ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

قراءة في مجموعة "الطرف الآخر من العتمة" لهويدا عطا

شاعرة العتمة كي تضيء، وتشرق كشمسٍ في قصيدتها الخائفة

سامح كعوش / فلسطين

 

تقف الشاعرة هويدا عطا في "الطرف الآخر من العتمة" لا كعنوانٍ لمجموعتها الشعرية فحسب، بل كحقيقة واقع لا يقبل إلا بالصدمة، وبلغةٍ لا تهادن ولا تصالح، فطرفها الآخر لا يتحقق كرجلٍ يكمل نصفها الآخر في السرد الشاعري الدافئ، إلا بمقدار ما يسعفه به المتخيل الافتراضي في خلفياتٍ لونيةٍ معتمةٍ قابلةٍ للاحتمال ونقيضه معاً، كما لاحتمالات العتمة والضوء، الحياة والموت، الفرح والحزن.

هويدا عطا تكتب جدلية العلاقة بين الرجل العتمة، والأنثى الضوء، بينها وبين الرجل، على شكل ثنائية ضدية لا تتنازل عن مفرداتها الحادة في التعبير عن جرحها المفتوح، وألمها الأزلي منذ كانت ضلعه الضعيف، إلى أن صارت جثةً في القبر يشيّعها ناظراً في الساعة خوف التأخر عن صديقٍ ينتظره، وهي تستفزه على الحضور، لا كما تعوّدت تصويره إناث الكتابة العربية منذ تعلّمن فنّ القول، حتى آخر الدهر من استحضار أنثوي لصورة رجلٍ حلمٍ يأتي ممتطياً حصانه الأبيض، شاهراً حبّه بسطوة جنرالٍ أو دهاء مرابٍ. بل هي تسترق النظر إليه في خصوصياته المحرجة التي لا يريد لها أن تراها، فتكشفه بها. كأن تسمّيه عفريتاً للحظات خلوتها، ولا ثالث لهما، أو رجلاً مجنوناً يستلذ عذابها فيرفعها من دليله العاطفي حين تخونه المواعيد، وهو الرجل الترابي الذي يحفر قبرها، مستعجلاً كتابة الخاتمة لقصتهما معاً، وهي تلعن ساعة حضوره في حياتها دمعاً وقمعاً، فهو الحديد في قدميها تارةً، وهو الذي تقول في خطابها له:

" يا من أسميتني الحبيبة

وأسكنتني قصور الأميرات

يا من قطفتَ ثماري الأولى

وخبّأتها في أرضٍ نائيةٍ

ها أنتَ

أيها البعيد

تبدل كلّ هذا الهواء بالدموع".

ولأنّ مساحة الكتابة الشعرية عند هويدا عطا هي الهواء، واتساع الفضاء للتحليق بالمخيلة إلى أعلى ما يصله القلب من فرح، تقف على الطرف الآخر من العتمة مضيئةً كمنارة انتظار، تستسقي السماء مطر القوافل، وتنشد لتموز حكاية إنانا، عروس الحصاد، وهما في القصيدة شكلان كتابيان لا تتشابه حروفهما ولا يلتقيان، كأنها تحتال عليه بالمفردة المرّة لتشير إليه بالذنب، فهي "القبر (كم وردةً تشاركني قبري؟)، التابوت (كم زهرةً على تابوتي؟)، الكفن، الحزن، الميتة، العتمة (زهرةٌ، تابوتٌ، كفنٌ/ أنا الميتة الوحيدة/ ملقاة بحزنٍ على الطرف الآخر من العتمة)، النهاية (غداً ينتهي لقائي بكم)، الموت (ترى لماذا اكتفت قارئة الفنجان/ بالنظر إلى الجدار/ وأعطت تفاصيلي إلى الموت؟)، أو كأنها تراه في خط الرمل أو اليد، بعين عرّافةٍ ترى الغيب فتنكره، وتغيب مع خط النهاية حتى نهاياته، تقول:

"قالت العرّافة :"افتحي كفّكِ"

وقرأتْ دونَ صوتٍ

ذهبتْ في صمتها ولم تعدْ

كأنما سقطتْ في بئرٍ قديمةٍ

هكذا ...

خطّ الموت في كفّي نبوءةٌ واضحةٌ".

ولأنها تراه بهذا الوضوح، وهذه السوداوية، تقيم مأتم الحزن قبل لقائها به، وتخاف ضرب المواعيد هكذا، "فالحياة تتآكل"، والعمر قطار يتردد في النص كثيراً، في ارتحال مقصود نحو الخاتمة المطلقة، التي تتحقق بعدها أمنية أن تعود الشاعرة مراهقةً تصدّق الوعود الكبيرة، وتجري حافيةً وراء وردةٍ، أو بطاقةٍ، كطائر هدهد ملوّنٍ بغبطة الصبية عروس النيل، قاتلة الوقت بانتظارات الأمنية، واقتراح الفرح للحزانى الذين تمرّ قلوبهم باكيةً، أمام شرفة البيت.

تقيم هويدا عطا عالماً شعرياً وعاطفياً موازياً للوردة، في ربيع اللغة المفعم بعطر لحظة تتسلل من بين يديها كذكرى، ولا تعود ثانيةً، لأنها وقعت في التاريخ. واللحظة ذاتها تكتب لحظة الشعر عندها، حين تهرع في قلبها إلى قريةٍ بعيدةٍ على النهر، هاربةً من ضجيج المدينة، وصخب الشوارع التي تتبع خطاها إلى اللا جدوى، والعبثية السوداء، كأنها جبلٌ من الرمل، يملأ فمها بالغبار، في استعادةٍ أنثوية خائفة لمشهد الوأد المتأصل في ذاكرة بنات الشرق العربيات، أو هي استحضار لمشهد وأد يوميٍّ ومستقبليٍّ لحلم أنثى لها ذنوبها الصغيرة التي اقترفتها بلا حذر، ولها حسّ الشاعر الرؤيوي الذي يرى في الجسر شكل عمادة دينية، وعلامةً أسطوريةً وسحريةً تقيم فاصلةً بين عالمين، والعبور مطهر العابرين، تقول:

"أفكّر في ذنوبي الصغيرة

تلك التي اقترفتها بلا حذرٍ

وأنا أعبر الجسر الترابي".

وهويدا عطا، لا تبكي كما تبكي النساء فراق حبيبٍ مضى، بل هي تبكي كالنهر، وتهدر كالبحر، لتتسع فتفيض بالنعاس الثقيل بين المد والجزر، كأغنية البحارة في البعيد الشاسع، ساعة يقتنص لحظتها الرجل، صياد الحكايات البائس، الذي يخاف سرده المتردد بين "أحبكِ" و"أخاف"، وبينهما اشتداد حالات نفسية شتى تدفع بالشاعرة إلى الهرب من فكرة عودتها إليه، ولو عابرةً في مخيلةٍ ترسم كذبة السندريللا والفارس في الحفلة الراقصة، تقول:

"انتظرني

أكتب أحلامكَ على ورقٍ باهتٍ

إستسلمْ للقلق والسؤال

لن أعودَ".

شاعرة العتمة كي تضيء، وتشرق كشمسٍ في قصيدتها الخائفة المرتجفة، وشاعرة الموت، كي تحيا قلوب النسوة المتخمةِ بالجراح، والمثقلة بالهم، وشاعرة النعش كي تستريح الجثة، من التواريخ القديمة المفتوحة على البكاء، التواريخ المغطاة بالتراب، تقتفي أثر خطى الموت في الرمل، ووجهه يطل مبتهجاً في وجوه زائريه.

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا