عالم
بلا ترجمة ليـس بعـالم!
الترجمة علم.. أم الترجمة فن..؟
ماجـدة الجـندي - مصر
دنيس جونسون ديفز أقدم مترجمي الأدب العربي إلي
الانجليزية..25 مجلدا من الروايات والقصص
والمسرحيات.. ستون عاما من الترجمة والذي وصفه
الراحل النبيل إدوارد سعيد بأنه( رائد الترجمة
من العربية إلي الانجليزية. في عصرنا). يري
ترجمة الأدب بالذات نوعا من الفن لا يكفي لإتقانه
مجرد أن تستبدل بكلمة في لغة كلمة في لغة أخري..
لكن هذا ليس أكثر ما يستوقف القاريء في المذكرات
شبه الشخصية لدنيس جونسون ديفز التي نقلها عن
الإنجليزية: كامل يوسف حسين وأصدرتها دار
اليربوع بدولة الإمارات والتي قدم لطبعتها
الإنجليزية الكبير نجيب محفوظ قبل رحيله
وبدأها بعبارة كم هو عظيم ذلك الشعور الذي ينتاب
المرء عندما تتم ترجمة أعماله وقراءتها علي
الصعيدين المحلي والدولي وإلي هذا الشعور يأخذنا
أقدم مترجمي الأدب العربي.. وربما إلي حيز أكثر
حميمية, عندما يدخلنا إلي ما يشبه الكواليس
مقدما راويته الإنسانية لنجيب محفوظ, يوسف
إدريس, د. لويس عوض, جبرا إبراهيم جبرا
وعديد من الأسماء التي قد يكون القاريء قد قرأ لها
أو كون عنها صورة, لكن المؤكد أنه سوف يجد ما
يضيف إلي رؤيته أو ربما يغيرها أو يؤكدها لدي دنيس
جونسون ديفز في كتابه الذي وصفه محفوظ أيضا بأنه
بالغ الروعة.
ذكريات في الترجمة هذا هو عنوان كتاب ديفز الذي
طبعته الدار الناشرة في الهند( ولا أعرف
السبب؟), وأول خيط الذكريات يعود إلي الخلفية
التي ولدت من خلالها علاقة الإنجليزي ديفز باللغة
العربية.. الطفولة التي قضاها بين القاهرة ووادي
حلفا.. ثم كينيا وأوغندا ليعود بعدها في الثانية
عشرة ويلحق به أبواه إثر إصابته بالدوسنتاريا..
يلتحق بمدرسة داخلية لم يظهر فيها براعة وإن
استشعر فيها كراهية لدراسة اللغات الكلاسيكية(
اليونانية واللاتينية) وفرارا اختار علي أعتاب
الجامعة دراسة اللغة العربية, ربما مدفوعا بنوع
من ذكريات طفولته في وادي حلفا بالذات.
قضي عاما قبل الجامعة في معهد الدراسات الشرقية
بلندن تمهيدا لكامبريدج وأعدت له ترتيبات إقامة
مدة عام لدي مصري كان يعمل محاضرا بالمعهد. أقام
في شقة المحاضر التي كانت تقع بالسكاكيني ومنها
انتقل لبنسيون بجوار الأنتكخانة حيث تعرف علي شاب
من يوركشير كان يعمل مندوبا لشركة مواد تجميل..
في تلك الفترة وعي صعوبات العربية التي دخل
لدراساتها متزاملا مع برنار لويس( المستشرق
الأمريكي) والشيخ عبدالعزيز المراغي وعديد من
الهنود.
في لندن حيث المعهد, عاني ديفز الوحدة وعندما
التحق بجامعة كامبريدج روعه( هكذا يقول) أنه
اكتشف أن عليه دراسة العبرية, فقد تم إبلاغه أنه
لا يمكن امتلاك ناصية العربية الا بمعرفة
العبرية! كان الطالب الوحيد الذي يدرس اللغتين
معا, في فصل دراسي تزامل مع أبا إيبان( الذي
صار فيما بعد وزيرا لخارجية إسرائيل والذي كان
يدرس للحصول علي درجة الدكتوراه.. رسب ديفز في
اللغة العبربة ليتوجه بعد ذلك ولظروف دراسية إلي
دراسة الفارسية بكثير من السعادة ـ في مواصلته
لدراسة العربية أثقله الشعور بأنها لغة ميتة لا
تختلف عن( اليونانية واللاتينية)
وأزعجه أن مدرسيه لم يزوروا أي مكان بالعالم
العربي فاقتصر اهتمامهم علي ماضيه( كان من بين
مدرسيه البروفيسور نيكلسون مترجم المثنوي لجلال
الدين الرومي) والذي سوف يعرب لتلميذه فيما بعد
من تشككه في أن يتمكن عن كسب عيشه( من اللغة
العربية) وعلي أية حال فإن دنيس جونسون اجتاز
الجزء الأول من امتحانات مرتبة الشرف واختار بدلا
من جزئها الثاني دراسة الأنتروبولوجي.. ولم يكن
معنيا بتحديد شروط لعمله في المستقبل سوي ألا يكون
وظيفة مكتبية في انجلترا وهذا ما وفره له عمله في
هيئة الاذاعة البريطانية التي بدأت عملها باللغة
العربية كأول لغة أجنبية اعتبارا من عام1938
عندما استدعي بمكالمة تليفونية إلي دائرة
الاستخبارات العربية في قرية ساوث نيونجتون ليكون
رئيسه في العمل نيفيل باربور المستعرب الذي ألف
أحد أوائل الكتب عن القضية الفلسطينية ثم عمل في
منطقة البث مع أ. هـ. باكستون الذي ترجم سيرة
طه حسين التي تعد أحد أوائل الكتب العربية التي
ترجمت للانجليزية. شملت واجبات ديفز ما كان يعرف
باسم رقابة قطع الارسال( قطع البث إذا شرع
المذيع في التعبير عن عداء لبريطانيا) استفاد
ديفز من سنوات العمل في الاذاعة البريطانية حتي
بأكثر مما استفاد في دراسته الجامعية ثم انتقل
لتدريس العربية في المجلس البريطاني بالقاهرة ثم
في الجامعة المصرية هناك تفاصيل نقفز منها إلي
علاقته بالكتابة العربية والتي بدأت بمحاولة
استشرافه عما إذا كان هناك أي نوع من النهضة
الأدبية في العالم العربي علي حسب تعبيره..
التقي محمود تيمور.. وتعرف علي كتابات توفيق
الحكيم.. بدأ بترجمة قصتين لمحمود تيمور ونشرهما
في( مجلات صغيرة).
ومن المثير للاهتمام كما يقول ـ رؤية السير
هاملتون جب ـ أحد المهتمين القلائل بالأدب العربي
في ذلك الوقت, والتي نشرها في كتابه عن الأدب
العربي عام1963 ورأي في الانتاج العربي( قصص ـ
مسرحيات ـ روايات) عندما يترجم[ فإن الاهتمام
به يكون باعتباره وثيقة اجتماعية وليس منجزا
أدبيا..] وتلك نقطة رغم مرور عقود طويلة مازالت
تستوجب النظر فكثير من الأعمال التي تمت ترجمتها
عوملت صحفيا باعتبارها تقدم نوعا من المسح
الاجتماعي الجاهز لمعامل الغرب الاجتماعية
والسياسية ولم يتم نقدها فنيا. ولنعد إلي مذكرات
ديفز الذي تعرف علي نجيب محفوظ أثناء فترة اقامته
في القاهرة بين45 و1949. عندما قرأ زقاق المدق
شعر بأنه لم يكتب مثلها بالعربية وكان لهذا العمل
صداه المماثل عند لويس عوض وطه حسين.
وبدأ ديفز في ترجمة زقاق المدق وتوقف بعد ثلثها
ليقينه أنه لن يجد ناشرا وعندما كان يلتقي بنجيب
في مقاهي القاهرة( لم يكن يتخيل قط أنه يخاطب
أديبا سوف يحرز نوبل) فقد كان ينتقد رواياته(
كما يقول) لكنه كان كما يبدو لا يري تناقضا بين
نقده واعجابه في آن واحد.. ففي الثمانينيات
عندما علم من محفوظ أنه وقع عقدا مع مارك لينز(
الجامعة الأمريكية) لترجمة أعماله إلي
الانجليزية وكل اللغات الأخري من دون أن تدفع له
مدفوعات مقدما, فإن ديفز قد صعق! وأفصح
لمحفوظ( قبل نوبل) الذي سأله بابتسامة( وكم
من كتبي قمت أنت بنشرها)؟!
ويروي ديفز قصة نجيب مع نوبل كقصة مثيرة للاهتمام
كما يقول.. ففي احدي زياراته القاهرة أثناء
سنوات اقامته في فرنسا واسبانيا تلقي اتصالا
هاتفيا مفاده أن زوجة السفير الفرنسي في تونس وهي
سيدة سويدية موجودة بالقاهرة وترغب في مقابلته في
فندق كليوباترا. أبلغته زوجة السفير أن لجنة
نوبل تبحث امكانية فوز كاتب عربي وكانت تحمل قائمة
بأسماء: محفوظ وأدونيس ويوسف ادريس والطيب
صالح.. وبعد مناقشة المزايا النسبية لكل مرشح,
بدا واضحا أفضلية محفوظ ليس فقط لنوعية كتابته
الرفيعة ولكن لحجم مشروعه الفني.
يقول ديفز إنه لم يشغل نفسه بالموضوع ولكنه دهش
عندما ذكر أن محفوظ( قد دهش) عند ابلاغه الفوز
وينتقد ديفز فكرة اشتراك أكثر من مترجم في ترجمة
العمل الواحد, فقد رفض هو نفسه هذه الفكرة
بالنسبة لأعمال محفوظ وترجمتها فيما بين70
و1974 فكما أن العمل الأدبي لا يمكن أن يكون من
تأليف فريق فكذلك الترجمة.. وسوف تتوزع رؤية
ديفز عن الترجمة علي صفحات مذكراته.. فالترجمة
فن وابداع.. حساسية وسوف يفصح عن وجهة نظره فيما
يتعلق بمشروع الجامعة الأمريكية لترجمة محفوظ
وملخصه أنه وإن لم يكن الطريقة المثلي للترجمة(
بسب فكرة اشتراك أكثر من مترجم في العمل الواحد
كما حدث في ميرامار) إلا أن هذا المشروع وفر
العدد الأكبر من المترجمات.
يروي ديفز عن يحيي حقي الذي ترجم له أول ما ترجم
قصة العرضحالجي ثم أم العواجز وهو أحد القلائل
الذين احتفظ ديفز معهم بصداقة شخصية وهو أيضا أحد
الكتاب الذين راود ديفز نحوهم شعور بالندم لأنه لم
يترجم لهم المزيد.. علي الرغم من وجود قصص
ترجمها ديفز ليحيي حقي وصدرت ضمن مجلد عن القصة
العربية القصيرة عن جامعة اكسفورد..
ويروي ديفز عن يحيي حقي اجابته عن سؤال: ألم
يحلم يوما بنوبل؟
وكان رده ان هذا الحلم لم يراوده قط, لسبب بسيط
أنه يعلم انه في مكان اخر بالقاهرة كاتب أكثر
موهبة واجتهادا يعكف علي انجاز مشروعه الأدبي ـ
قاصدا محفوظ ـ وقد فاز حقي بجائزة الملك فيصل,
ورفض كما يقول ديفز جائزة صدام حسين ـ علي نحو
ينسجم وسلوكه بصورة نموذجية.
لم يكسب ديفز يوما عيشه من ترجمة الأدب, علي
الرغم من المجلدات الخمسة والعشرين التي
ترجمها.. اشتغل بوظائف عديدة استثمر فيها معرفته
بالمصريين منها مكتب لترجمة العقود, والترجمة
لرجال أعمال وشركات وعمل في بعض بلدان الخليج(
قطر وعمان ودولة الإمارات التي أسس لها إذاعتها
العربية) ولم يكن يعود الي لندن إلا في حالة
البحث عن وظيفة.. وفي إحدي هذه الفترات فيما
بين54 و1969, تعرف إلي الطيب صالح الذي يحمل
له حماسا كبيرا منذ ترجمته عرس الزين ويري انه لو
يعيب شيئا علي الطيب صالح فهو كونه لم يكتب المزيد
من الأعمال, ترجم ديفز موسم الهجرة للشمال
بالتزامن مع ابداعها تقريبا, فقد كان الطيب يرسل
له اسبوعيا ما ينتهي من كتابته.
في عام1969 صدرت الترجمة الانجليزية لتحظي
بإشادة عديد من النقاد ولتعتبرها الصنداي تايمز
رواية العام ومع ذلك لم تضعها مكتبة واحدة في
واجهة العرض.. بل وضعت في القبو!
وبعد الترجمة الانجليزية ترجمت لواحد وعشرين لغة ـ
لقد اقتضي الأمر أكثر من اربعين عاما لتنقل رواية
موسم الهجرة الي الشمال من القبو في مكتبة هاتشدد
في لندن الي النشر في بنجوين!
أما ادريس أو يوسف ادريس الذي يراه ديفز شخصية
كاريزمية ذات موهبة كبيرة, فانه كان له علي
الرغم من جاذبيته وعبقريته رؤية مبالغ فيها علي
نحو مثير للحرج لوضعه ككاتب, هكذا يري ديفز يوسف
ادريس مرحا بمقدوره السخرية حتي من نفسه.. وقد
أبلغ ديفز مرة انه قد ارتكب غلطة كبيرة بعدم تكريس
كل جهد ديفز لترجمة أعماله, ويري ديفز ان ادريس
علي الرغم من ترجمته بحاجة الي ما يطلق عليه ديفز
الترجمات المنقحة.
ترجم ديفز28 كتابا.. وكتب بالانجليزية للأطفال
وتنقل وسافر في انحاء عربية عديدة وله دار في
الفيوم الان.. ولعل ختامه لمذكراته الشخصية بعد
ستين عاما من الترجمة يستحق ان أورده للقارئ:
كيف كان يمكن للعالم ان يكون دون ان نقرأ هوميروس
وملحمة جلجامش وسرفانتس وبروست وبيسوا
ودستويفيسكي..
وكأنه أراد ان يتساءل عن معني العالم لو خلا من
المترجمين.. وهو ما يدفع بكل منا الي تصور
الإجابة..
عالم دون مترجمين.. عالم فقير.. مليء بالوحدة
عالم.. أبكم.. عالم يخلو من المؤانسة...
عالم... ليس بعالم!
|