يا بائي وبوابتي
نقطة1
******
مع أنني أطلقتُ عليكِ اسم الباء
ثم أطلقتُ عليكِ اسم النقطة
(بعد أن قيل لي انّ كلّ الباء في النقطة)
فإنني لم أشفَ بعد من جراحي التي سببتها
سكاكينكِ وشراشفكِ وروائحك.
نعم، لم أشف َ
مع انني كتبت
سبعين ملحمة في ذكراك
وسبعين قصيدة لتمجيدك
وسبعين بيتاً لعدّ دموعي المتساقطة
في الطرقاتِ من أجلك
وسبعين، سبعين
نعم،
فلقد سطا عليك الزمان
وتناهبتك اللذةُ ذات اليمين وذات الشمال
وحين كنتِ بين ذراعيّ
تلثغين بمفاتن نهديكِ وساقيك
سطا خدم العرش ليسرقوكِ منيّ
ونهبوا عرشَ ذهبكِ ومفاتنكِ وملابسكِ الداخلية.
نقطة 2
******
كان المشهد أكثر كابوسية مما أحتمل
إذ كان يتطلّب أن أقلع عينيّ
كما فعل أوديب
وأن أقطع رأسَ الحروف
وأعلّقها على بواباتِ العبث
ولم تكن لديّ حروف بالمرّة.
وكان المشهد يتطلّب أن أخرج
إلى الشارع عارياً
عارياً تماماً
وما كان هناك من شارعٍ في الأرض
يمكن أن أمشي عليه
بقدميّ الملتصقتين ببطني
يا ملكة العري والفجيعة
يا بائي وبوّابتي
يا بليـّتي وبـَلبـَلتي.
نقطة 3
*******
كان خروجي مدوّياً
لأنني كنتُ مَن يحمل رأسه بنفسه
فوق رمح عظيم
وكانت النسوةُ والملائكةُ تهرب مني
وهي تحمل طبولها وأبواقها الكبيرة
خرجتُ
لم أجد مَن يقول نعم
لرأسٍ محمولٍ على رمحٍ عظيم
كانت الطرقات جافّة
والشمس ساطعة
والغرباء يتلعثمون
وهم ينظرون إليّ:
ما هذا؟
أهو جنّي أم أنسي؟
أهو صوفي أم ملحد؟
أهو قربان أم خرافة؟
نقطة 4
********
وخرجت
عبرتُ الأسلاكَ والحدود
عبرتُ المعنى والكلمات المتقاطعة
عبرتُ النقطةَ والوحشةَ والحلم
عبرتُ الأحشاء الداخلية والأعضاء التناسلية
عبرتُ الذي خرّب البلاد
وباعها من أجل حفنة من الجراثيم
وعبرتُ الذين باعوا كلّ شيء
من أجل حفنة من الشتائم
واللواتي بعن أجسادهن في سرير الدنانير
وعبرتُ، عبرت
حتّى لم يعد هناك من شيء أعبره
يا فجيعتي
يا مَن قتلتني في سن العشرين
وظلّت تلاحقني حتّى السبعين
أما من راحة؟
أما من هدنة؟
أما من صواب
لهذا الخطأ الذي يحتاط لكلّ شيء،
لهذا الخطأ الذي يقودني من خطأ
إلى آخر أكثر فتنة وصوابا؟!
نقطة 5
********
انظري
لقد تركت
- من أجل أن أنساك –
الفرحَ الذي يتصاعد من دربكة الخيول
والحمامَ الذي يتصاعد من حمحمةِ الرغبة
وتركتُ الأنهارَ المقدسة وغير المقدسة
والجبالَ التي يقفز عليها السكارى
وتنام عليها الوحوش
تركتُ – من أجل أن أنساك –
حتّى ما لا ينبغي تركه لأيّ عاقل أو مجنون
دون أن أنال ما أريد
يا كَرَبي وبلائي
يا بهائي ولوائي
يا شبابي المدمّى
وموتي الأبله الذي ينتظرني
ساهماً في آخر قارات العالم.
إ. هـ
استطاع الشاعر أديب كمال الدين خلق شعريته
الخاصة من جهة التعامل الدؤوب مع الحرف والنقطة حتّى أنسن الحرف وأنسن النقطة! فأنت
لا تقرأ حرفاً خالصاً كما تراه أنت أو أنا!! وانما تقرأ الحرف كما يراه الشاعر!
وليس ثمة سوى التشفير أحيانا والتماهي مع الحرف أخرى وتمجيز الحرف ثالثة في فضاء
لانهائي تتوحد فيه الأصوات والمرئيات والمشمومات والمجرات والحبيبات حتّى يعسر وضع
حدود بين المحدودات! إذن (الحرفنقطة) باختصار واتساع شديدين عالم القصيدة والقصيدة
أيضاً عالم الحرفنقطة! ذلك ما تؤسسه جلّ قصائد أديب منذ ديوان عربي! يمكن للقصيدة
هنا أن تطوِّع عالم الحرفنقطة فتخلِّق منه كل مفردات القصيدة وأعني كل مفردات
التجربة الشعرية لدى أديب! كيف؟ نعم كيف؟ الجواب هو مقترن بطقوس الرؤية لدى الرائي!
الحرف كلّ شيء وكلّ شيء الحرف! السماء حرف والأرض كذلك! القتلة حروف والمقتولون
حروف! الحبيبة الطاهرة حرف واللعوب الغادرة كذلك! الثنائيات حروف الليل والنهار
الموت والحياة الإبداع والاتباع حرف! ليس ثمة مشكلة على مستوى الرؤية! ولكن كلّ
المشكلة في مشغل القصيدة! أن تحوِّل المحسوس مجرداً والمجرد محسوساً! أن تؤنسن
مفردات الطبيعة أو تعيد مفردات الإنسان إلى الطبيعة!! أن تتصبب عرقاً وأنت
تكابد موسيقا الحروف كي تكون موسيقا القصيدة! أن تدخل بهاء المجذوبية بوعيك وأن
تدخل وعيك بمجذوبيتك! هذه مشكلات اعتيادية في توليف الشعرية الجديدة التي تتنزه عن
الانتماءات المغوغأة للمدارس أو المذاهب أو الأجيال أو البيانات! لاشيء يشغل بال
القصيدة عند أديب! لاشيء يشغل باله يقينا ! نعم المتلقي (وهو ضالة المنتج بوصف
المتلقي هو المستهلك الوحيد) المتلقي قارئاً سامعاً لا يشغل بال القصيدة عند أديب!
تجنيس القصيدة لا يشغل بال القصيدة! ما يشغل بال القصيدة هو الحرفنقطة! لقد ملأت
الحروفية حياة الشاعر الشعر وباتت شعريته! فما حاجته إلى السطوع وهو محترق؟ إلى
الشيوع وهو مختنق؟ بعبارة مختزلة لقد غرّقت الصوفية الجديدة تجربة أديب! الصوفية
ليست قصيدة ولا جلباباً ولا بياناً ولا صلاة! الصوفية تشترط أن لا تشترط سوى الزهد
بكلّ شيء سوى المعشوق! فإذا كان المعشوق حرفاً فما حاجة العاشق للآخر إن لم يكن
حرفاً!! فلنحاول فقط مراقبة الفعل (تخليق الحروف قصيدة) من جهة المجاز/ الموسيقا!
سأرتب سانحة لمراقبة الفعل سوية وأعني القاريء الأول الذي هو أنت أيها القاريء
العزيز كما أعني القاريء الثاني الذي هو أنا! وتكون المراقبة بهيئة علامات مكثفة غب
أن استغرقتنا التوطئآت! ولنضرب في هذه القصيدة مثالاً لما تواطأنا عليه في التوطئة!
من هي الباء؟ أو ماهي الباء؟ أو لماذا الباء؟
ب = بوابة الشاعر
ب = كانت أنثى بلا ملامح ولا اسم! وكما تقول
ملحمة حينما في الأعالي (حين لم تكن الأسماء لم تكن الأشياء) فلكي تكون أطلق عليها
اسم الباء ثم أطلق عليها اسم النقطة.
ب = جملة اعتراضية لبيان الحيرة! قيل لي كلّ
الباء في النقطة!
ب = هي أنثى ربما تكون شبيهة تياما في حينما في
الأعالي تشبع مخلِّقَها طعنات وشهوات وروائح!
ب = لم تشف جروح الشاعر من طعنات الباء رغم أنه
تقرب إليها بسبعين ملحمة وسبعين قصيدة وسبعين بيتاً! وسبعين وسبعين..! (يقول
أبو عمرو بن العلاء ت 154 هـ العرب سبعيون)!
ب = هي أنوثة متجسّدة وليست رموزاً متجرّدة!
وآية ذلك خضوعها للجهات الأربع ذات اليمين ذات الشمال! النص جسد الأنثى وفق آلية
Personification (الأنسنة) وبذات الآلية جسد الزمن فسلطه عليها! وبذات الآلية جسد
اللذات وهي قبلاً صور تجريدية معنوية وليست صوراً حسية! ثم يكتمل التحول الصوفني
فإذا ها بين ذراعي ضمير المتكلم وهو معادل مردوك في حينما في الأعالي! فتكون
اللثغة علامة ساطعة الوضوح عن المسكوت عنه! فما النهدان والساقان سوى علامة مكملة
للثغة! ولن تفوتنا أن تياما هي التي تلثغ بمفاتنها وليست اللثغة حالة تشي بها
الصورة الفنية! وقبل أن يقفل النص باب نقطة1 واحد تنبهنا آليات تحليل النص الطعم
الذي ابتلعناه! فالصورة ليست جنسية كما أوهمتنا بل هي حالة من الوصول الصوفي والشطح
لحظة يتحد العاشق بالمعشوق! نقطة.
نقطة2: استدارة كاملة فلم تعد الصورة الشبقية
حسية تلقائية كما النقطة1 بل لجأ النص إلى الهتك والكشف لتكون الرؤية بسعة الرؤيا!
اعتراف النص بكابوسية المشهد الأول! المكر الفني قاد إلى التضاد الدلالي! الرؤيا
(الحرف/النقطة) سطوع لا تحتمله العين فالمعادل الموضوعي للحالة (قلع العينين)! أن
يغمض الرائي عينيه فهذا يعني أنه يتهيأ للحلم ولكن أن يقلع الرائي عينيه فتلك محنة
أخرى! النص لا تعامل بسوى الحرف فهو مولاه (سيده/ خادمه) وهو الثنائيات المتعايشة
مع تضاداتها على مستوى المعنى الأول! فاذا كانت أنثاه حرفاً وبوابة معاً ثم يؤول
الأمر به إلى ماهو عليه! فما من طلب سوى أن يقطع رأس الحرف كي يكون المشهد أدخل في
مجرى السياق! يقطع رأس الحروف لكي يعلّقها على بوابات المدينة العابثة (الحزينة!!)
ولكن النص يفاجيء التوقع باللاتوقع! ليس ثمة حروف ليقطع رؤوسها! بعبارة ثانية حاسمة
ليس ثمة فاعل ليصنع منه النص مفعولا! والسؤال هو كيف حصل الفعل دون فاعل ودون زمن؟؟
فليجرّب النص سلوكاً آخر ليجرّب الخروج إلى الشارع بعري كامل وبهذا الكيف يمكن أن
تستفز الصورة لتلقي ببواطنها إلى خارج جلدها! ومرّة أخرى يرتطم التوقع باللاتوقع
والتماثل باللاتماثل وفق ارشيبالد مكليش! قارن لم تكن هناك حروف بالمرّة! ثم قارن
عارياً تماماً! أهناك ريب في لاكينونة الحروف أم شك في لاكسائية المتكلم؟ مرّة أخرى
تنحسر الصورة ليتضح أن ليس ثمة شارع لكي يمارس العري التام في مسافاته! إذن الأنثى
هي الحرف والحرف هو العري! والباء التي هي هما وهم تستجن في تصاقب المعنى والنغم في
بائي بوابتي بليتي بلبلتي! لقد أقفل المشهد الثاني حركيته وانحسر خلف كواليس التلقي
كمرجعية مثلا! من أجل أن نبدأ مع النقطة الثالثة دون بلبلة! نقطة.
النقطة 3: لماذا يلتجئ المشهد الصوفني إلى
أفعال الكينونة وإلى تصاريف كان قارن نقطة2 استنفد المشهد ستة من (الكينونة) وفي
المشهد3 استنفد أربعة! وكان المعنية فعل ناقص وتام معاً! كان الماضي والحاضر
والمستقبل لكي ينحصر المشهد في أزليتها! كان خروجي مدوّياً أمس واليوم وغداً كما
نقول وكان عدوي متربّصاً بي أي على مدى الأزمنة الثلاثة! والعرب تصنع مثل هذا مع
كان! ونحو لم تكن لديّ حروف فبعض يدخلها في كان التامة باعتداد لديّ حروف مثابة
المسند الواحد وبعض يرى أن حروف اسمها ولديّ خبرها! وبعيداً عن تسويغات النحاة وهي
عادة مجرد تسويغات ليس إلاّ فان كان النص الصوفي ممتدة على الزمكان الأزلي والأبدي!
كان خروجي مدوّياً! بمثل هذا الدويّ ندخل المشهد الذي خرج منه صوت المتكلم! يتعين
علينا ملاحظة كيف يغرب المتحدث صورته في متخيل المتلقي ابتداء من (أمشي عليه بقدميّ
الملتصقتين ببطني) إلى (كنتُ مَن يحمل رأسه بنفسه فوق رمح عظيم) التغريب
معلول العلة التالية علة أن يحار الناس في أمره (أهو جنّي أم أنسي؟ أهو صوفي أم
ملحد؟ أهو قربان أم خرافة؟) هكذا وضعنا قبالة أضداد هي في واقعها ليست
أضداداً فالجني والأنسي يتعايشان في أهاب الإنسان الواحد وكذا القربان والخرافة
استحالا حالة واحدة في الزمن المخرب وإذا كان ذلك كذلك فالصوفي والملحد حالة واحدة
في الموروث الجمعي! ألم يُقتل الحلاج العظيم بتهمة الكفر والإلحاد؟ ألم يُمثّل
بجسده الشريف؟ ألم يُحرق بأمر أمير المؤمنين ويُذرّ رماده من فوق المنائر لحظات
الآذان والتكبير! اليوم محنة الإنسان أشد نكالاً من عصور الظلام منذ أمية قريش إلى
عباسية هاشم إلى عثمانية الترك وصفوية الفرس! كان ذلك الزمان أرحم من زمان كلنا فيه
القاتل والمقتول والسجين والجلاد! كلنا مؤمن في نفسه كافر في عيون غرمائه! كان
المفكّرون يخشون الحكام والقادة لكن لهم عمقاً آمناً لدى الناس! أما زماننا هذا
فبات الإرهاب خليقة والناس أشد نكالاً على المفكّرين! فمن حقهم أن يخلطوا الصور لكي
يقتلوا الضحية بالصورة التي هم يرسمونها له! نقطة.
النقطة4: هل يتعين على النص أن يضللنا بفعل ماض
(خرجت)؟ وهل يتعين علينا أن نصدق؟
النقطة5 الأخيرة: محور النقاط قارن (يا كَرَبي
وبلائي يا بهائي ولوائي يا شبابي المدمّى) بمعنى ادخل أن النص بكليته الصوفنية
والدلالية تمحور حول ثلاثة نداءات وخمسة منادين يا= كربي+ بلائي. يا = بهائي
+ لوائي. يا = شبابي المدمّى!
وشعرية الدلالة هنا تحوم حول الحالة الغامضة
لماذا كرس النعت(المدمّى) للشباب بينا ترك الكرب والبلاء والبهاء واللواء دون نعوت!
وعند هذه النقطة التي أثرتها والتي تصلح لقراءة ثانية أخرى أضع نقطة الخاتمة.