
تَمَاهِي / تَنَاسُخُ أَرْوَاحِ الشُّعَرَاءِ ؟!
محمد حلمي الريشة - فلسطين
(إِلَى لِيْنَا الطِّيْبِي)
يَنْبُعُ الشِّعْرُ، كَمَا أَحْدِسُهُ، مِنْ حُلُمٍ وَاحِدٍ فِيْ فَضَاءٍ
أَزْرَقَ: لاَ تَنْضَبُ لُغَتُهُ، أَوْ تَجِفُّ صُوَرُهُ، أَوْ يَمُوْتُ
شَاعِرُهُ!
وَلأَنَّهُ يَنْبُعُ مِنْ هذَا الفَضَاءِ الأَزْرَقِ/ المَكْنُوْنِ، فَهُوَ
قَابِلٌ، دَائِمَاً وَحَتْمَاً، إِلَى التَّمَاهِي/ التَّمَاثُلِ/
التَّشَهِّي كُلَّمَا كَتَبْتَهُ: أَنْتَ/ أَنْتِ/ أَنَا شَاعِرَاً،
خُصُوْصَاً فِي خُصُوْصِ حَالَتِهِ حِيْنَ خَلْقِهِ يَتَأَنْسَنُ أَوْ
يَتَشَيَّأُ (كَمَا فَعَلَ كَثِيْرٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ) أَوْ يَتَأَنَّثُ
(كَمَا فَعَلْتُ أَنَا)..
لِذَا..
تَعْرُو الشَّاعِرَ حَالَةُ غَيْرَةٍ (تُشْبِهُ إِلَى حَدٍّ بَعِيْدٍ
حَالَةَ عَاشِقٍ يَشْتَهِيْ عَشِيْقَتَهُ الَّتِي هِيَ لآخَرَ وفِيْ
سَرِيْرِهِ) لَيْسَ مِنْ شُعَرَاءَ آخَرِيْنَ فَقَطْ، بَلْ مِنْ ذَاتِهِ،
أَيْضَاً، إِذْ لَطَالَمَا صَحَوْتُ مِنْ غَيْبُوْبَةِ القَصِيْدَةِ وَبِيْ
دَهْشَةٌ لاَ تُحَدُّ: هَلْ أَنَا مَنْ كَتَبَ هذَا؟!
إِذَاً..
تَتَلَبَّسُنَا تِلْكَ الحَالَةُِ فِي ثَلاَثِ حَالاَتِهَا: حَالَةِ
الكِتَابَةِ الذَّاتِيَّةِ (أَهذَا أَنَا؟!)، وَحَالَةِ القِرَاءَةِ
الشِّعْرِيَّةِ، لِغَيْرِهِ، الَّتِيْ تَتَخَارَقُ المَعْنَى الرُّوْحِيَّ/
القَلْبِيَّ/ الجَسَدِيَّ بِرَوْعَتِهَا: (يَا إِلهِي!)، وَحَالَةِ
التَّرْجَمَةِ الَّتِي يَتَفَتَّقُ فِيْهَا النَّصُّ عَنْ نَصٍّ آخَرَ
جَدِيْدٍ كَأَنَّ مُتَرْجِمَهُ شَاعِرُهُ الأَصْلُ (كَمَا حَصَلَ لَكِ/
مَعَكِ أَيَّتُهَا الشَّاعِرَةُ الطَّيِّبَةُ لِيْنَا)..
هَلْ يَجُوْزُ التَّسَاؤُلُ، دُوْنَ التَّسَاهُلِ، التَّالِي:
هَلْ هُوَ تَمَاهِي/ تَنَاسُخُ الشُّعَرَاءِ؟
هُنَا أَتَوَقَّفُ عَنِ الكِتَابَةِ، لَيْسَ مِنْ أَجْلِ البَحْثِ عَنْ
جَوَابِهِ، بَلْ مِنْ أَجْلِ البَحْثِ عَنْ جَوَابِكِ، أَيْ: نَبْشِ
الذَّاكِرَةِ الشِّعْرِيَّةِ/ الشَّخْصِيَّةِ، إِذْ تَسْأَلِيْنَ:
هَلْ انْتَابَتْكَ حَالَةٌ مُشَابِهَةٌ؟ كَيْفَ؟ وَمَتَى؟ وَمَنْ؟
نَعَم..
وَنَعَم هذِهِ بِافْتِرَاضِ تَشَابُهِ اليَنْبُوْعِ الشِّعْرِيِّ
وَتَشَابُهِ الشُّعَرَاءِ (طَبْعَاً لَيْسَ بالمُطْلَقِ)؛ فَحِيْنَ كُنْتُ/
أَكُوْنُ فِيْ حَالَةِ قِرَاءَةٍ إِبْدَاعِيَّةِ، أَوْ حَالَةِ تَرْجَمَةٍ
(كَمَا حَصَلَ لَكِ)، حَيْثُ تَرْجَمْتُ لأَكْثَرَ مِنْ شَاعِرَةٍ
وَشَاعِرٍ، وَنَظَرَاً لِغَيْبُوْبَةٍ تَنْتَابُنِيْ، كِتَابَةً
وَقِرَاءَةً وَتَرْجَمَةً، فَإِنَّنِيْ أَتَمَاهَى مَعَ النَّصِّ الَّذِيْ
بَيْنَ عَيْنَيَّ حَدَّ الذَّوَبَانِ الكُلِّيِّ فِيْهِ. هكَذَا
تَشِدُّنِيْ إِلَيْهِ رَغْبَةٌ وَنَشْوَةٌ لاَ تَقِلاَّنِ كَيْفَاً عَنْ
حَالَةٍ إِيْرُوْسِيَّةٍ مَعَ أُنْثَايَ الوَاقِعِيَّةِ َأَوِ
الحُلُمِيَّةِ، وَهكَذَا وَجَدْتُنِيْ أُؤَنِّثُ كُلَّ شَيْءٍ قَبْلَ أَيِّ
شَيْءٍ.
فِعْلاً..
صَادَفَتْنِيْ وَتُصَادِفُنِيْ، هذِهِ الحَالَةُ، مُنْذُ حَبْوِيْ
الشِّعْرِيِّ/ لَثْغَتِيْ الأُوْلَىْ، وَلَمْ تَزَلْ..
لاَ أَقَوْلُ إِنَّهَا تُطَابِقُ حَالَتَكِ بِكَامِلِ تَفَاصِيْلِكِ
الوَارِدَةِ، لكِنَّهَا تُشْبِهُهُا فِي جَوَانِبَ عِدَّةٍ كَالَّتِي
أَشَرْتِ إِلَيْهَا فٍِي خِطَابِكِ.
أَمَّا مَا لاَ يُشْبِهُهَا، فَهِيَ فَقْرَتُكِ: "عِنْدَمَا أَقْدَمْتُ
عَلَى نَشْرِ القَصَائِدِ، شَعَرْتُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَقِّهَا
وَحْدَهَا أَنْ يُكْتَبَ اسْمُهَا عَلَيْهَا، فَقَدْ كَتَبْتُ قَصَائِدَهَا
أَكْثَرَ مِمَّا كَتَبْتُ قَصَائِدِيْ، أَعَدْتُ تَرْتِيْبَ الجُمَلِ
أَكْثَرَ مِمَّا أَفْعَلُ بِشِعْرِيْ، كُنْتُ أَمْشِيْ بِيْنَمَا
كَلِمَاتُهَا تَتَرَدَّدُ فِي دَاخِلِي.. حِيْنَهَا كَانَ مِنَ الصَّعْبِ
أَنْ أَتَقَبَّلَ فِكْرَةَ أَنَّ النَّصَّ لَهَا وَالتَّرْجَمَةَ لِي،
كُنْتُ أُرِيْدُ أَنْ أَكْتُبَ اسْمَهَا مَعَ اسْمِي فِي عَمَلٍ
مُشْتَرَكٍ.. وَسَأَفْعَلُ هذَا ذَاتَ يَوْمٍ.."، وَلَمْ تَصِلْ بِي
الحَالَةُ حَدَّ عِبَارَتِكِ الأَخِيْرَةِ: "وَسَأَفْعَلُ هذَا ذَاتَ
يَوْمٍ".
لكِنِّي لاَ أُخْفِي أَنِّي اشْتَهَيْتُ (وَأُؤَكِّدُ اشْتَهَيْتُ)
كَثِيْرَاً أَنْ أَكَوْنَ شَاعِرَ هذِهِ القَصِيْدَةِ أَوْ تِلْكَ، أَوْ
هذَا المَقْطَعِ أَوْ ذَاكَ، لِلْعَدِيْدِ مِنَ الشُّعَرَاءِ مُنْذُ
إِنْسَانِ الكَهْفِ الشَّاعِرِ الَّذِي كَتَبَ أَوَّلَ قَصِيْدَةٍ لَهُ
عَلَى جِدَارِ كَهْفِهِ، وَحَتَّى آخِر (شَاعِرٍ) بَدَأَ يَلْثَغُ أَوَّلَ
حُرُوْفِ (قَصِيْدَتِهِ) لَيْسَ بَحْثَاً عَنِ الشَّاعِرِ فِيْهِ بِقَدَرِ
بَحْثِهِ عَنْ إِبْرَازِ قُدْرَتِهِ أَمَامَ مَحْبُوْبَتِهِ.
بِالتَّأْكِيْدِ، لاَ أَسْتَطِيْعُ التَّحْدِيْدَ كَيْ أُجِيْبَ عَلَى: "
كَيْفَ؟ وَمَتَى؟ وَمَنْ؟"، ذَلِكَ أَنَّ أَسْمَاءَ الاسْتِفْهَامِ هذِهِ
تَمَازَجَتْ كَثِيْرَاً فِيْمَا بِيْنَهَا حَدَّ أَنَّهُ تَمَازُجٌ
كِيْمْيَائِيٌّ لِعَنَاصِرَ لاَ يُمْكِنُ إِعَادَتُهَا إِلَى طَبِيْعَتِهَا
الأُوْلَىْ.
مَا أُرِيْدُهُ هُنَا، وَأَنَا أَهِمُّ بِالخُرُوْجِ مِنْ دُوَارِ مَا
وَجَدْتُنِي فِيْهِ، وَقَدْ حَاوَلْتُ الفِكَاكَ مِنْهُ، أَنَّ آثَارَ
الدُّوَارِ لَمْ تَزَلْ تُدْهِشِنُي جَرَّاءَ حَالَتِكِ الشَّهِيَّةِ
النَّادِرَةِ رَغْبَةً وَبَوْحَاً.
إِشَارَةٌ: مَا دَوَّنْتُهُ أَعلاَهُ، كَانَ مُحَاوَلَةَ رَدِّيَ،
الوَاثِقَةِ بِارْتِبَاكِهاَ، عَلَى رِسَالَةِ الصَّدِيْقَة الشَّاعِرَةِ
لِيْنَا الطِّيْبِي (السُّوْرِيَّةِ المُقِيْمَةِ حَالِيَّاً فِي مِصْرَ)
التَّالِيَة، وَالَّتِي فَاجَأَتْنِي بِطَرْحِ هذِهِ الحَالَةِ/
حَالَتِهَا، وَأُوْرِدُهَا كَمَا هِيَ لإِطْلاَعِ القُرَّاءِ، أَيْضَاً،
عَلَيْهَا بِعْدَ إِيْرَادِ رَدِّي:
هو يوم بعيد، كنتُ أجلس إلى طاولتي محاولة ترجمة بعض قصائد من الشاعرة
الأمريكية إميلي ديكنسون.
ترجمت لها مقاطع مختلفة، وعاودت كتابة القصائد مرات ومرات، كنتُ كلما فرغتُ
أعود لأبدأ من جديد، كانت كلماتها تذوب في أذنيّ لتصبحني، أقرأ كلاما يشبه
ما أريد أن أقوله للعالم، صوتها هو الصوت الذي أحب أن أسمع به، كانت
الكلمات تأتي مني ومنها معا.
هي توفيت منذ زمن طويل.. لكنها الآن تجالسني كأنما لم تمت أبدا.
ليست كلماتها فقط، بل حياتها أيضا، صورها وصور بيتها، صرت ألاحق قصص حياتها
القليلة، هي التي أضاءت وجودها بالعزلة.
عندما أقدمت على نشر القصائد، شعرت أنه ليس من حقها وحدها أن يكتب اسمها
عليها، فقد كتبت قصائدها أكثر مما كتبت قصائدي، أعدت ترتيب الجمل أكثر مما
أفعل بشعري، كنت أمشي بينما كلماتها تتردد في داخلي.. حينها كان من الصعب
أن أتقبل فكرة أن النص لها والترجمة لي، كنت أريد أن أكتب اسمها مع اسمي في
عمل مشترك.. وسأفعل هذا ذات يوم..
أفكر الآن هل هي حقاَ تشبهني؟ هل كانت يوما ما أنا الآن؟ هل من الممكن أن
نشعر بأن أرواحنا كانت تحلق في يوم ما في جسد آخر غير جسدنا؟
هل انتابتك حالة مشابهة؟
كيف؟ ومتى؟ ومن؟
لينا الطيبي