أَنْتَ
الْيَتِيمُ إِلَيْكَ
مُحَمَّد حِلْمِي الرِّيشَة - فلسطين
مَاتَ عَلاَءُ الدِّينِ كَاتِبَة!
كُلَّمَا هَمَمْتُ بِكِتَابَةِ هذَا الـ"تَّقْدِيمَ" الَّذِي لاَ أُحِبُّهُ،
بَلْ لاَ أُتْقِنُهُ عُمُومًا، وَأَيْضًا؛ لإِيمَانِي بِأَنْ أَجِدَنِي
مَأْخُوذًا إِلَى أَيِّ عَمَلٍ إِبْدَاعِيٍّ دُونَ وَسَاطَةٍ مَهْمَا كَانَتْ،
هَمَّتْ بِي الْعِبَارَةُ الصَّاعِقَةُ أَعْلاَهُ إِلَى حَتَّى أَخْمَصِي،
فَأَصْمِتُ وَقَدْ عَبَرَتْنِي مَوْجَةُ عَبَرَاتٍ صَلْبَةٍ وَجَافَّةٍ؛ هَمَتْ
قَطْرًا مِنَ الأَفْكَارِ مُرًّا، وَيَأْسًا مِنَ الْجَدْوَى الضَّائِعَةِ
لِلْحَيَاةِ وَالْكِتَابَةِ، فِي هذَا الْوَطَنِ الْيُخَانُ كُلَّ آنٍ.
•
مَاتَ عَلاَءُ الدِّينِ كَاتِبَة؛ الصَّدِيقُ الْحَمِيمُ، وَالشَّاعِرُ
الْيَتِيمُ، والْكَاتِبُ الْغَرِيمُ، كَهْلاً فِي أَوَائِلِ
الأَرْبَعِينِيَّاتِ مِنَ الْعُمْرِ الضِّلِّيلِ.. مَاتَ كَفُجْأَةِ
الإِبْدَاعِ وَفَجِيعَتِهِ حِينَ لاَ مَأْوَى لَهُ فِينَا.. مَاتَ وَحِيدًا فِي
غُرْفَةٍ وَحِيدَةٍ فِي (غَزَّة)، بَعِيدَةٍ عَنْ كُلِّ هذَا الْعَالَمِ
الَّذِي كَأَنَّها لَيْسَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهِ وَفِيهِ، وَكَأَنَّهُ كُلَّمَا
صَغُرُ الْعَالَمُ اقْتِرَابًا، كَبُرَتْ عَنْهُ ابْتِعَادًا وَاغْتِرَابًا.
•
مَاتَ عَلاَءُ الدِّينِ كَاتِبَة.. هكَذَا، فَقَطْ،كَتَبَ لِي صَدِيقُنَا
بَاسِمُ النَّبْرِيص؛ الشَّاعِرُ الْفِكْرِيُّ الْمُتَشَائِمُ، وَالَّذِي حِينَ
أَقْرَؤُهُ أَشْعُرُنِي أَتَظَلَّلُ بِأَوْرَاقِ الشَّمْسِ اللاَّهِبَةِ،
لأَبِينَا الشَّاعِرِ الرَّهِينِ أَبِي الْعَلاَءِ الْمُعَرِّي:
"تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْجَبُ إِلاَّ مِنْ رَاغِبٍ
بِازْدِيَادِ".
أَوِ الشَّاعِرِ، الرَّاحِلِ الْمُبَكِّرِ كَذلِكَ، نَجِيبِ سُرُور:
"لاَ تُصَدِّقْ مَنْ يُجِيدُ الْفَلْسَفَة/ لَيْسَتِ الْعُقْدَةُ أَنَّا
سَنَمُوتُ بَعْدَ أَنْ نَحْيَا/ وَلكِنْ/ أَنْ نَعِيش/ قَبْلَ أَنْ نُصْبِحَ
مَوْتَى".
أَوْ الشَّاعِرِ، الرَّاحِلِ الْمُبَكِّرِ أَيْضًا، لُوتَر يَامُون صَاحِبِ
"أَنَاشِيدِ مَالْدُورُور"... رُبَّمَا لأَنَّهَا (لَهُمَا عَلاَء وَبَاسِم)
الْبُقْعَةَ (الْغَزِّيَّةَ) نَفْسَهَا.
أَحْزَنْتُكُم؟ سَامِحُونِي وَاعْذُرُونِي؛ فَقَدْ يُرْهَقُ الدَّمُ حِينَ
تُصَارِعُهُ الْكَآبَةُ، فَتَصْرَعُ كُرَيَاتِهِ الْحَمْرَاءَ وَالْبَيْضَاءَ،
وَقَدْ صَرَعَتْ بَقَاءَ عَلاَء.
•
مَاتَ عَلاَءُ الدِّينِ كَاتِبَة..
لَنْ أَكْتُبَ هُنَا شَيْئًا عَنْ سِيرَتِهِ الْمُتْعَبَةِ الَّتِي أَعْرِفُ
عَنْهَا الْكَثِيرَ جِدًّا، رَغْمَ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الذِّكْرَ
وَالتَّثْبِيتَ، وَرَغْمَ أَنَّهَا سَتُسْعِفُنِي مِنْ عَدَمِ قُدْرَتِي عَلَى
فِعْلِ التَّقْدِيمِ عُمُومًا، وَهذَا السِّفْرِ خُصُوصًا، فَهُوَ مُغَايِرٌ
جِدًّا؛ مُغَايِرٌ لِكُلِّ مَا كُنْتُ قَرَأْتُهُ لَهُ، وَكَانَ، فِي
بِدَايَاتِ كِتَابَتِهِ، أَسْمَعَنِي بَعْضَ الْمَقَاطِعِ، وَكُنْتُ طَلَبْتُ
مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَهُ لِي بَعْدَ انْتِهَائِهِ، لكِنَّهُ وَصَلَنِي بَعْدَ
اخْتِفَائِهِ.
•
مَاتَ صَاحِبُ "جَاهِلِيَّاتِـ"ـهِ..
الْعُنْوَانُ، وَحْدَهُ، مُثِيرٌ لِدَهْشَةٍ لَهَا طَعْمُ ذَرَّاتِ رَمْلٍ
اخْتَلَطَ نَدَاهَا الْفَجْرِيُّ بِـ"الْمُورِيَاتِ قَدْحًا".. إِنَّهُ
يُمَشِّطُ الْمُخَيَّلَةَ عَمِيقًا حَيْثُ الْجُذُورُ الْمُطْمَئِنَّةُ،
وَالْمُشْرَئِبَّةُ بِالْكَائِنَاتِ اللُّغَوِيَّةِ الْمَهْمُوزَةِ بِالأَلَقِ،
وَبِالتَّأْصِيلِ الْجَاهِلِيِّ الْمُزْدَحِمِ وَالْمَزْحُومِ بِالإِبْدَاعِ
الْجَمَالِيِّ اللاَّيَنْتَهِي أَبَدًا.. (يَعْبُرُ خَاطِرِي، الآنَ،
الشَّاعِرُ الْمُفَكِّرُ، وَالرَّاحِلُ الْمُبَكِّرُ حُسَيْنُ الْبَرْغُوثِي..
وَلاَ تَعْلِيق).
•
مَاتَ عَلاَءُ الدِّينِ كَاتِبَة..
حِينَ كُنْتُ أَشْتَغِلُ عَلَى إِخْرَاجِ هذَا الْكِتَابِ/ السِّفْرِ، بَعْدَ
آنٍ قَصِيرٍ مِنَ السَّفَرِ الْمُفْجِعِ وَاللاَّمُتَوَقَّعِ لِكَاتِبِهِ،
كُنْتُ أَتَوَقَّفُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُذَهَّبَاتِ الْمُذْهِلَةِ
الْمَنْقُوشَةِ فِيهِ، وَصِدْقًا؛ كَمْ وَجَدْتُنِي، لاَ إِرَادِيًّا أَوْ
دُونَ وَعْيٍ، أَهِمُّ بِالاتِّصَالِ بِهِ، كَعَادَتِنَا كُلَّ نَصٍّ جَدِيدٍ،
لِـ"أَلْعَنَهُ" بِكُلِّ مَحَبَّةٍ وَدَهْشَةٍ وَانْبِهَارٍ، عَلَى كَثِيرٍ
مِمَّا أَقْرَؤُهُ، وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي طَلَبْتُهُ عَلَى الْهَاتِفِ
مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَغْلَقْتُهُ سَرِيعًا بَعْدَ رَنَّتَيْنِ، إِذْ صَحَوْتُ
مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَكَتَبْتُ بِحُرُوفٍ كَبِيرَةٍ عَلَى قُصَاصَةِ وَرَقٍ
ثَبَّتُّهَا أَمَامَ عَيْنَيَّ: "مَاتَ عَلاَء، اتَّصَلْ بِنَفْسِكَ مُنْذُ
الآنَ وَأَبَدَكَ"، كَيْ تَهْزِمَ هذِهِ الْعِبَارَةُ عَدَمَ تَصْدِيقِي
لِمَوْتِ صَدِيقِي، كُلَّمَا غَيَّبَتْنِي "جَاهِلِيَاتُهُ" الَّتِي لَنْ
يَرَاهَا، كَمَا نَرَاهَا الآنَ؛ كِتَابًا بَيْنَ ضِفَّتَيْ يَدَيْنَا،
فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَتَسَلَّقُ شَجَرَةَ الْحُلُمِ، وَنَحْنُ
الَّذِينَ نَقْطِفُ ثِمَارَهَا.
وَحِينَ كُنْتُ كَمَا قُلْتُ، وَقَدْ تَعَلَّقْتُ بِسِلْسِلَةِ قَلاَئِدِهِ
الَّتِي انْتَظَمَ شُرُودُهَا اللُّغَوِيُّ فِي هذَا الْكِتَابِ، لَمْ أَجِدْ
سِوَى أَنْ أَذْكُرَ مَقُولَةَ الشَّاعِرِ الرَّجِيمِ بُودْلِير:
"لَيْسَتْ لِلشِّعْرِ أَيَّةُ غَايَةٍ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَلَنْ تَكُونَ
قَصِيدَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، إلاَّ الَّتِي كُتِبَتْ مِنْ أَجْلِ مِتْعَةِ
الْقَصِيدَةِ"!
فَهَلْ كُتِبَتْ هذِهِ الْـ"جَاهِلِيَّاتُ" لِلْمِتْعَةِ اللُّغَوِيَّةِ، كَمَا
نَرَاهَا فِي نُصُوصِهِ، أَمْ لِـ...؟ لاَ.. لَنْ أَضَعَ افْتِرَاضًا
تَسَاؤُلِيًّا آخَرَ، فَلِلْبُكُورَةِ لَذَّتُهَا، وَلْيَكُنْ لِكُلِّ مِنَّا
عُرْسُهُ الْقِرَائِيُّ كَمَا يَشَاؤُهُ وَيَشْتَهِيهِ.
•
مَاتَ صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ السِّرِّيِّ عَلاَءُ الدِّينِ دُونَ سِحْرِهِمَا..
كَانَ كَأَنَّهُ يَصِفُ تَكْوِينَهُ كَيْ لاَ نَحَارَ فِي افْتْرَاعِ
مَحَارَتِهِ:
"فِي الْبِدْءِ كَانَ صَيَّادًا، أَوْ طَرِيدًا. كَانَ لُؤْلُؤَةً فِي بَحْرٍ..
جَاءَ بَحْرٌ. لَمْ يَكُ إِلاَّ مَا ظَنَّهُ، فَصَارَ نَهْدًا عَلَى سَفْحِ
جَبَلٍ، طِفْلاً يَتُوقُ إِلَى خَلْقِهِ، لَمْ يَضَعْ بَيْنَهُ وَخَيْطِ
الْوَهْمِ مَسَافَةً، لَمْ يَسَلْ إِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ".
وَكَانَ كَأَنَّهُ أَرَادَ إِعْفَاءَنَا/ إِعْفَائِيَ عَنْ تَقْدِيمِ عَمَلِهِ
الْـ"جَاهِلِيِّ" هذَا، فَقَدَّمَهُ بِأَسْهَلَ مِمَّا لَمْ أَزَلْ أَدُوخُ
فِيهِ:
"هذِي الْقَلاَئِدُ رَسْمٌ مُعَلَّقٌ عَلَى الرَّسْمِ. الرَّسْمُ نُقْطَةٌ
وَالنُّقْطَةُ رَسْمٌ. عِلْمُ النُّقْطَةِ قَبْلَ حَرْفٍ مَضَى؛ رَفِيفُ هَمْسٍ
فِي الضَّوْءِ يَلْهُو، بِصَاحِبِهِ قَدْ سَرَى".
وَكَانَ كَأَنَّهُ يَمُدُّ لِسَانَهُ لِمِرْآةِ مَاءِ الْحَيَاةِ مُعْتَرِفًا
بِفَرْدَانِيَّتِهِ الْمُسْتَوْحِشَةِ، وَنَرْجِسِيَّتِهِ النَّاعِمَةِ الَّتِي
تَتَخَلَّقُ فِي كُلِّ مُبْدِعٍ حَقِيقِيٍّ:
"هُنَا فِي الْخَلْقِ أَطَلَّ رَسْمٌ لِذَاتِ لَذَّةٍ، لَهَا الرُّوحُ
تُنَادِي. نَدَهْتُ وَجْدًا، فَاضَ عَلَى صَدْرِهَا، وَحْشًا عَادَ، نَدَّ
عَنِّي أَوْتَادِي.. وَلِي فِي الشِّعْرِ نَدْهَةٌ أَعْرِفُهَا، عَلَتْ
عَرْشًا، عَنْهُ غَابَ أَنْدَادِي".
وَكُنْتُ كَأَنَّنِي بَلَغْتُ غَابَةَ غَايَةِ الْعَمَاءِ، حَيْثُ "الْبَصَرُ
عَتْمَةٌ زَائِلَةٌ تَرْقُدُ فِي الضَّوْءِ"، وَحَيْثُ الإِبْدَاعُ، مِنْ
لُغَتِهِ مَدْخَلاً، إِلَى غَايَتِهِ مُذْهِلاً، هُوَ هكَذَا، وَلاَ بُدَّ.
•
مَاتَ وَأَخِيرًا لَيْسَ آخِرًا..
الْحَقِيقَةُ، وَاجِبَةُ الذِّكْرِ، أَنَّنِي كَتَبْتُ هذَا "الْمَدْعُوَّ-
"التَّقْدِيمَ"، تَحْتَ طَائِلَةِ الصَّدَاقَةِ الْحَمِيمَةِ لاَ أَكْثَرَ،
(أُحِيلُكُم إِلَى الْفَقْرَةِ الأُولَى مِنْ شَجَاعَتِي الْيَائِسَةِ هذِهِ)،
وَالْحَقِيقَةُ، أَوْجَبُ الذِّكْرِ، أَنَّنِي، بَعْدَ أَنْ عُدْتُ لِقِرَاءَةِ
مَا كَتَبْتُ، وَجَدْتُنِي لَمْ أَكْتُبْ شَيْئًا؛ إِذْ شَعَرْتُنِي أَنَّنِي
فِي دُوَارِ غُبَارٍ، وَلَمْ أُمَكِّنِ الْعَيْنَيْنِ سِوَى مِنَ التَّثَبُّتِ
فِي مَحْجَرَيْهِمَا، عَلَى دُمُوعِهِمَا الْحَجَرِيَّةِ الْفَائِضَةِ عَنْ
حَاجَتِي لِلرِّثَاءِ، وَقَدْ كُنْتُ لَمْ أَفْعَلْهُ وَلَنْ، فَاقْفِزُوا
عَنْهَا وَعَنِّي إِلَى "جَاهِلِيَّاتِ" عُلاَكُم وَعَلاَئِكُم الْكَاتِبَةِ..
أَلاَ تَرَوْنَ مَعِي أَنَّ التَّأْنِيثَ يَلِيقُ بِهِ، أَيْضًا، كَمَا
رَآنِي؟!
* تَقْدِيمٌ لِكِتَابِهِ "جَاهِلِيَّاتٌ" الَّذِي لَنْ يَرَاهُ، وَلنْ يَرَى
حِبْرَ دُمُوعِي.