تراثنا
الذي لا نعرفه
جابر عصفور - مصر
نحن قوم تشبهنا ثقافتنا التي هي صورتنا ومرآة
أحوالنا, ولو نظرنا إلي أنفسنا فيها وجدنا أننا
نسير إلي الأمام حقا, ولكننا نسير وأعيننا في
أقفيتنا, لا نري الطريق الذي يمضي فيه حاضرنا,
ولا نحاول أن نرسم أفقا خلاقا لمستقبلنا الذي
يشغلنا عن الوعي به مرضنا بماضينا, فنحن قوم
مهووسون بالماضي, لا نري إلا من خلاله, ولا
نقيس إلا عليه, ولا نقبل أي جديد إلا إذا تشابه
مع بعض ما فيه, ما كان علي هدي منه حتي القوانين
الجديدة التي نسنها, أملا في الإصلاح
لا نصدرها إلا بعد أن نتأكد ونؤكد للجميع أنها علي
سند من هذه الحادثة أو تلك في الماضي ناسين أننا
أدري بشئون دنيانا, وأن علينا أن نقيس علي
الحاضر الذي يتحرك إلي مستقبل لا نعرفه, أملا في
إصلاح حاضر معوج, وتطلعا إلي مستقبل لا نري من
غيومه القاتمة إلا ما يعيدنا إلي مشرق ماضينا,
فهو البدء والمعاد, والنقطة الذهبية التي كلما
بعدنا عنها ازددنا نقصا وسوء حال ومهانة,
وانحدرنا مع زمن مقدور عليه النقصان كلما مضي بنا
أو معنا إلي الأمام ولذلك يبدو الماضي فردوسا
مفقودا نحن إليه, ونصوغه تعويضا عن بؤس
حاضرنا, وهوان أيامنا, وغموض مستقبلنا الذي لا
نرجو منه إلا أن يكون عودا علي بدء
ولذلك لا دراسات مستقبلية في ثقافتنا التي يغلب
عليها الاتباع والنقل والتقليد, ولا علم في
حياتنا, فالعلم لا مكان له في دنيانا التي تكون
ثقافتها, دائما, علي شاكلتنا وكيف يمكن ذلك؟
والعلم احتمالات, تبدأ من وقائع حاضرة ملموسة,
وتمضي إلي احتمالات مستقبلية بالضرورة والعلم
اختراق لآفاق المستقبل وانقطاع عن الماضي وعن
الحاضر الذي لم يعد يدفع إلي الأمام العلم
مغايرة, تجريب, مغامرة, خلق, قياس علي غير
مثال, إضافة كمية وكيفية تقلب المسار وكلها صفات
لا تعرفها ثقافتنا الغالبة التي لا تزال تؤثر
المعروف والمألوف, وترضي بالمتاح القليل,
وتقبل كل ما يحدث لها أو حولها
كأنها معلقة بعقارب الزمن التي لا تتحرك إلا إلي
الوراء, ولا تري إلا بالأعين المثبتة في الأقفية
وهذا هو السر في تعلقنا المرضي بالتراث الحفاظ علي
التراث, إحياء التراث, بعث التراث, توظيف
التراث, في التراث كل الحلول, في التراث كل
المعرفة, كنوز العالم في التراث الذي جعلنا خير
أمة أخرجت للناس شعارات تعودنا عليها ولا نزال
نلوكها, ونكررها, ونلح عليها, ناسين أن
الإلحاح علي التراث هو إلحاح علي ماض انتهي ولن
يعود, وأن هوس العودة إليه عملية تعويض نفسي عن
واقع مهزوم وحاضر متخلف, فكلما اشتدت علينا وطأة
الحاضر هربنا إلي الماضي, إلي التراث, وخلعنا
عليه كل ما فقدناه في حاضرنا, وأسقطنا عليه كل
ما لا يمكن أن ننجزه في مستقبلنا الذي نهرب من
تخيله كالهارب من شيء يخيفه
والطريف أننا لا نتوقف ولا نسأل أي ماض؟ وإلي أي
حقبة نتجه إليها, هل إلي زمن الرسالة التي سرعان
ما تناهبتها مصالح البشر, فمضت في تاريخ لم يخل
من الدم والقمع والظلم والخروج علي مبادئ الإسلام
التي ظلت تغترب بين أهلها, وتحمل من التأويلات
ما يحقق مصالح الفرق والطوائف المتصارعة منذ زمن
الفتنة الكبري, أو منذ موقعة الجمل, ولذلك
تحول الإسلام الواحد إلي إسلامات عديدة, وتعددت
الفرق الضالة في غياهب الماضي المتتابعة التي لم
نجد فيها, حقا, فرقة هادية مهدية, إلي
اليوم, فالكل يزعم النجاة, ولا يعلم إلا الله
من الناجي حقا وإذا تركنا الصراع الديني الذي شغل
ماضينا, في أغلبه, إلي المصالح الدنيوية التي
أشعلته وجدنا التنافر والاختلاف قائما, وحلم
الفردوس المفقود مستحيلا
ومئات من أحرار الفكر والرأي والإبداع قطعت
رقابهم, أو غيبتهم السجون, أو أحرقت كتبهم في
الميادين التي يذكرها تاريخ القمع حقا, شهد هذا
التاريخ لحظات مضيئة, ازدهرت فيها الحضارة
العربية الإسلامية, لكنه الازدهار الذي لم يتحقق
إلا بالتسامح والمجادلة بالتي هي أحسن, وتقبل
الاختلاف بوصفه حقا للإنسان الذي كرمه الله علي
بقية خلقه بالعقل, وعندما اختفي ذلك كله وحل
التعصب محل التسامح, والمجادلة بالتي هي أقمع
محل المجادلة بالتي هي أحسن, أصبح العقل
مغتربا, يتسول, تطارده الحكومات وتسحب منه
صفته الدينية أو جنسيته الوطنية, وغابت شمس
الحضارة العربية, وانقلب التراث العربي الإسلامي
إلي تراث قمعي, معاد للانفتاح, كاره للآخر,
نافر من الاختلاف, حاض علي الإجماع والطاعة
والتصديق وطاعة كل حاكم حتي وإن جار.
وإذا سألنا أي تراث هذا الذي نسمع الحديث عنه ليل
نهار, لم نعثر علي إجابة محددة, وإذا قلنا إن
هذا التراث فيه ما لا تزال تعتمد عليه القاعدة
ويري فيه فقهاؤها إطارهم المرجعي؟ لم نسمع سوي
الصمت ونضيف إلي ذلك أن تراثنا مثل ماضينا متعدد
إلي أبعد حد, متضارب, متناقض, يجد فيه كل من
يريد ما يريد, ولا فائدة منه إلا بعد أن نعرفه
كله معرفة معمقة محققة مدققة أما الحديث عن تراث
عظيم علي الإطلاق, رائع أبدا, فهو حديث كالطبل
الأجوف لا فائدة منه في هذا الزمان الذي لم يعد
يرحم من يتوقف أو يتخلف إن المعرفة امتلاك للمعروف
كالفهم الذي هو امتلاك للمفهوم والماضي لا معني له
ولا قيمة بالقدر نفسه إلا إذا امتلكنا معرفته,
وتعلمنا من سلبياته وإيجابياته, هزائمه
وانتصاراته, لحظات تعصبه ولحظات تسامحه, أزمنة
أمجاده وأزمنة كوارثه
وأهم من ذلك الأسباب التي أدت إلي كل حال وهذه هي
البداية التي لابد أن نبدأ منها كي نعرف ما لا
نعرفه, وكي نبدأ من حيث انتهي ماضينا بخيره
وشره, لكي نضيف إلي حاضرنا, متطلعين إلي
مستقبلنا, متأملين فيه, ودارسين لاحتمالاته
التي تتصل بنا, فنعرف من حاضرنا ما يدفعنا إلي
أفق أكثر تقدما منه.
الأهرام
|