إمبراطورية
الوهم وخرائب الحقيقة - البحث عن الجسد اللقيط
منال الشيخ - العراق
فرق بين سويدي يكتب عن شهوة النار وبين تعابير الجحيم في وجه استوائي
أحرقته النار... كنت أقرا مقالة للشاعر العراقي بشار عبد الله عن الطريقة
المثلى لعمل فني ولكتابة الشعر او النص الأدبي عموما تحت عنوان ( تأهيل
الفراغ في الحجر الخام ) والمنشورة في جريدة الزمان الدولية في أحد أعدادها
الصادرة هذا العام 2006 ومن قراءتي تخيلت أن اكتب عن البحر وأنا لم أر بحرا
قط وكثيرا، ما كان يعيب الكتاب الواقعيون على الأقلام التي تهذي بما لم تر
.. وكنت أتساءل دائما، هل إذا كنت أعيش في غرفة مساحتها 12 م2 لا أرى منها
غير الجدران ونافذة صغيرة مطلة على قضمة قدرية مسماة بالحي الفاني، فإنني
سأحرم من اجتياب بحر والكتابة عنه حتى وإن لم أتعرف على رائحته .. هنا علي
أن أتوقف برهة وأخاطب فراغ شاعرنا أو فراغ مايكل أنجلو الذي تماهى معه، هنا
لن أقول مثلما قال (يجب أن اقطع من الحجر كل ما هو ليس فيلا كي احصل على
فيل) ولكن علي أولا أن أتعرف على الفيل نفسه لأجده في هذا الفراغ .. وهنا
أيضا نستدرج الوعي للأنات ونستقبل احتمال بزوغ أي فجر مفاجيء لليل مختمر في
حلق الكلام.. يعد التماس مع متروكات الواقع المهملة إحدى مرتكزات التواصل
مع طبيعة الوجود، في لحظة أرمي قصاصة ورق أو خصلة شعر هدرت عمرها في ذات
مزاج.. وأين ستكون مصائر هذه المهملات! النبش الآن أصبح واجبا! في تداعيات
الكتابة يكون على الحبر أن يختار الورق المتأصل ليمتص غضب عتمته وبما أننا
أصبحنا نستغني عن الحبر وآلام باركر النازحة إلى قسم الأرشيف، فقد خف عنا
عبء البحث عن ورق أصيل.. وصار ظهور المرأة الحبلى بلفائف سرية محتملة في
نطاق التغييب والتغريب ولهذه المرحلة أصولها بدءا من الفراغ المجني عليه
بالثبوت وانتهاء باللانهاية المحتملة لاستقبال وليد لقيط.. وكما أشار
الشاعر باسط بن حسن في إحدى طروحاته عن الجسد اللقيط.. تساؤلات حول قصيدة
النثر : (وإذا تجاوزنا النظرة التبسيطية إلى ثنائية القديم/ الجديد، فإننا
سنقف على مفارقة رهيبة وهي إن قصيدة النثر هي فعلا جسد لقيط مخيف ومخلوق
مشوه، وهي مثلها مثل كل منجزات الحداثة، نتاج تدمير قواعد النظرة القديمة
إلى العالم والإنسان. فمن الكائن الكامل الذي تحكمه رؤية مركزية للعالم،
انتقلنا إلى الكائن المجزأ المرتحل في عراء مصيره وقد هجرته الحقائق
المطمئنة.) هنا يجب أن نقف قليلا قبل الاسترسال.. لم أكن اعرف أن ثمة في
الجانب الآخر من الزمان شاعر يبحث عن نص لقيط كما هو دأبي دائما.. ولكنني
أعلنها صراحة أن لا احد منا يريد لوليده أن يكون مشوها، وكما ثبت عبر
التاريخ ومازال يثبت أن الوليد الناتج عن العلاقة غير الشرعية لا يكون
بالضرورة مشوها، بل على العكس قد تتمخض تلك العلاقة عن أنتاج جمال خارق على
خلفية تزاوج غير منطقي بين جمالين محكومين بقوانين خاصة لا عامة من التي
يشترك بها الكل في حال التزاوج الشرعي، وهكذا يكون الجمالان بقوانينهما
الخاصين قد آثرا طقوس تزاوجهما خارج نواميس المقدس، بصرف النظر عن الديني
إزاء التزاوج الشاذ هذا الخارج على قوانين الحياة والدين. سنأخذ النتاج هنا
على محمل الجد في تبني جمال مغاير ونحاول تسميته ومن ثم ليكون في مقدورنا
متابعة نموه بيننا وممارسة كل الحقوق المناطة بالوجود السوي الذي يتمتع به
أقرانه. وبدءا أستميح عذر من قد يعترض على كلمة مفردة(أقران) ولكنه الواقع،
فأقول: اللقيط لا يختلف عنا في تركيبه الجسدي وتعينه الوجودي، إذ له ما
لنا.. وعليه ما علينا .. نفخ فيه الروح مثلنا ولكن يبقى هذا المنغص
التكويني يلاحقه حد الهذيان بحثا عن اصل الفرع المنسلخ وجودا والمتعلق في
فراغ سماء بلا جذور.. لكنه مع ذلك موجود لا يموت إلا مثلنا في حادثة أو
بمرض أو غفلة كما يموت الكثيرون!! وإذن فنحن طالما قلنا انه موجود يتعين
علينا التعامل مع وجوده هذا وتمحيصه قبل تخيله في فراغ لنستخرجه بعد ذلك من
خلوة الضياع. وهنا سنبدأ بصفات هذا الكائن وكيفية تمييزنا له بين ألوف
مؤلفة من المتجسدات. منذ بدايات القرن والكاتب المثابر يبحث ويبحث عن شيء
اسمه المغادرة ونظن في كثير من الأحيان أن المغادرة وليدة هذا العصر أو
أواخر هذا القرن بالتحديد. إن أي نص ظهر قبل غيره هو تجربة مغادرة والعمل
على تشكيل ما هو غير مألوف في نصب الكتابة حتى الحكاية التقليدية والرواية
والشعر المقفى الموزون.. إذا تخلينا عن شكل النص وبنيته، فعلينا أن نبحث في
جوهر الجسد عما يخفيه الجسد نفسه من تشوهات أو جماليات متناهية لكنها خفية
على البصر ولا تدركها سوى عين البصيرة. بل إن البعض تخيل أيضا أن هدم بنية
النص التقليدي وشكله هو عين المغادرة والحداثة التي يبحث عنها الكاتب، وكان
هذا بحد ذاته شركا أمام الباحث، نعم هناك ضرورة لكسر القوالب والبحث عن
الشكل وولوج التشكيل على مستوياته كلها، والتخلي عن مفردات تعب النقد في
اجترارها على مر المسيرة النقدية النمطية.. إن البحث الجديد هو ضرورة في ظل
نتاج جديد .. ليس علينا تطبيق أسس النقد المتعارف عليه على كل النتاجات
ولكن يجب علينا أن نؤسس لمسار جديد بلا أسس، يحتمل كل التغييرات والمفاجآت،
وهذا يتطلب فدائيين يغامرون بتاريخهم من اجل الوصول إلى القمة التي تمنح
مفتاح (مغادرة) الأرض إلى عنان السماء .. يجب أن تكون مغادرتنا الآن سامية
ولن نكتفي في السير والركض نحو هدف ثابت أمام الأفق. مما لا شك فيه أثناء
بحثنا عن النص اللقيط وجوب تذكر حقيقة مفادها أننا نحن من سيختار الأب
والأم لتهيئة ظروف تزاوج لا شرعي وهذا سيعني على خلاف الحقيقة اللحمية
الكائنة أننا نعرف الجذر ولكن علينا أن نخفيه عن المختارين وحفظة السجلات
لئلا يتعرض هذا الكائن إلى اضطهاد الآخر وضغوطاته في تثبيت النسب. هذه هي
لعبتنا الآن.. قد يعترض البعض كأن يقول إن هذا الطرح ليس بجديد وقد طرح
مسبقا على أشكال عدة ودراسات عديدة تعتني بهذا المخلوق ولكن بطرق مختلفة..
وهنا المعنى أن ما يحاجونني فيه هو تزاوج الفرس مع الحمار لإنتاج بغل عاجز
عن التكاثر وكذا في النص إذا حاولت أن تزاوج بين أكثر من جنس كتابي للحصول
على كائن مغادر يغامر بمسميات الطبيعة، فإننا سنعجز عن تكثيره فيما بعد.
وعندما ذكرنا أننا نعرف من هو الأب والأم لم نقصد أن نزاوج الأجناس
الموجودة، المتعارف عليها وإنما قصدنا خلق جنس كتابي جديد لا يعتمد أصلا
على أي من الركائز الكتابية وربما يكون الأب والأم من خارج سرب الأجناس
الكتابية، كأن تكون مادة موجودة في الطبيعة، أو حلما معاقرا لنمط التحقيق،
أو أية تجربة لا تمت للكتابة بصلة لخلق جنس جديد، مفرداته مبنية على أسس
وهم حقيقي.. ومع ذلك نعرفهم وهنا تكمن حلاوة الكتابة. لم اصل في مؤسسة فكري
لحد الآن إلى روح هذا الكائن الذي ابحث عنه بالرغم من إشارة الشاعر باسط بن
حسن إلى أن قصيدة النثر أو أي نص نثري يمتلك مقومات الشعرية العالية هو
بمثابة نص لقيط، وكما ذكرت أنا اتفق معه، ولا اتفق من حيث اختياره لهذا
الجنس الكتابي الذي اتعب كثيرين في تسميته وإعطائه الشرعية والتوصية عليه
بين قراصنة الأجناس والتجنيس. ما ابحث عنه الآن وما أريد أن اخل توازن
الطبيعة به هو الصعقة المميتة وليست الضربة التي تدغدغ الصدع في مخيلة
الفنان، وأظن أن أي شيء ابحث عنه هو موجود في الفراغ، ولكن قبل أن أبدا
باكتشاف الجسد في فراغ مايكل انجلوا يجب علي أن أتعرف على من سأعبث به،
وأمنحه عرابتي، هذه هي الخطوة الأهم لفهم اللغز الكامن في ضمير التقطيع.
وليس علي أبدا أن أزور الهند أو حديقة الحيوانات لأتعرف على الفيل كي أجده
في الفراغ ولكنه الاستحضار الروحي لهذا الكائن في مخيلة الوعي الهاربة إلى
اللاوعي، الذي يمنح الاضطراب شيئا من نظام في ترتيب نظم الارتجال الفوري
لجسد الوليد، ولا بأس إذا جاء الفيل بلا خرطوم أو أقدام عظيمة تدق أشجار
الموز في غابة التناسل الفطري. المهم أنه يحب الموز. والبحث مستمر...