ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

حمزة قناوي - مصرمجموعة "قصائد إلى أمان" لحمزة قناوي

في هجاء الشيطان الحميم.. أو قراءة في تجربة حب مستحيل

سعيد جاب الخير - الجزائر

 

تجربة عنيفة بأتم وأقصى ما في هذه الكلمة من معنى، تلك التي عاشها الشاعر حمزة قناوي وحاول تجسيدها من خلال مجموعته الأخيرة وقد تكون أيضا آخر ما يكتب "قصائد إلى أمان" التي كتبها خلال عبوره المكوكي والجهنمي في آن، بين الشارقة والقاهرة والصعيد المصري ودمشق والحدود السورية التركية، حيث صرح في آخر "المجموعة" : "اعتزل الشاعر الكتابة إثر انتهائه من هذا الديوان وقرر إنهاء رحلته مع الشعر".

عندما ندرس مفردات السيرة الذاتية لهذا الشاعر الشاب الذي ما يزال في مقتبل العمر، محاولين سبر أغوارها واستشفاف ما تخفيه من آمال وآلام، نجاحات وعثرات وانكسارات، قد نشاطر الشاعر تصوره بأن الأقدار وقفت دائما ضده وما تزال تقف ضده كأنما مع سبق الإصرار والترصد.

عثرات السياسة وانكساراتها لها طعم خاص بالنسبة للذين خاضوا التجربة السياسية، لكن انكسارات الحياة الخاصة لها طعم مختلف تماما، عندما نخفق في بعض مشاريعنا الدراسية أو العلمية أو الاقتصادية. كل ما سبق في كفة، وخيبات الحب في كفة أخرى، خاصة عندما يكون هذا الحب عنيفا حد الجنون أو مجنونا حد العنف، مثلما هو الحب الصوفي الذي لا يكاد أحد يصدقه.

أصعب الأشياء في الحياة، كما يقول المثل الصيني، ثلاثة : أن تحاول النوم فلا تستطيع منه، وأن تحب من لا يحبك، وأن تنتظر من لا يأتي. من أصعب الأشياء على نفس الإنسان أن يحب من لا يبادله الحب لسبب أو لآخر. وتتضاعف صعوبة وعنف الموقف، عندما تكون أنت محبا ويظهر لك الطرف الآخر أنه يبادلك الحب، لكنه في الواقع ينافقك لحاجة في نفسه سرعان ما تتبدى في ظرف مفاجئ. الحب من الطرف الأول هو دفتر الشيكات، ومن الطرف الثاني هو الحساب البنكي، ومن أخطر الأمور في العلاقات العاطفية، أن يكتب الطرف الأول في الشيك أكثر مما يوجد لدى الطرف الثاني من الرصيد في الحساب، وإلا فإن العلاقة العاطفية تفقد توازنها وتصبح إشكالية وقد تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه على الطرفين وخاصة الطرف الصادق أو الأصدق أو الأكثر حساسية منهما.

أتصور أن هذه المقدمة تلخص الملابسات التي أفرزت نصوص مجموعة "قصائد إلى أمان" التي تحاول أن تجسد ما تبقى أو ما ترسب من علاقة عاطفية لم يكتب لها أن تصل إلى منتهاها أو أن تنطلق في مسارها الطبيعي.

كلمة في "كلمة أولى" :

في المدخل الذي كتبه للمجموعة بعنوان "كلمة أولى"، يرى الشاعر نفسه واقفا وحده في مهب الريح بل في عين العاصفة لكنه لا يعتبر أن ما حدث هو نهاية العالم، بل إنه مجرد مرحلة في الحياة : "وللشاعر أن يمضي إلى قدر آخر، قدر حدوده سماء ومدى وانعتاق" ص 02.

الحياة ليست خيرا كلها وليست شرا كلها. كما أن الخير ليس خيرا في المطلق ولا يكون خيرا أو لا تثبت خيريته إلا إذا رافقه بعض الشر. والشر أيضا ليس شرا في المطلق ولا بد أن يختزن شيئا من الخير ولو في بعض مفرداته : "مسارات الحياة قد تتقاطع فيلتقي النور والظلمة" ص 02.

يستشهد الشاعر بسالومي "عاهرة أرمينيا التي قتلت يوحنا المعمدان" وهو سيدنا يحيى بن زكريا عليهما السلام، الذي كانت نبوته مقدمة وبشارة بقدوم السيد المسيح عليه السلام. الشاعر يقارن بين غريمته وبين سالومي، ولا أتصور أنه من الممكن مقارنة سالومي ابنة هيروديا بأية "عاهرة" أخرى من بائعات الهوى، لأنني أزعم أن سالومي لم تكن بائهة هوى من النوع العادي. سالومي مثل إستير كانت تحمل "قضية" بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع قضيتها. وإذا كانت تمارس الرقص الخليع أمام هيرودوس، فإن هذه الممارسة لم تكن من باب العبث بل للوصول إلى قلب الحاكم ونيل ما تريده منه من قتل يوحنا المعمدان آخر أنبياء العهد القديم. ولا يستبعد أن يكون لسدنة المعبد اليهودي، يدٌ في تدبير تلك الجريمة.

إذا أخذنا في الاعتبار أن سالومي لم تستدرج الملك من رأيها وإنما بتوجيه من أمها هيروديا زوجة فيليبس أخي الملك هيرودوس، حتى تصبح ابنتها زوجة للملك وتصبح هي بالتالي أما للمكلة، فإن مهمة سالومي داخل القصر تتحول إلى "قضية" بشكل وبآخر. الملك هيرودوس أراد أن يتزوج من سالومي ابنة أخيه وهو يعلم أن الشرائع السماوية لا تبيح ذلك، لكنه أراد أن يستصدر "فتوى" من يوحنا المعمدان تبيح له ذلك ، غير أن يوحنا أعلن رفضه لهذا الزواج المحرم بنص الشريعة الموسوية. وكانت سالومي راقصة بارعة تسعى لحيازة الملك والثروة، وبتوجيه من أمها حرضت الملك "هيرودوس" على أن يأتي برأس يحيى ثمنا لمعاشرتها، فأمر الملك جنوده فذهبوا إلى نبي الله يحيى واقتحموا عليه محرابه وفصلوا رأسه عن جسده وذهبوا بها إلى الملك ليقدمها هدية لسالومي".

والواقع أن قصة "عاهرات" المعبد اليهودي ومن بينهن "القديسة" إستير، تشبه إلى حد ما قصة سالومي. لكن إستير انطلقت من خدمة المعبد اليهودي وحاخاماته في الأساس.

إستير التي يلقبها البعض حقا أو زورا بـ"عاهرة إسرائيل" إستير الفاتنة ذات الحسن والجمال البارعين، يتيمة الأب والأُم، التي تبناها الحاخام مردخاي اليهودي وهي بنت عمه وثمة من يقول إنه خالها، والتي اختارها الملك "أحشويرش" على كل الجميلات لتكون له زوجة. بحسنها وجمالها الفاتن، تمكنت إستير من إحكام السيطرة على قلب الملك، وطلبت أن يُصلب عدو اليهود "هامان" على الخشبة نفسها التي أعدَّها ليَصْلِب عليها عمها أو خالها مردخاي اليهودي. هذه "عاهرة" أخرى كان "عهرها" الظاهر يحمل في باطنه قضية مهما كان موقفنا من هذه القضية.

وكما استدعى الشاعر صورة "سالومي" استدعى كذلك صورة "زوجة موليير". ومن أجل فهم حقيقة العلاقة بين موليير وزوجته التي لم يكن يحبها كثيرا، ينبغي أن ننكش قليلا طبيعة العلاقة بين موليير وبين وشخصياته النسائية.

موليير كان موضوعيا إلى حد بعيد في توظيفه لشخصية المرأة في نصوصه حيث ولم يفرض عليه واقع علاقته بزوجته، حقدا على المرأة، الأمر الذي قد يحذو بغيره إلى صب جام غضبه على النساء، وتصوير جوانب الرذيلة فيهن لا غير، أوالالتفات إلى نوع واحد من النساء، ليجعله مقياسا ومعيارا لباقي الأخريات.

حياة " موليير " مع " آرماند بيجار " مثلا كانت تدعو إلى التأمل فيما كان يتعرض له هذا الرجل من صعاب في كل ميادين الحياة، فزوجته كانت صغيرة السن، سطحية في نظرتها إلى أمور الحياة، وكان جل اهتمامها بالمظاهر الخارجية للحياة الإجتماعية، أضف إلى ذلك عدم المبالاة بزوجها وإهمالها له. لقد عانى موليير الكثير من هذا الزواج، ما دفع به لقبول الانفصال عن زوجته نزولا عند رغبتها واحتراما منه لحريتها.

ذهب موليير يرسم شخصية المرأة في نموذج زوجته في كثير من مسرحياته، عارضا سخفها ودناءتها وغرورها أيضا، على لسان "سيليمين" مثلا في مسرحية "كاره البشر". وهو إذ يعرض لنا المرأة التي تزوجها، فإنه في المقابل يصور لنا المرأة المثالية في نظره التي تمثلها "إيليانت" في المسرحية نفسها، و"آلمير" في مسرحية "تارتوف" . كما يعرض موليير مجموعة من النساء على اختلافهن في الأفكار في مسرحية "النساء العالمات".

وعلى الرغم من عدم إخفاء الشاعر حنقه الظاهر وغضبه الشديد بل وخيبة أمله الطافحة من كلمات وعبارات قصائده، من هذه المرأة "أمان السيد" التي نجحت في إحداث الصدمة بل ما يشبه الزلزال في كيانه وحياته كلها؛ أقول : على الرغم من ذلك كله، فإن الشاعر وفي غمرة ما يشبه "الحقد المقدس" على هذه "المرأة- الأفعى" لم يستطع أن ينفصل عن ذاته الصوفية الأصيلة، إنه ما يزال موقنا في أعماقه ورغم كل شيء، أن ما يبقى له في النهاية وبعد ضياع كل شيء، هو :

"الكلمات في قصائد هذا الديوان" ص 02

ويقول : "الكلمات مباركة رجيمة.. مباركة بقدر ما تفضح عارا منك تضيئه لعيون الآخرين.. رجيمة بقدر ما ورد اسمك فيها، فاستحقت اللعنات لما طالها من دنس".. ص 02

"الكلمات مباركة رجيمة".. إنها الثنائية الصوفية التي تعبر عن ثنائية التضاد داخل كل مفردة من مفردات الكون. فلا وجود لخير لا شر فيه، ولا ودجود لشر لا خير فيه، ولا وجود لوجود لا عدم معه، ولا وجود لحق لا باطل معه. فالحق يأخذ معناه الوجودي من وجود الباطل والعكس، والنور يأخذ معناه الوجودي من وجود الظلام والعكس. كما أن الحياة تأخذ معناها الوجودي من وجود الموت والعكس، والنظام يأخذ معناه الوجودي من الفوضى الظاهرة، وهكذا.. إنها الثنائيات الوجودية المتضادة، والتي تضادها ضروري لوجود الطرفين في كل ثنائية بحيث أن كليهما يمثل وجها من وجهي العملة، أو بالتعبير الشعبي "الملك والكتابة".

كلمات الشاعر "مباركة رجيمة" كما أن توجه إبليس في عدم السجود لآدم فيما يرى ابن عربي، كان في الوجه الآخر للمسألة، نوعا من المبالغة أو "الأصولية" أو "التطرف" في التنزيه، فإبليس كان بشكل من الأشكال وبمعنى من المعاني، خارجيا (من الخوارج) ولكن على طريقته الخاصة. ولا يخفى أن الخوارج كانوا من أكثر الناس صلاة وصياما، لكن ذلك لم يمنعهم أن يستحلوا دماء الناس من منطلق الفهم الحرفي والأحادي والإقصائي للنصوص الدينية. و"الإيمان" في النهاية، على قاعدة الثنائيات المتضادة في الكون، يأخذ قيمته ومعناه الوجودي من وجود "الكفر".

بدت شخصية الشاعر من خلال نص المقدمة والنصوص التي تلتها، ضعيفة جدا أمام هذه المرأة بسبب تلك الصدمة الزلزالية الشديدة التي أصابته بعد انكسار الحلم العاطفي الذي كان غارقا فيه.

على افتراض أن العلاقة حقيقية، ومن الممكن أن تكون كذلك، يبدو أن الشاعر لم يدرس طبيعة هذه العلاقة غير العادية وغير المألوفة بشكل جيد. شاب عشريني في عنفوان فحولته وفي قمة إقباله على شهوة الحياة، ما الذي يمكن أن يجمع بينه وبين امرأة خمسينية بلغت سن اليأس ولم يبق في حدائقها سوى الرماد ودخان من تركوا آثار نيرانهم وذهبوا ؟ ألم يسأل الشاعر نفسه : ما الذي يمكن أن تنتظره مني امرأة مثل هذه ؟ وبأي عين ستنظر إلي ؟ هل يمكنها أن تقتنع بـ"حبي" لها إن بحت به ؟ ألن يراودها ذلك الخاطر الذي يقول لها في إلحاح : إن شابا من هذا النوع يفكر في الارتباط بك ويدعي حبه لك، لا يمكنه إلا أن يكون أحد رجلين :

إما رجل مشفق عليك.

وإما رجل طامع في شيء عندك.

هذا ما كان سيراود أي امرأة تفكر بـ"المنطق" المألوف عند البشر، ما يدفعنا إلى طرح السؤال

التالي : ألم تكن هذه العلاقة محكوما عليها بالفشل منذ البداية أو ربما من قبل البداية ؟

محاولة لقراءة نفسية الشاعر :

 

تبدو شخصية الشاعر في هذه المجموعة حدية وحادة إلى درجة ملفتة للانتباه. فعلى سبيل المثال نجده يقول وكأنه خارج من حرب طويلة بينه وبين قلبه، من قصيدة بعنوان "بعض عاصفة وريح" :

"هادنت قلبي فاستريحي

وعصيت إيمانا بروحي

ولعنت عاطفة يسلمها الجنون إلى الجنوح

وخرجت من أسري أغالب

بعض عاصفة وريح

أخطو على أشلاء عشق

مزقته يد الجموح

عاف الفؤاد هوى رآك

ربيئة لدم وقيح

ومضى يغالب نفسه عنك

ويوغل في الجروح

ولأنت مفتتح الخطيئة والغواية والفحيح

والشهوة العمياء في جسد تزين بالقروح

يا لعنة جثمت على قلبي

على عمري الذبيح

هذا دمي حررته من ربقة الوجه القبيح

فامضي لإثمك.. للوحول.. إلى الظلام" ص 05

بقدر ما "أحب" الشاعر هذه المرأة في البداية، بقدر ما كرهها في النهاية. والمعروف عن الشخصية الحادة أو الحدية، أنها إذا أحبت تحب بعنف وإذا كرهت تكره بعنف، وأنها تميل في العادة للوصول إلى الأطراف القصوى في كل ممارساتها. والمعروف أيضا أن السمة الرئيسية في الشخصية الحدية

هي نمط من تذبذب و تقلب سائد في المزاج وصورة الذات والعلاقات مع الأشخاص. يبدأ هذا الاضطراب في سن الشباب المبكر ويظهر في سياق العديد من التصرفات التي سيودها نوع من العلاقات الانفعالية الشديدة وغير المستقرة مع الآخرين. وتتميز الشخصية الحدية أيضا بالمثالية الزائدة عن الحد أحيانا، والتقلبات الواضحة في الجانبين المزاجي والوجداني من خلال حالة القلق التي تستمر أحيانا لساعات طويلة وربما بضعة أيام، مع أحاسيس مزمنة بالفراغ والضجر، إضافة إلى عدم القدرة على تحمل الهجر الحقيقي أو حتى المتوقع أو المتخيل. ومن الطبيعي في مثل هذه الحالات، أن يفكر الإنسان في الانتحار أو يتخطى عتبة "العقل" إلى "الجنون" بالمعاني المتعارف عليها عند النفسانيين.

إن جذور الحالة النفسية التي تنعكس من نصوص الشاعر، يرجعها النفسانيون إلى أزمة قد تعود إلى مرحلة الطفولة وترتبط غالبا بصورة الأم وعلاقاتها الإشكالية بالواقع المحيط وربما أيضا عدم قدرتها على التعامل بنجاح مع مفردات هذا الواقع. وقد يكون للأب المثالي الصارم في مثاليته بالمقارنة مع الأم التي قد لا تكون بهذا المستوى من الصرامة العقلانية في قراءة الواقع، خاصة إذا كانت تحمل روحا تقليدية شفافة. أقول : قد يكون للأب أيضا دور في تعقيد علاقة الأم بمفردات الواقع المحيط، ما قد يدخل الطفل في إشكالية المعايير العقلانية والواقعية بين صورتي الأب والأم.

ويضاف إلى ذلك كله، جميع صور العنف والحرمان التي تمر بالإنسان في طفولته وما أكثرها في بلادنا العربية، وسواء كانت هذه الصور تمثل حالة لصيقة بالذات، أو حالات خارجية على مستوى الواقع الاجتماعي. وهنا من حقنا أن نسأل : هل جسدت أو مثلت "أمان السيد" في لحظة من اللحظات، ذلك المثال الأنثوي العقلاني الواقعي المفقود من زمن طفولة الشاعر بحيث جعلته يتعلق بها تعلق الذكورة بالأنوثة لا على أساس مطلق الاختلاف الجنسي، بل على أساس نوع من الحب العاطفي والجنسي والمختلط أو الملتبس بصورة الأم أو مثالها في آن واحد ؟

 

اعترافات الشاعر :

قد يكون التساؤل الذي طرحناه قبل قليل منطبقا مع حالة الشاعر الذي يعترف ضمنيا بأنه كان مخدوعا بحالة نفسية أو عاطفية وقع تحت تأثيرها قبل أن يصل مع "أمان السيد" إلى الفراش أو إلى الفعل الجنسي. وعندما وصل إلى هذه المرحلة انكشف "السحر" وسقطت الحالة النفسية والعاطفية للشاعر في نوع من الخيبة والقرف. تماما مثلما يحدث لمن يرى أمامه تفاحة جميلة وشهية، لكنه ما إن يضعها في فمه وبين شفتيه ليعض عليها بأسنانه متشمما أريجها ومتلذذا بلحمها، حتى يستيقظ من حلمه القصير ليجد أن تلك التفاحة غير طبيعية بل هي اصطناعية ومصنوعة من مادة مطاطية مرة المذاق، ويكتشف أيضا الروائح المقرفة لريوق الأشخاص الكثيرين الذين حاولوا قضم هذه التفاحة من قبله. يقول الشاعر في نصه المعنون "عشرون عاما" :

"عشرون عاما بيننا..

يا للجنون

عشرون عاما.. إنها عشرون

هذا شبابي في إسار كهولتك

طير حبيس قيدته شجون

هذا دمي يهفو غليك فكلما

يمتد عريك حوله بسكون

تمتد أشباح مضت زمنا به

سحقته.. تبزغ في الظلام عيون

ألمسك.. تبتسمين مغمضة وما

أمضي سوى لتيبس وغضون

أهتز.. ترتعش البقايا في يدي..

وأهز ما خلفه منك الآخرون

عبثا أشدك من بقايا رغبة

خمدت وأنت تبذل ومجون

لا نهدك القشر استثار مشاعري

لا فخك المتلاهث المجنون

وأنا وحولي في الظلام وجوه من

نهشوا الربيع وقد مضوا ينأون

هذي ملامح عابر ألقى القذى

بك.. ذي ملامح عاهر مأبون" ص 06

إن هذه الاعترافات تدفع القارئ دفعا إلى التساؤل مرارا : ما الذي شد الشاعر إلى هذه المرأة ؟

إذا كان الجسد أو الشكل هو الذي جذبه إليها، فالنص السابق والعديد من النصوص الأخر في "المجموعة" تكذب ذلك. وإذا كانت الروح هي التي جذبت الشاعر إليها، فإن ما فعلته معه يمنع أن تكون روحها أو نفسها بالمستوى الذي يجعل الآخر ينجذب إليها فضلا عن الوقوع في حبها.

لكن يبدو أن نوعا من "السحر" أو الإغواء الحوائي (بفتح الحاء والواو وشدها نسبة إلى حواء) الذي تعرف ابنة حواء من خلاله كيف تظهر ما لا تبطن لتوقع ابن آدم في شراكها، هو الذي أوقع شاعرنا في هذا الجب. والدليل على أن الشاعر انخدع بحالة ظاهرية هو قوله في وصف هذه المرأة من قصيدة بعنوان "امرأة القلب الميت" :

"امرأة كانت من بهتان

يتهشم في أعماق جوانحها عمرٌ أترعه الحقد

وأثمر فيه الخزي

وكلله الخذلان

تتأمل بين مراياها نهر شباب أفلت

كانت ترفل فيه أمام خطيئتها

تتمدد كل مساء عارية كي توطأ من عابر".. ص 08

ويقول في النص نفسه :

"حين أتاها

كان ربيعا أخضر

يحلم أن يبعثها من ميتتها

ويبرعم في شيخوخة ظلمتها الألوان

اجترح الوهم إليها

مد دماه لنبض حياة يطفأ في جنبيها

ضوء نهار يلمس في الاماد شحوب غروب في تحنان

لكن الليل المستوطن عينيها

ودماء خطيئتها اللهثى بشرايين السم

وأوحال الأدران

ردته..

انقضت نحو براءته تلقيها في أعماق مظلمة تسكنها" ص ص 08 – 09

ويقول أيضا من القصيدة نفسها :

"امرأة كانت من بهتان

تتوهم أن الأرض تدين لها مذ ملكت جسدا..

عهدت بمفاتنه العفنة للشيطان

تمر على ذاكرة الكون بقايا ريح تعوي

أفعى تذرع تيها بين دخان

امرأة في ظلمتها..

انتُهكت..

مرت فوق بقاياها أقدامُ الأرض..

تناثر في ذاكرة الريح

يكفنها النسيان". ص 09

"أمان السيد" استحقت من الشاعر، من بين ما استحقت، الأوصاف التالية :

(امرأة القلب الميت، امرأة الرماد، أفعى البنفسج، ذئبة الخمسين، عاري، الجحيم).. بعد أن كانت صورتها تحلو في عينيه وتمثل حالة الحلم لديه، انقلبت هذه الصورة فجأة لتتحول إلى سواد فاحم قاتم في غابة عبرتها الحرائق ولم تترك فيها سوى سحب الدخان. يقول الشاعر في قصيدة "امرأة الرماد" "كانت رمادا من رماد

ايامها احترقت على أيدي الذين لهوا بها

فوق الأسرة والوساد

نبشت حدائقها

وأنت من جرائم من تتالوا فوق نرجسها يعيثون الفساد

ومضوا وما تركوا سوى شبح

بقايا ناهدين

وحفرة

نمت الطحالي فوقها وطغى السواد

دعها وأفلت بالشباب من الحداد

دعها لشقوتها مهدمة على درب الخطيئة..

أو تكاد

لم يُبق منها العابرون على بقاياها

لأفقك

غير أكفان لموت مستعاد

لن يمنح الحب الكثير لمن هوت..

.. لا ترتجي شيئا من الحب المدنس في الظلام

سوى الفساد" ص 10

في قصيدة "ذئبة الخمسين" نحس كأنما هذه المرأة جاءت إلى الشاعر "مع سبق الإصرار والترصد" لأنه في العادة لا تحدث علاقة عاطفية من هذا النوع بين شاب عشريني وامرأة خمسينية، إلا في حالتين :

الأولى : وجود مصلحة أو مصالح مادية مشتركة بين الطرفين أو من طرف واحد على الأقل.

والثانية : كون أحد الطرفين (الرجل أو المرأة) يعيش حالة المراهقة الأولى أو المتأخرة بما يجعله يعيش الحالات العاطفية خارج مفرداتها "الطبيعية" أو "المألوفة"، أو أنه يعيش عودة مفردات نفسية قديمة ومكبوتة من مرحلة الطفولة ما يجعله يسقط صور الماضي على الطرف الآخر، وبالتالي ينتج هذا النوع من العلاقات، لكنه في الغالب لا يعمر طويلا. يقول الشاعر في القصيدة المذكورة :

"جاءت إلى دربي مرنحة الخطى

جاءت لكي تغوي خطاي

تعانق العري الشفيف بقدها والمئزر المنحل

في سمت البغايا

مالت إلي ووجهها

عهر سفور لم يُثر شيئا بأوردتي ولا ارتعشت دماي

رنت إلى جسدي

وعيناها اتقاد

بين ساقيها الجحيم

وملء نهديها الخطايا

أقبل إلي

ارو دمي..

خذني غليك

تباعدت..

أنثى تكسر عُريها فوق المرايا

أخذت يدي إلى الجحيم

كذئبة جوعى

هوت وسنينها الخمسون

ناهشة صباي

ومددت كفي نحوها

لم ألق في أشلائها إلا عواصف من مضوا

زمنا على العري المشاع

مخلفين لي البقايا" ص 14

ما بعد الطوفان :

 

في النصوص التالية، بإمكاننا أن نستشف حالة الشاعر بعد احتراق ربيعه الأخضر وتفحم حلمه الوردي وانكساره، وهو يعترف بما جنت يداه من الحصاد المر.. حصاد الطفولة أو المراهقة أو الإغراء الحوائي.. يقول من قصيدة "عاري" :

"أمضي بدربي مثقلا تعست خطاي

وماد إصراري

أرثي لأحلام مضت ومضت

ألقت بها في جذوة النار

ولوجهي الفرح القديم نأت به

عن بشره..

وكبته بالعار

هذا حصادي المر ما بذرت يدي

عصفا جنيت بغيها الساري

هذي نهايات الحياة تجللت

خزيا بها..

وهشيم أعذار" ص 15

وفي قصيدة " ليتني" ، يستدعي الشاعر صورة السيدة مريم وهي في المخاض لاجئة إلى جذع النخلة، ثم وهي تحمل ابنها السيد المسيح على ذراعيها عائدة به إلى أهلها.. "قالت يا ليتني متُ قبل هذا وكنتُ نسيا منسيا".. يقول :

"ليتني كنت ترابا

قبل أن ألقاك

أو كنت سرابا

ليتني كنت ضبابا

يذرع الآفاق أو كنت سحابا

ليتني قد كنت يوما أي شيء

غير ذاك المتعس الملقى هوانا واكتئابا

منك..

من حب غرير" ص 17

الآن انتبه الشاعر من غفلته بعد أن بطل مفعول "السحر الحوائي" :

"أي موت كنت أحياه بخمسينك

أي قبر رحت أدفن في بقاياه الشبابا".. ص 17

وخرج الشاعر من هذه التجربة في النهاية منتصرا رغم الجراح العميقة، لكن أليست الجراح أفضل معلم ؟ خرج الشاعر ليرسل رسالة إلى قلبه المتعب يقول فيها تحت عنوان "رسالة إلى قلب" :

"يا قلبي الأسيان ليس لأنما امرأة مضت

خانتك

ينسحب اليقين إلى الظلال

هي وحدها في غيها

والكون ماض لا يزال

والأتقياء الصادقون

الناظرون إلى الكمال

جاعت فلما استوحشت أكلت بنهديها

وأترعها الضلال

يا قلبي السيان ما أهون من اتكأت على كهف

تدنس بين ساقيها

بضاعتها التي اختالت بها تغوي الرجال

هذي فضيلتها على الدنيا

وذا جل المآل

هذا أساك على التي لم تبغ يوما

غير ما ذكر ومال

يا قلبي الغض الذي هصرته عاهرةٌ

ومرت في اختيال..

دعها تدور بغيها..

فلأنت أنقى من مصير خطه كف لبغي

حين عربد في طريقك ثم جال

دعها

تسير إلى الفجور وبالدراهم تُستمال

حاشاك أن تبقى نهايتك الخطيئة والضلال

هذا طريقك سر به حتى تحلق لانعتاقك..

وحدك الباقي على درب النجوم

ووحدها نحو الزوال". ص 20

وفي ختام هذه القراءة أقول : إذا اعتزل الشاعر الكتابة، فمعنى ذلك أنه تخلى عن (الكلمة) التي قام عليها "الإنسان الصغير" الذي هو العالم، وقام عليها "العالم الكبير" الذي هو الإنسان، وفي هذه الحالة يكون غرماؤه القدماء والجدد الذين تجسدوا في "أمان السيد" هم الذين انتصروا لا هو.

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا