أحفاد
لطفي السيد بين القطيعة المعرفية، و وهم تحرير العقل
ياسر عثمان - مصر*
أقراص قبلَ القراءة.
أتَيتُ بِمَنطِقِ العَرَبِ الأَصيـــلِ
وَكـانَ بِقَدرِ
ما عايَنتُ قيلـي
لأقدحَ
في كَلامٍ كـانَ مِنــــهُ
بِمَنزِلَةِ النِساءِ مِــنَ
البُعولِ
بهَذا الدُرِّ مَأمونِ
التَشَظّــــي كأنْهُ
السَيفُ مَأمونُ
الفُلـولِ
و َلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَـيءٌ
إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلـى
دَليـلِ
(
مع الاعتذار للمتنبي عن استبدال ما فوقَ الخط بكلمات المتنبي في نصهِ الأصل)
1-
أحفاد لطفي السيد وخديعة تحريرالعقل:
ها
هو لطفي السيد يطل من نافذة التاريخ مرةً أخرى محاولاً إرساء مفاهيم السياسة
الأوروبية ونظمها والترويج لعلمانية الدولة وتحرير العقل، وذلك من خلال الأقلام
المتسلقة التي تحاكي إدريس راغب، وعبد الرحمن الدمرداش، وعمر سلطان ( أقران لطفي
السيد ).. فالفكر هو هو والسيناريوهات هي هي. فقط الذي تغير هنا هو الأسماء فراغب
وسلطان والدمرداش والسيد تم تبديلهم بأسماء أخرى يجمعهم نسبٌ فكريٌ واحد يمكن
الوقوف على درجة قرابته في هذا القول: ( أحفاد لطفي السيد) الذين نسوا أن الأمَّةَ
التي رزئت بهم قد رُزقت - بحمد الله وفضله - بأحفاد عبد الرحمن البرقوقي،
وعبد العزيز جاويش وعلي يوسف وأحمد زكي باشا ورشيد رضا، وشتان بين أحفادٍ وأحفادٍ.
لا
أحد يقبل بأن يكون العقل مقيدًا، كما أنهُ لا يوجد منطقٌ سويٌّ يقبل بضرورة إطلاقه،
هذا المحدود لمقاربة اللامحدود، هذه هي قاعدة النور التي يجب الانطلاق منها في خضم
الحديث عن مسألة تحرير العقل هذه التي هي واحدة من مخرجات الفكر الليبرالي، فالدعوة
إلى تحرير العقل مسألةٌ يؤخذ من أصحابها ويرد عليهم، وهذا الأخذ وذلك العطاء إنما
يكون بإعمال عددٍ من الأسئلة التي تفض الإشكال حول مثل تلك الدعاوى المراوغة. فمن
أي شيءٍ تحرر العقل الليبرالي العلماني الغربي؟ ومن أي شيءٍ يريدُ مثيلهُ في العالم
الإسلامي أن يتحرر؟ هذا هو مفرق الطريق في تلك المسألة. فتحرير العقل عند
فرانسيس بيكون يعني فك إسار العقل من الخرافات والأساطير، وهو عند فلاسفة
أوروبا العلمانية تحرير العقل الأوروبي من الأساطير التي أدخلت على الكتاب المقدس
للشعوب المسيحية ومن تعاليم الكنيسة و من كهنوتها، تلك الدعاوى التي نَحَتْ منحىً
إلحادياً وانتصر لها كبارُ فلاسفة أوروبا العلمانية مثل كانت وجيته وآدم سميث
وديفيد هيوم، وديدرو وسبينوزا ( وإن كان البعض من هؤلاء الفلاسفة المشار إليهم
كان ربوبيًا يؤمن بوجود الله ويكفر بالدين مثل آدم ميث، والبعض يكفر
بالمسيحية وينقدها ويفككها انتصارًا ليهوديته مثل سبينوزا) .
هذا بالنسبة للعقل الأوروبي. فأي تحرير للعقل ينادي به لبراليو مصر،
ومن أي الخرافات يريدون لهذا العقل أن يتحرر؟ وهل في دولة الإسلام كهنوت؟ يكبل
العقل وهل في كتابنا العزيز أساطير يريدون التحرر منها؟ حاشى لله.. فقد كذبهم الله
وكذب أمثالهم من قبل: "
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ
وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) ( سورة الفرقان ).
إن الإسلام لم يكن ليعوقَ مسارات العقل في الوصول إلى اليقين، وفي
سبر أغوار الحقائق الكونية أبداً، حتى يزايد عليه الفكر الأعور لدى أشباه المفكرين
وأشباه المثقفين. فإذا كان اللاهوت الغربي قد نبذ "منهج الشك" في العقل
الليبرالي الغربي منذُ ظهور هذا المنهج في فلسفة ديكارت، فإن الإسلام قد
احترمَ – قبلاً - ذلك المنهج باعتباره طريق الإيمان وطريق اليقين، فعندما أراد
إبراهيمُ عليه السلام أن يصل إلى أعلى اليقين لم يلُمْهُ القرآنُ على ذلك ﴿
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ
أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ( البقرة 260 )
. ( 6 )
فكيف؟ بعد كل ذلك يقبل منطقٌ ما أن يضع حريةَ العقل نقيضًا لدينٍ
قام على تحرير العقل من القيود ومن الأغلال التي كانت عليه، عندما جمعَ غاية
الرسالة المحمدية في تحرير العقل ، بل وتحرير الإنسان كليةً ، وفي تنظيم علاقة
الإنسان بالكون والحياةِ والأشياء وفق منظومة الحلال والحرام، ثمَّ بتنظيم علاقة
الإنسان بالشأن العام من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال سبحانه وتعالى﴿
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾(
الأعراف 157
). ( 7 )
كيفَ يقبل منطقٌ بعد كل ذلك أن إعمال العقل الذي هو جوهر الليبرالية الحديثة، يناقض
الدين في شيءٍ بعدما تكلم القرآن عن العقل وتحريره وفكه من القيود وإعماله في غير
موضعٍ وعبر طرائق متنوعة تتراوح بين التدبر والتأمل والنظر والتعقل والتفكر، والتي
منها مثالاً لا حصرًا:
1-
في التدبر:
قولوه سبحانه ﴿أ َفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا﴾ ( محمد 24).وقوله ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ( ص 29).
2-
في النظر:
قوله جل وعلا ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ﴾ ( العنكبوت 20). وقوله ﴿ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (النحل 36).وقوله ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ ( النمل 69).
3-
في التفكر:
قوله عزَّ وجلَّ ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (176). وقوله
﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (44).
4- في التعقل:
﴿
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (
البقرة 164).
2-
الفكر الليبرالي العربي والسقوط في فخ القطيعة المعرفية:
لقد وقع الفكر الليبرالي العربي ( وما الفكر المصري إلا نسيجٌ في هذا الفكر)
الداعي لحريةِ الفرد من منظور الليبرالية الغربية الحديثة - في فخين نصبتهما
العولمة بقصدٍ، أو بدون:
- الفخ الأول:
قياس حداثة الفكرِ وقدمهِ بمنظورِ الزمنِ والتحقيبِ الزمنيِّ، ولو قيسَ الفكر
والنظرية بمدى قدرةِ كلٍّ منهما على مواءمة الظرف الراهن والتعاطي معهُ بشكل أكثر
فعالية وأكثر نجاعةً، بما يفضي إلى خلق حلول مبدعة لمشكلات اللحظة، لعرف
الليبراليون بأن " ابن خلدون أكثر حداثةً من ماركس، وأن أفلاطون أكثر حداثةً من
نيتشه" ( 8
).
- الفخ الثاني:
تسويغ العولمة للحداثة بوصفها قطيعةً معرفيةً مع التراث، فتعاطى المثقفون العرب
المحسوبون على التيار الليبرالي مع قضايا حرية الفرد بمعزلٍ عن خصوصية المجتمع
العربي والإسلامي، وبمعزلٍ عن التاريخ الإسلامي، وعن وثيقة المدينة المنورة، ويوم
السقيفة وكل ما من شأنهِ أن يُعدَّ البدايةَ الحقيقية للتنظير لحرية الفرد في
بعديها الفردي والسياسي.
وليس الخطاب الليبرالي المصري استثناءً من هذه الوقيعة التي جرَّت أصحابها إلى وضع
الليبرالية ( في بعدها الإيجابي المتعلق باحترام المؤسسات ودولة القانون والحرية،
والعدالة... إلخ ) - بقصدٍ أو بدون - نقيضًا للدين وقيمهِ كأنَّ الدين لم ينتصر
للحريةِ يوماً.
لقد
تشرب الخطاب المذكور كأسَ القطيعةِ هذه بسبب تجاوز أقطاب هذا الفكر- إمَّا جهلاً،
وإمَّا إعراضًا - للنص القرآني وللسنة النبوية المطهرةٍ قولاً وفعلاً وتقريراً
وصفةً ولأقوالِ الصحابة ومنهم الشيخان أبو بكرٍ وعمر ومن بعدهم من التابعين
وتابعيهم، تلك المقولات التي أرهصت للحرية السياسية وللعلاقة بين الحاكم والمحكوم،
والتي شكلت اللبنات الكبرى التي تعدُّ حجرَ الأساس للحرية الفردية في شقيها الفردي
والسياسي.
الهوامش والمصادر:
( 6
) عمارة، محمد،الإسلام وحقوق الإنسان، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة
والفنون والآداب، الكويت عدد89 مايو1985.
( 7
) المرجع السابق نفسه ص 20.
( 8 ) للدكتور أبو يعرب المرزوقي كلام جديدٌ في مسألة حداثة الفكر
وقدمه وإن كنت لا أذكر اسمَ كتابه الذي استقيت منه جملتي المنصوصة هذه .
*
شاعر وكاتب من مصر.
Yasserothman313@yahoo.com
*
*من سلسلة مقالات للكاتب موسومةٍ " ندوبٌ في جبينِ الفجر ..سلسةُ مقارباتٍ ثقافية
للحال المصرية بعدَ ثورة يناير2011 م".
|