ٍ مسحورة .
بعدما استرجع أدونيس سحره وأضاعه مرة أخرى دعا صديقه الجمر وبخرّ مداه وموجه
وشراعه ....... هنا يكشف لنا أدونيس خاصية أخرى من خواصه إلا وهي أنه ساحر
ويستطيع أن يتجول في أعماق الأشياء .. في أغوار الزمن .. يذهب ويعود ويسافر في
حنين الرّضاعة . نعتقد أن هنا رغبة عميقة في التعلق بالثدي .. قد يكون
ثدي الأم أو ثدي ............... !! . أيضا هنا رغبة مازوخية لعقاب الذات تعبر
عنها عبارته " لدمي جارحا " . يعود إلى حبه المربوط
بقرني غزالة مسحورة . نميل إلى الاعتقاد إلى ان أدونيس يوظف قرني الغزالة رمزيا
للتعبير عن الثديين . لا معنى ، في نظرنا ، للتعلق بقرني غزالة لو لم تكن
الغزالة هي المرأة التي في ذهن أدونيس ـ أيا كانت تلك المرأة ـ وقرنيها يرمزان
إلى ثدييها . الثدي هو الجزء البارز إلى الأمام من جسم المرأة . كذلك قرني
الغزالة هما الجزءان البارزان أمام رأسها ... ذلك إذن هو سحر الغزالة ، كما
يبدو لنا ، الذي سيطر على أدونيس . الغزالة بقرنيها تحمل العالم وبثدييها ينمو
من في العالم أليست إذن هي السر الأعظم ؟؟؟؟؟؟؟ .
1-
شبل ، مالك ، 2000 ، معجم الرموز الإسلامية ، ترجمة : أنطوان الهاشم ، دار
الجيل ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 144 .
2-
شبل ، نفس المرجع ، ص 68 .
3-
مالك ، نفس المرجع ، ص 234 .
4-
مالك ، نفس المرجع ، ص 254- 255 .
5-
مالك ، نفس المرجع ، ص 334 .