يحميك
الله .. يا وطني !!
لطفي زغلول – نابلس
بادىء ذي بدء ، نرفع الأيدي إلى السماء ، سائلين الله العلي القدير
أن يحمي هذا الوطن من كل شر وسوء ، ومن كل مكروه وضرر ، ومن كل ما نخشى منه
ونحذر . إننا نتوسل إليه ، وهو المجيب ، أن يحفظه واحدا موحدا . إننا نتمنى
عليه ، جلت قدرته ، أن يمن على مواطنيه ، أينما كانوا ، مقيمين على أرضه ،
أو في الشتات بالأمن والأمان ، والطمأنينة والسلام . إننا نرجوه ، وهو قابل
الرجاء ، أن يؤلف بين قلوبهم ، وأن يرفع بين ظهرانيهم راية وحدة الصف
والهدف .
فلسطين ما كانت إلا أرضا واحدة ، إلا وطنا واحدا ، إلا قضية واحدة .
جنوبها امتداد لشمالها ، وشمالها سند لجنوبها . لا يفرق بينهما بعد جغرافي
، ولا بون ديموغرافي . الإنتماء واحد ، الجرح واحد ، النكبة واحدة ، النضال
واحد ، والتضحيات واحدة . إنها مشيئة الله جل جلاله أن يمتحن هذا الشعب في
وطنه ، في نفسه ونفيسه ، ولا اعتراض على مشيئة الله . إن الإعتراض على
تجزئة الوطن والقضية ، على احتراب بعض من أبنائه ، على ازدواجية النظرة
إليه .
إنها أيام من تاريخ فلسطين عصيبة ، تضاف إلى أجندة أيام الوطن الجريح
. لم تمض بضعة أسابيع على إحياء الشعب الفلسطيني للذكرى السنوية التاسعة
والخمسين للنكبة التي دخلت عامها الستين . لم تمض إلا أيام معدودة على
الذكرى السنوية الأربعين للإحتلال الإسرائيلي لكامل التراب الفلسطيني . وها
هو الشعب الفلسطيني الدامي الجراحات ، المثقل بالأحزان والمآسي ، يصحو على
محنة ، هي أخطر من كل المحن التي عاشها ، على مدار أيام نكبته .
وإذا كانت كل المحن والكوارث الإنسانية التي ابتلي بها الشعب
الفلسطيني على مدار قرن من الزمن ، قد كانت وما تزال تداعيات لمؤامرة كبرى
، حاكت خيوطها الدول الإستعمارية الغاصبة ، فإننا نقول ، والأسى يعتصر
قلوبنا ، إن هذه المحنة الراهنة هي من صنع أيد فلسطينية ، اختلفت رؤاها ،
وتعددت اتجاهاتها ، وحادت عن المسار الأوحد والوحيد للقضية الفلسطينية .
وهكذا كان الصدام الذي تعدى كل الخطوط الحمراء .
إنه مشهد فلسطيني حالك . الدم الفلسطيني لم تعد له حرمة . المواطن
الفلسطيني لم يعد آمنا . تغتاله هذه المرة رصاصة فلسطينية . البيت
الفلسطيني تهدمه على رؤوس أهله أيد فلسطينية . تحرقه نار فلسطينية . الغضب
الفلسطيني أصبح أعمى أصم . لم يعد يرى ما تصنعه يداه ، ولم يعد يسمع أنين
ضحاياه ، ولم يعد يفكر بأبعد من راهن طيشه وجنونه .
ها هي خارطة الوطن ، يلونها الدم والنار . تظللها غمامات التنائي
والإفتراق .من كان يصدق أن تفرز أجندة أيامها أياما كهذه الأيام مجنحة
بالمآسي والأحزان ؟ . من كان يصدق أن تطل شمس يوم الخامس عشر من حزيران /
يونيو على الشعب الفلسطيني ؟ . هذا اليوم الذي شرخت فيه مرآة القضية
الفلسطينية ، وحمل معه نذر الشجون والأشجان . إنها الحقيقة المرة . إلا أن
الأمرّ منها أنها هذه المرة من صنع أيد فلسطينية ، لونت مشهد الوطن بالرؤى
السوداء .
إننا ونحن نقرأ المشهد الفلسطيني الراهن ، لا نبغي تكرار ما سبق لكل
الخيرين والمخلصين أن سألوه : من المستفيد الأوحد والوحيد من هذا السيناريو
الفلسطينيي على مسرح القضية الفلسطينية ؟ . إن أبسط إنسان فلسطيني يعلم
يقينا أنه الإحتلال الإسرائيلي . إن ما لم تستطع إسرائيل وكل أعداء الشعب
الفلسطيني أن يحققوه طوال قرن من الزمان ، يخشى لا سمح الله أن يكون قد تم
تقديمه مجاناعلى طبق من ذهب لهم .
إلا أننا ، وقد فتحنا هذا الملف ، لا بد لنا أن نؤكد على آثار سالبة
، يخشى أن تكون قد أفرزتها تداعيات الأمور في كل الأراضي الفلسلطينية
شمالها وجنوبها ، ضفتها وقطاعها . وبداية ، يخشى أن تكون النظرة الواثقة
للمواطنين الفلسطينيين إلى أنفسهم ، قد تضعضعت ، وأنهم لاسمح الله جراء ذلك
سوف ينظر إليهم على أنهم لم يبلغوا سن الرشد السياسية .
وثانية منظومة هذه المخاوف التي أخذت تعصف بالفلسطينيين ، فإنه يخشى
أن ينظر إليهم ، والأهم من هذا أن ينظروا هم لأنفسهم أنهم ليسوا أهلا لحكم
أنفسهم ، وإدارة شؤونهم . فما إن " تحررت " مساحة من الوطن ، حتى انفجرت
خلافاتهم الخطيرة ، فكيف فيما لو تحرر كامل الوطن ؟ .
وثالثة هذه المخاوف ، فإنه يخشى جراء ما حدث من اقتتال دام وانقسام
خطير ، أن تكون الديموقراطية التي تغنى بها الشعب الفلسطيني ، ما هي إلا
حالة عارضة ، أو سحابة صيف عابرة . وها هي أكبر فصائله تتنكر لها ، وتصر
على تحكيم لغة الحديد والنار بدل لغة المنطق والحوار ، لغة احترام الرأي
والرأي الآخر ، لغة التآخي والتواد والتراحم ، لغة الشراكة العادلة في
تصريف شؤون الوطن ، لغة ثوابت القضية التي ليس لها إلا أبجدية واحدة وحيدة
، تتمثل في استعادة كل استحقاقاتها الشرعية .
ورابعة هذه المخاوف ، ومرة أخرى ، نرفع أيدينيا إلى السماء ، سائلين
الله جلت قدرته ، أن لا تكون هذه الأحداث مقدمة لما هو أسوأ . وهل أسوأ من
أن تنحر القضية في مذبح الصراع الفئوي على الإستئثار بالسلطة ، والإنفراد
بها . وعلام هذا الإقتتال اللامبرر بين الأشقاء ؟ . علام هذا الصراع الدامي
الذي لا هدف له إلا المحاصصة والإستئثار ؟ . إن الوطن محتل ، والقضية في
الأسر .
لقد صمدت القضية الفلسطينية طيلة عقود طوال من الزمان رغم التحديات
والصعاب والمحن ، والتضحيات الجسام بالنفس والنفيس ، كون المنظور كان واحدا
. أما والحال هذه ، فإن القضية تمر في تجربة خطيرة غير مسبوقة ، تعصف بها
الأهواء الشخصية ، والأنانية الفردية .
إلا أننا نحن الفلسطينيين ، وبرغم هذا النفق المظلم الذي لا يلوح
بصيص نور في آخره ، لا نيأس ولا نقنط من رحمة الله . إن ثقتنا بالله لا
يرقى لها أي شك . إننا نؤمن أن الدم الفلسطيني لن يستحيل إلى ماء . إن
القضية إرث مقدس ، لا يمكن التفريط به . إنها خط أحمر ، لا يمكن أن يداس .
كلمة أخيرة ، هناك حقيقة لا يمكن التغاضي عنها ، أو الإلتفاف عليها ،
أو تجاهلها مؤداها أن أيا من الفصيلين الأكبر والأقوى في الساحة
الفلسطينية – وهما جزء من الوطن وليسا كله – لا يمكن للواحد منهما أن يجتث
الآخر ، أو أن ينكر وجوده ، أو أن يلغيه من أجندته . إنه الوجود الفلسطيني
قائم على التعددية . إنها التعددية لا عنوان سواها . فهي الحصن الحصين
للوطن . وهي مفتاح الدخول إلى الوفاق والإتفاق . وهي السور الفلسطيني
العظيم لحماية القضية والحفاظ على ثوابتها . ولا بد من الرجوع اليها الآن
الآن وليس غدا .
إن الذين صعدوا إلى أعلى أغصان الشجرة في لحظة من لحظات الغضب
والمرارة ، لا بد وأنهم سوف ينزلون منها . لا بد وأنهم سيعودون إلى حضن
القضية . فهم وإن كانوا خطين عقائديين متوازيين ، إلا أنهم فيما يخص القضية
الفلسطينية المقدسة ، لا يمكن لهم إلا أن يتلاقوا ، ولا بد أن يعود الوئام
والسلام ، ولا بد أن تعود قضية التحرر من الإحتلال هي الشغل الشاغل ،
والوسيلة والهدف . وما دون ذلك هو الإنتحار والإندثار . وإن غدا لناظره
قريب . والله يحميك يا وطني .