
ليست الغائب الوحيد!
أحمد عبدالمعطي حجازي - مصر
هناك من يظن أن الترجمة ليست إلا نقل المعرفة من لغة الي لغة, وفي هذا
الظن شئ يستحق التوضيح لان المعرفة لا يمكن أن تنتقل من لغة الي لغة وتبقي
هنا كما كانت هناك, فكل لغة لها منطقها وثقافتها, وكل كلمة لها تاريخها
وعلاقاتها التي تحملها دلالات تختلف قليلا أو كثيرا عن دلالات الكلمة التي
تقابلها في أي لغة أخري, فالكلمات ليست مجرد علامات رياضية محايدة,
وانما هي رموز مشحونة بالصور والايقاعات والتجارب والمعتقدات.
العرب يؤنثون الشجرة, والفرنسيون يذكرونها, وهؤلاء يؤنثون القمر
ويذكرون الشمس, ونحن نفعل بالعكس, فعلي المترجم أن يكون واعيا بهذه
الاختلافات الحافلة بالمعاني حتي يتصرف فيها علي النحو الذي يضمن فهم
دلالتها في اللغة الأصلية, ونقلها الي اللغة الأخري بأدواتها.
معني هذا أن الترجمة ليست مجرد نقل سلبي كما تنقل ورقة نقدية من مكان الي
مكان وتبقي محافظة علي قيمتها, وانما الترجمة حوار بين لغتين أو بين
عقليتين مما يتطلب تعديلات أو اضافات تحقق الهدف منها, ومن هنا كانت
المراجعة في الترجمة واجبا ضروريا وشرطا أساسيا لابد من احترامه.
ليس عمل المراجع أن يتأكد من صحة النقل فحسب, بل ان يتأكد أيضا من قدرة
النقل علي الوصول بمضمونه الكامل قدر الإمكان الي القارئ, لأن النص
الأصلي له مصادره في ثقافة اللغة التي كتب بها, وهي مصادر لا يعرفها قارئ
اللغة التي نقل إليها, فعلي المراجع أن يزود الترجمة بما قد تحتاج إليه
حتي يتمكن القارئ من فهمها والتحاور معها, واذا كانت المراجعة ضرورية حتي
في ترجمة صحيحة موثوق فيمن قام بها, فهي ضرورية أكثر لتصويب ما قد يقع
فيه المترجم من أخطاء لا ينجو منها أحد, لكن المشروع القومي للترجمة أسقط
هذا الشرط واستغني عن المراجعة في معظم اصداراته فوقعت أخطاء كثيرة نالت من
قيمتها. في كتاب جمال الدين ابن الشيخ ألف ليلة وليلة أو القول
الأسير الصادر في المشروع, لم أفهم الأسباب التي اقتضت أن يشارك في
ترجمته ثلاثة مترجمين, ولم تيسر له مراجعا واحدا يتأكد من صحة الترجمة
ويعالج أخطاءها.
والكتاب في أصله الفرنسي لا يزيد إلا قليلا عن
مائتي صفحة, فهو بهذا الحجم المحدود لا يحتاج لأكثر من مترجم واحد يضمن
للترجمة أن تكون أسلوبا واحدا مطردا, ويترك لغيره ممن شاركوه أن يراجع
عمله ويصححه, لكننا رأينا ثلاثة مترجمين يضعون أسماءهم علي الغلاف دون أي
إشارة تحدد دور كل منهم أو تعين الأجزاء التي ترجمها, ثم تكون النتيجة في
النهاية هذه الترجمة المهلهلة.
والكتاب الذي أتحدث عنه عمل جدير
بالاهتمام, لأنه يفتح الباب لقراءة ألف ليلة في ضوء جديد يكشف عن قيمتها
ومعناها, ألف ليلة بالنسبة لمؤلف هذا الكتاب ليست مجرد حكايات متناثرة
نتسلي بقراءتها ونتجاوز بها الحدود الاجتماعية والأخلاقية, وانما هي عمل
واحد مركب, ولغة حرة ندافع بها عن وجودنا وعن رغباتنا.
لقد تحول
شهريار الي طاغية متوحش يتزوج كل يوم فتاة من عذاري مملكته, ثم يقتلها في
الفجر بعد أن يقضي معها ليلته, فقد خانته زوجته الأولي مع بعض عبيده,
فقرر أن ينتقم من كل نساء الأرض, وتشقي مملكة شهريار به, ويعجز وزيره
عن أن يلبي حاجته اليومية للضحايا الحسان, فتتقدم شهرزاد ابنة الوزير
لتنازل الملك بسلاحها هي, سلاح الحكاية أو الكلمة التي تنقذ بها بنات
جنسها من ناحية, وتعيد بها شهريار إنسانا سويا.
وابن الشيخ يبدأ
كلامه مستشهدا بكلمة للكاتب الفرنسي موريس بلانشو, يتحدث فيها عن وجود
مركز في كل نص أدبي يوحده ولو بدا مجزءا, وينتقل من كلام بلانشو ليتساءل
عن المركز أو القلب الذي تتجه إليه حكايات ألف ليلة ويحقق لها وحدتها,
نافيا أن يكون تعدد الحكايات وتتابعها عملا عفويا أو عشوائيا( وإلا فمن
هو الذي يستسلم لهذا المنطق الآن ويأخذ به؟) كما جاء في عبارته التي يقول
فيها.quis'yLaisseencoreprendre? لكن المترجم يعكس المعني فيقول متحدثا
عن الحكايات إن كل واحدة منها تندرج داخل نوع من الضرورة لا داخل منطق عبثي
للتقديم( وهو منطق لايزال يؤخذ به!)؟!
فاذا انتقلنا من أخطاء
الفهم عن الأصل الفرنسي الي أخطاء النقل الي اللغة العربية, فنحن في حاجة
الي صفحات وصفحات. وفي الترجمة التي قدمتها الدكتورة رجاء ياقوت
للكتاب المسمي مدخل الي الشعر الفرنسي الحديث والمعاصر ـ أخطاء كان الكتاب
يستطيع أن يتفاداها لو أتيح له مراجع يقظ.
حين نجد مثلا أن ديوان
الشاعر الفرنسي الشهير شارل بودلير المسميLesFleursduMal أصبح في هذه
الترجمة ورود الشر نشعر بالأسف والحزن, لأننا نثق في كفاءة المترجمة,
ونعرف أنها تعرف بلا جدال أن كلمة وردة في العربية لا تقابلFleur
الفرنسية, وانما تقابلها كلمة زهرة, فالترجمة الصحيحة لاسم الديوان هي
أزهار الشر وليست ورود الشر.
ولو أن هذه الترجمة جاءت علي هذا
النحو مرة واحدة لأرجعناها الي السهو, لكنها تكررت ست مرات وربما أكثر,
وإذن فالمترجمة مصرة علي أن تجعل أزهار بودلير ورودا بالذات.
ونحن
نعرف أن المصريين يحبون الورد ويعتبرون كل زهرة وردة, لكننا لا نقبل من
المترجم أن يستسلم لثقافته الشعبية فيقع في أخطاء من هذا النوع.
ولو كان ديوان بودلير عملا مجهولا لشاعر مجهول لغفرنا هذا الخطأ, لكن
بودلير شاعر معروف لدي قراء العربية, وليس هناك قارئ محب للأدب لم يطلع
علي الكتيب الجميل الذي كتبه عنه الشاعر عبدالرحمن صدقي وصدر في دار
المعارف في سلسلة اقرأ تحت عنوان الشاعر الرجيم, أو علي الكتاب الذي ألفه
عنه الشاعر إبراهيم ناجي بودلير وقصائد من ديوانه.. أزهار الشر, فضلا
عن الدراسات التي كتبها عنه مؤلفون أجانب وترجمت الي العربية ومنها كتاب
جان بول سارتر الذي ترجمه جورج طرابيشي وصدر في دار الآداب ببيروت.
فإذا علمنا أن الجانب الأكبر من الكتب التي صدرت في المشروع القومي للترجمة
لم تراجع أدركنا حجم الأخطاء التي وقعت فيها ولم يعد ممكنا تلافيها,
لأنها أصبحت في أيدي القراء الذين لا يستطيعون دائما أن يكتشفوا الخطأ أو
يصححوه بأنفسهم.
والمراجعة ليست هي الغائب الوحيد في هذا
المشروع, وانما هي نتيجة لغيابات يؤدي بعضها الي بعض, فالكلام عنها
يطول, ويكفي أن أنبه الي أننا نحتاج بالفعل الي مشروع للترجمة بشرط أن
يبرأ من هذه العيوب!
(نقلاً عن الأهرام بتاريخ 06/06/2007) |
Comments 发表评论
Commentaires تعليقات
click here 按这里
cliquez ici
اضغط هنا |
1-
د. عبد العزيز غوردو
ghourdou.abdelaziz@voila.fr
Sun, 22 Jul 2007 11:04:18
أستاذ أحمد: اشاطرك الرأي في كل ما ذهبت إليه، والواقع
أن كل ترجمة تحتمل قدرا من الخيانة للنص الأصلي (كما
يقول المثل الفرنسي) لكن المترجم الأصيل يبدد كثيرا من
الفروق بين المترجم والمترجم إليه، ويعمل على
تذويبها... وأكيد أن مراجعة النص بعد ترجمته تكمل
بناءه وتصويبه وتألقه
فقط عندي إضافة إلى ما تفضلتم بتقديمه عن ترجمة ديوان
بودلير، حيث إن كلمة"mal" لا تعني دائما الشر بل تعني
أيضا الألم مودتي ايها الشاعر القدير | |