أخطر ما يحدث
فى مصر -الآن- أنها توشك أن تدخل مرحلتها البيزنطية!.
قضايا هامشية تربك أولوياتها، ومجادلات فى غير وقتها تفسح المجال لمن يريد
أن ينكل بها أن يمضى الى حيث يريد، بينما أهلها مشغولون -كأهل بيزنطة- فى
التساؤل: أيهما كان أولا: البيضة أم الدجاجة؟!.
توشك مصر أن تستنفد ثقتها فى نفسها وفى تاريخها وفى مستقبلها.
الحيرة استبدت بها، واخذت تطلعاتها للمستقبل والثقة فيه تتآكل، وبدا
المستقبل ذاته يتحول من بشارات أمل الى نذر مرعبة!.ومن تلك النذر الفتوى
المنسوبة لأحد علماء الأزهر الشريف ب ارضاع الكبير، وأنه يحق لموظفة تعمل
فى مكتب يحوى رجالاً أن ترضع زملائها، حتى تكون لهم أما، ويصبح وجودها
بينهم حلالا.
ولا نشك أن مثل تلك الفتاوى تحريض على الفسق والفجور، بأى معايير أخلاقية،
باسم الحلال والحرام!. وهى فتاوى غريبة على الإسلام وشرائعه السمحة وتتناقض
مع عصرها وقيمه، وتحيل الدين الى أحوال تناقض جوهره فى الدعوة الى مكارم
الأخلاق الى ما لا يوصف من تهتك سلوكى ينسف العقيدة الدينية الرفيعة من
جذورها ويسحب عنها مصداقيتها الأخلاقية باسم العقيدة ذاتها!.
ولا يغير من الدلالات الخطيرة لتلك الفتوى اعتذار الأزهر عنها، وإحالة
صاحبها للتحقيق وايقافه عن العمل، فالمعنى أن المجتمع المأزوم بات مستعدا
لتقبل مثل تلك الأفكار والفتاوى، والجدل حولها، كأنها تستحق حقاً كل هذا
الاهتمام العام، وكأن قضايانا انتهت، ولم يبق أمامنا غير الخوض فى كل ما هو
فارغ ومعدوم القيمة ومسيء لديننا وهويتنا ووجودنا ذاته.
والأخطر أن المجتمع المأزوم بات مهيئاً لانتاجها، وتلخيص العقيدة السمحة
فيها، على نحو لا يحلم به أعتى أعدائها.
وباليقين فإن مثل تلك الفتاوى بالغة الضرر على صورة الاسلام من الرسوم
الدنماركية يكفى نشرها أمام الرأى العام الغربى لإنهاء أية صلة للإسلام
بالعقلانية أو الأخلاقية، وتلك الفتاوى وحدها كفيلة بإثارة موجات عنصرية
جديدة ضده، ولكنها مستندة هذه المرة الى شهادات موثقة من أصحابه والدعاة
اليه!.
والمشكلة فى مصر طوال القرن العشرين كله وما تلاه أن حركة الاصلاح الدينى
التى بدأها الامام محمد عبده أجهضت، ولم يتسن لها أن تتحول إلى تيار راسخ
فى حياتنا الفكرية والروحية يدعم القيم العقلانية فى فتاوى الفقهاء.
وهو المعنى الذى يفسر التصريحات الصادمة لفضيلة مفتى الجمهورية الدكتور على
جمعة الذى يجلس على مقعد الامام محمد عبده عن أن فضلات الرسول مقدسة وأن
الصحابة كانوا يتسابقون على شرب بوله!.
وهى تصريحات تنتقص من مقام الرسول الأكرم، وطابعه الإنسانى المؤكد، فهو لم
يقل أبدا إنه إله، أو به احد صفات الآلهة، بل هو إنسان يمشى فى الأسواق،
وتسرى عليه قوانين الحياة والموت والصحة والمرض، ولكن فضله الأكبر هداية
البشر الى آخر الرسالات السماوية وإتمام مكارم الأخلاق، فضلا عن أنها
تتناقض مع سمو العقيدة الإسلامية وشرائعها السماوية التى تدعو الى كرامة
الإنسان وتدافع عنها.
والمشكلة فى تصريحات المفتى الصادمة أن هناك من هو مستعد لأن يصدقها وأن
يضفى عليها قداسة، ففى أزمان الانحطاط يتراجع العقل، والثقافة معه، وتسود
الخرافات، ويتحول الدين عن جوهره الى ما نرى الآن. فالحديث عن النبى
الأكرم، ومكانته سامقة فى قلوب المسلمين جميعاً وفى صلب العقيدة الإسلامية،
وأن يقول المفتى إن الصحابة كانوا يتسابقون على بصاق الرسول للتبرك به قد
يجد من يصدقه، والخطر فى مثل تلك الفتاوى أنها تنزع عن الدين كرامته
والعقلانية فيه، وهى مؤكدة بنصوص القرآن الكريم، وتربك أولويات المسلمين،
فيأخذون فى نقاش يغلب عليه الهزل فى مقام النبوة عن فضلات الرسول، بينما
الإسلام ذاته ينتهك وقضايا العرب والمسلمين تضيع، ويبدو المشهد قريباً من
جدل بيزنطة حول البيضة والدجاجة، بل لعله يمضى بعيدا فى مضمار التخلف
والانحطاط عن بيزنطة وما جرى فيها ولها.
وفى مطلع الثورة الإيرانية نهاية السبعينيات أدان زعيمها الإمام آية الله
الخمينى هذا النوع من الفتاوى، وسمى أصحابها ب فقهاء الحيض والنفاس.
والمعنى أن هناك قضايا وأولويات أهم وأجدر بالاهتمام تعنى بإصلاح أحوال
المسلمين والعمل على نهضتهم واللحاق بركب العلم الحديث والتسابق فى مضمار
التقدم وعوالمه الجديدة. بل إن هناك قضايا ملحة فى الإصلاح السياسى
والدستورى، وتأكيد هيبة العدالة ودولتها، ورد اعتبار دولة القانون،
واستعادة دور مصر فى محيطها ومنطقتها تحت عنوان رئيسي: رد اعتبار الإنسان
المصرى نفسه.
غير أن فقه الفضلات والبصاق أكثر خطورة على مستقبل الأمة، وعلى عقلها
وروحها وأدوارها، فهو تعبير صريح عن تخلف ضربها فى مقتل ولا يبدو أن منه
فكاكا فى مدى منظور، فهو جزء من أحوال وصلنا اليها من زواج الاستبداد
والفساد، واليأس العام من الاصلاح السياسى والدستورى، هو جزء من الإحباط
العام من فكرة التغيير ذاتها. عند هذه النقطة بالذات قد تنقلب الأوطان على
تواريخها وتتنكر لهويتها وتغلب عليها الخرافات والبيزنطيات. وهنا مكمن
الخطورة الحقيقية. والقضية تتجاوز المفتى وتصريحاته وفتاوى أخرى صاحبتها عن
ارضاع الكبير، كاشفة أوضاع عامة تتردى فيها الثقافة والسياسة والمجتمع الى
أحوال تنذر بحرائق جديدة ومصائر تتجاوز بيزنطة وما حدث لها.
وفى الجدل البيزنطى الجديد تلك المداخلات المتواترة عن هوية مصر، التى
تحاول ان تنفى عنها عروبتها، وتتصور ان حل أزماتها والخروج منها فى التخلص
من أوهام العروبة، والتمادى فى لعنها، ووصم الملتزمين بها ب الدراويش،
كأنهم يتطوحون فى حلقات ذكر فى عزلة عن عالمهم وحقائقه! وهذا الكلام لايؤثر
فى هوية مصر ولا بوسعه نفى عروبتها، فالهويات ليست ألعاب هواء فى سيرك
نشاهدها ذات مساء ثم نمضى لحال سبيلنا، ولكنه يربك ساحة مرتبكة أصلا،
ويائسة تماما.
والمعضلة البيزنطية هنا انهم يتصورون اننا عندما نكف عن قولنا إننا عرب تكف
الحقائق عن أدوارها وقد تنتهى مشاكلنا بضغطة ذر، أو تبدو ممكنة الحل!، وبعض
الذين كتبوا فى لعن القومية العربية والعروبة والعرب، وجمال عبدالناصر
رمزها الأكبر فى العصور الحديثة، لا يشرف الأستاذ أسامة أنور عكاشة أن
يحسبوا على مراجعاته الفكرية أو ان يحسبوا عليه، فهو فى الحساب الختامى
مبدع كبير ووطنى مصرى دافع عن قضايا بلاده، وأفكاره من رأسه سواء وافقناه
عليها أم لم نوافقه.
ولا أدرى مشاعره وهو يقرأ مقالات سب وشتم فى جمال عبدالناصر، وهو ممن
يقدرون زعامته التاريخية وأدواره الاستثنائية، وهو صادق فى مشاعره، ولم
يتردد فى الإشادة بها عند صدامه مع أحد ثوابت تجربته فى الالتزام بالقومية
العربية.
وهذه نقطة تناقض فى مراجعات أسامة، فقيمة عبدالناصر الحقيقية هنا بالضبط،
فى تعبيره عن حركة القومية العربية الحديثة، وفى ربط مصر بمحيطها العربى
وقضاياه الفوارة.
وبالنسبة لدولة مثل موريتانيا فان عبدالناصر يعنى العروبة والالتزام
العربى، وعندما يقول مواطن موريتانى إته ناصرى فهو يقصد -أساساً انه عربى،
والفصل بين عبدالناصر والعروبة هو أقرب إلى الفصل بين الرجل ومشروعه.
ولعله ندم وهو فنان حساس أن يجد نفسه يحارب فى الخندق ذاته مع هذه النوعية
من الكتابات والكتاب.
هو يدرك مهما يرتفع سيفه فى الهواء معلقا أن يده لن تطاوعه أن يهبط به فوق
رؤوس من يحب وان بعض الذين يناصرونه الآن هم بعض من يكره وأمضى عمره كله فى
نفى أية صلة له بهم، وأتمنى منه أن يسأل نفسه: لماذا يسمحون له الآن
بالكتابة السياسية المباشرة فى الجريدة القومية الكبيرة عن هذا الكلام
بالذات ضد العروبة!؟.
الكلام على الهوى.. أيها الصديق القديم والعزيز. يريدونك سيفاً له تأثيره
ضد أفكارك التى كانت، وضد تجربة جمال عبدالناصر بالذات، وضد أصدقائك الذين
طالما وقفوا معك، ويحزنهم اليوم أن تصفهم ب الدراويش.
من حقك ان تقول ما تشاء، دون أن تخطئ فى أقدار آخرين، أو تنال من كرامة
تيار عريق كنت من اركانه والداعين اليه.
ولعلك تقدر أن القوميين فى أغلبهم عزفوا عن الدخول فى معارك صغيرة معك، أو
العمل على تحطيم صورتك او الانتقاص من قيمة موهبتك المقدرة، فأعمالك باتت
جزءا من الضمير العربى والوجدان العربى، وهى حقيقة تحاول أن تتملص منها
الآن، رغم انها سر نجاحك والقبول العام بموهبتك.
مراجعات الأستاذ أسامة بدأت مع الغزو العراقى للكويت، هنا بدأت أزمته
الحقيقية، وقد عبر عنها بوضوح فى مسلسله التليفزيوني: أرابيسك.
تساءل حسن أرابيسك فى نهايته: من نحن.. عرب.. أفارقة.. متوسطيون.. مسلمون..
أم بزراميط!
وأخشى أن يكون الأستاذ أسامة قد انتهى اعتقاده بأننا من الصنف الأخير، وهذه
ليست هوية باليقين، والهوية المصرية متعددة بطبائع الهويات وجوهرها العربى
مؤكد، وأستطيع أن أقول عن أسامة أنور عكاشة إنه أديب عربى كبير، سواء أراد
ذلك أو لم يرد، فحقائق الثقافة الثابتة فى الوجدان العام تغلب فى الفن أية
اعتبارات أخرى.
ما كتبه الأستاذ أسامة أنور عكاشة تعبير صريح عن إحباط عام، ولكنه يتوجه
الى الضفة الخطأ فى توصيف ما جرى لمصر ومنطقتها فى العقود الثلاثة الأخيرة،
فمن أهداف اتفاقيات كامب ديفيد والتحول الاستراتيجى الذى رافقها وترتب
عليها فى معادلات المنطقة عزل مصر عن محيطها العربى وتهميشها. وبدأت
الاستراتيجيات الجديدة فى التعامل مع دول المنطقة كوحدات منفردة.
وذات مرة أخذ زعيم عربى يحادث مسئولا غربيا كبيرا عن القضية الفلسطينية
فقاطعه الأخير قائلا: من فضلك حدثنى عن دولتك فقط!.
واذا كانت المشكلة فى دعوات الوحدة العربية، والتضامن العربى، والهوية
العربية، فما يحدث الآن يناهضها، وباتت تتردد فى كل قطر عربى أنه أولاً،
فلماذا تدهورنا الى هذا الحد، ولماذا بات الفشل جماعياً، ولماذا عجزت مصر،
بعد تنكرها العملى لعروبتها وقضايا منطقتها، عن أن تنهض من جديد؟!.
من ضمن الأسباب الجوهرية للتراجع هو تخاذل الدور المصرى، وهو دور محورى فى
منطقتها، أو على الأقل كان كذلك فى عهود سابقة.
ومن باب الانصاف للحقائق أن نحمل مصر -الدولة العربية الأكبر والأهم-
المسئولية الكبرى عما حاق بالعالم العربى من نكبات وكوارث فى الثلاثين عاما
الماضية، فحرب لبنان الأهلية، والوثائق شاهدة، ما كان لها ان تحدث -أصلا-
لولا انعزال مصر عن منطقتها وتراجع دورها فيها بعد اتفاقية فض الاشتباك
الأول مع إسرائيل، وما كان ممكنا أن تتراجع القضية الفلسطينية، وهى قضية
عادلة ومشروعة وتوصف عن حق بأنها قضية العرب المركزية، الى هذا المستوى
المخزى الذى وصلت اليه مالم تكن مصر الدولة العربية الأكبر والأهم قد تنكرت
لها، وما كان ممكنا إنهاء العراق كدولة إقليمية محورية تلى مصر مباشرة فى
الأهمية والحجم، مالم توفر الأخيرة الغطاء السياسى للعصف بها.
فى كل هذه الحالات، وفى حالات أخرى مماثلة، هناك من يتحمل المسئولية ويستحق
المحاسبة فى تلك البلدان العربية المنكوبة، ولا يصح أن نلقى باللوم على مصر
جزافاً، غير أن الغياب المصرى أدى الى خلل جوهرى فى معادلات المنطقة،
أصابها بالشلل وفقر المناعة، وأدى -بالطبيعة- الى تمدد الدور الإسرائيلى
فيها. وهذا آخر ما يتمناه الأستاذ أسامة أنور عكاشة، فهو وطنى مصرى ومبدع
كبير، غير أنه لابد أن يدرك أن من مقومات الوطنية المصرية الانتساب الى
أمتها العربية، وأنه لا تناقض بين الوطنية والقومية، وعندما يريد عدوك،
ويعلن ذلك، أن نتنكر لعروبتنا وننعزل عن منطقتنا، فلابد أن نتوقف وأن نتأمل
وأن ندرك أننا قد نحقق له فى فورة إحباط ما عجز أن يصنعه بالسلاح حتى الآن.
(نقلاً عن العربي الناصري 27 مايو 2007)