عن الترجمة الوهمية
د. حازم الببلاوي - مصر
مصر أم الدنيا وهي ايضا ام العجائب, في نفس الاسبوع الذي
تقيم فيه معرضها السنوي للكتاب تنشر في الصحف الاجنبية واقعة
غريبة وغير منتشرة متعلقة بالعمل الثقافي في مصر, ويشاء سوء
الحظ ان تقع هذه الواقعة مع صحفي بريطاني كبير ـ روبرت فيسك ـ
فينشرها بجريدة الاندبندنت البريطانية الواسعة الانتشار في أول
فبراير, أما عن الصحفي فهو أحد أشهر الصحفيين المهتمين بشئون
الشرق الأوسط وقد عاش في أكثر من بلد من بلدان الشرق العربي,
وله مواقف مؤيدة للحقوق العربية يعلنها بصراحة وقوة, وكان قد
أصدر كتابا حديثا منذ فترة وجيزة عن الحرب الكبري للحضارات
يروي فيها تجاربه الصحفية في العديد من المدن العربية وقت
الأزمات المتأججة بين الشعوب العربية والاسلامية في مواجهة
التدخلات الغربية في مختلف شئون هذه البلدان, وهو من الاصوات
البريطانية القليلة المدافعة عن الحقوق العربية والمؤيدة ـ
غالبا ـ لوجهة نظرها ـ فماذا فعلنا به؟
هذا مايرويه فيسك في مقاله المنشور في الجريدة البريطانية.
كان فيسك في بيروت عندما وصله مظروف من أحد أصدقائه المصريين
وبه كتاب باللغة العربية عن حياة صدام حسين منذ الولادة إلي
الشهادة وقد كتب اسم المؤلف ببنط ذهبي عريض روبرت فيسك والكتاب
مطبوع في مصر ويتداول فيها. وعادة يسعد المؤلف ـ أي مؤلف ـ
عندما يري كتاباته مطبوعة خاصة إذا ترجمت إلي لغات أخري,
ولكن مشكلة روبرت فيسك مع الكتاب كانت ـ فيما يبدو ـ مختلفة
تماما, فلم يكن هناك مجال للسعادة وإنما للدهشة, فهو لم
يكتب الكتاب, أصلا وبرغم ذلك فها هو يجده مترجما للغة
العربية ومتداولا تحت اسمه في أكبر الدول العربية ومن هنا فيجب
الاعتراف بأننا ازاء نقلة نوعية في العمل الثقافي المصري.
كان العديد من المصريين يتندرون في الماضي حول ترجمات تصدر في
بلادنا لمؤلفات أجنبية في ترجمة سيئة وبعيدة تماما عن الاصل
وبحيث كان المترجم يؤلف أكثر مما يترجم, في نفس الوقت الذي
كانت تصدر فيه مؤلفات لمؤلفين عرب, هي في الحقيقة ترجمة
حرفية أو أقرب إلي الترجمة الحرفية نقلا من مؤلفات أجنبية,
حتي اننا لم نكن نستغرب للمقولة بأن الترجمة عندنا تأليف, في
حين ان التأليف لا يعدو ان يكون مجرد ترجمة والجديد في هذه
النقلة النوعية في المجال الثقافي هو أننا بهذا العمل قد فتحنا
بابا جديدا لم تعرفه البشرية بعد, وهو ان نترجم كتابا غير
موجود وليس له أصل, فالترجمة هنا هي عمل ابداعي وخيالي في
نفس الوقت, فأنت تتصور ان مؤلفا أجنبيا قد ألف كتابا ثم تقوم
بترجمة هذا الكتاب الوهمي إلي اللغة العربية, والغريب ان
الترجمة في حالتنا تبدو معقولة وانها تتضمن معلومات لا بأس
بها, حتي ان فيسك نفسه لم يعترض علي ماجاء بها إلا فيما
يتعلق بملاحظة أو ملاحظتين, وجد أنها لاتتفق مع آرائه
واتجاهاته, وهكذا فان فيسك لم ير في الكتاب أي سرقة للافكار
فهو عمل خلاق وإن نسب اليه دون وجه حق فالامر ليس سرقة بقدر
ماهو احتيال وذلك بان تبيع بضاعة مغشوشة وتنسبها إلي اسم معروف
أو إلي ماركة عالمية, وعند نشره لهذه الواقعة, انتهز
الصحفي البريطاني الفرصة لابداء آرائه الشخصية حول المناخ
الثقافي في مصر ومدي احترام الناشرين المصريين لحقوق النشر,
وهنا نجده يشير إلي أنه يحرص شخصيا علي ترجمة كتبه الحقيقية في
بيروت وليس في القاهرة ـ هكذا يقول ـ لان القاهرة وناشريها
لايلتزمون بالمواثيق الدولية في احترام حقوق المؤلف, وهذه
سمعة ليست طيبة عن صناعة النشر في مصر, وهي شهادة مناقضة
تماما لما كنت اسمعه من الناشر المصري الذي أتعامل معه,
والذي كان يؤكد لي ان الناشرين المصريين أكثر انضباطا في هذه
الأمور من غيرهم في الدولة العربية, وأيا كانت الحقيقة,
فهذا صحفي كبير ينشر في واحدة من أهم الصحف البريطانية ويعلن
ان النشر في القاهرة لايتقيد بالقيود القانونية السائدة
عالميا, وفي مثل هذه الظروف فلاشك ان سمعة النشر في مصر لن
تخرج سليمة معافاة بعد مثل هذه المقالات.
ويروي الكاتب في مقاله مغامراته في القاهرة للبحث والتقصي عن
حقيقة ترجمة كتابه الوهمي إلي اللغة العربية والبحث عمن
وراءها, وبرغم ان الكاتب يعتبر ـ كما ذكرنا ـ من الصحفيين
البريطانيين المؤيدين ـ بشكل عام ـ للحق العربي, فان وصفه
لزيارته القاهرية لا تخلو من انطباعات سلبية عن عاصمتنا فهو
يصف رحلته من بيروت إلي القاهرة بأنها رحلة إلي أدني العواصم
العربية تفضيلا إلي قلبه, واصفا القاهرة بأنها هذه المدينة
البيروقراطية, بأوضاعها المرورية المزعجة, هذه المدينة
المفلسة, والمدهشة معا الخارجة علي القانون, وغير القابلة
للاصطلاح هذه القاهرة الرائعة, هذه هي أوصاف فيسك في مقاله
المشار إليه عن عاصمتنا بما تتضمنه من تناقضات تجمع بين القبح
والعظمة.
ويسرد فيسك في المقال مغامرته في البحث عن الفاعلين لهذه
الجريمة فيكتشف ان دار النشر المسئولة عن الترجمة تحمل اسم
ابداع ويتعرف علي عنوان دار النشر, ولكنه لايجد شيئا يساعده
علي معرفة المترجم أو الناشر, وهو في بحثه عن الجاني يصف
مباني القاهرة وتاكسياتها وأبناءها بأوضاف تبعث علي الألم في
النفس ليس لأن الأوصاف سيئة, بل لانها صحيحة, وينتهي به
الامر إلي اكتشاف ان الكتاب المترجم قد تم ايداعه في دار الكتب
المصرية مما أعطي للصحفي البريطاني فرصة لكي يزور دار الكتب
المصرية وان يصف بذلك مكاتب الادارات الحكومية وما تنضح به من
عدم تنظيم, الملفات ملقاة, والكتب مبعثرة والموظفون مكدسون
في مكاتب مترهلة, وفي دار الكتب تأكد فيسك ان الكتاب قد حصل
بالفعل علي إجازة حكومية وتم ايداعه في دار الكتب باعتباره
كتابا مترجما عن أصل موجود, ألفه البريطاني روبرت فيسك
وبطبيعة الاحوال فقد تم كل ذلك دون أية محاولة للتحقق من صحة
تلك البيانات, خلال هذه الجولات للبحث عن الفاعل سمع فيسك
اسم مجدي شكري باعتباره الفاعل المحتمل, وتركز البحث بذلك عن
هذا المجدي شكري وبعد ان يئس من الوصول إليه, لم يعد أمامه
إلا ان يذهب إلي مكتبة مدبولي في المهندسين للبحث عن جسم
الجريمة, حيث وجد الكتاب بالفعل, واضطر إلي شرائه ودفع
ثلاثين جنيها ثمنا لكتاب باسمه وان لم يؤلفه, وسمع ان مجدي
شكري قد انتقل إلي مدينة السادس من أكتوبر, وكان عليه البحث
عنه هناك, واكتشف ان الامر قد يستغرق البقية الباقية من
حياته, فتخلي عن المهمة وعاد إلي بلده, وكتب المقال المشار
إليه في الاندبندنت البريطانية, وقد أصبحت سمعة مصر الثقافية
في الحضيض.
أين قوانين النشر والاتفاقيات الموقعة لحماية الملكية الفكرية؟
اين الرقابة علي النشر؟ هل تقتصر الرقابة فقط علي منع نشر
الكتب السياسية المناوئة, ام ان عليها ان تتأكد ايضا من
احترام الحقوق والحريات؟
تقيم مصر معرضا للكتاب منذ عشرات السنوات, يضم عشرات الآلاف
من العناوين, كل هذا يتلاشي أمام واقعة مثل الغش والتدليس في
نشر الكتب, وربما مقال لصحفي بريطاني مثل روبرت فيسك أخطر
علي سمعة مصر الثقافية من مائة معرض للكتاب. والله أعلم.
Comments 发表评论
Commentaires تعليقات
click here 按这里
cliquez ici
اضغط هنا |
1-
د. محمد قصيبات
mgus2000@yahoo.fr
Mon, 25 Feb 2008 06:21:07
الدكتور الفاضل حازم الببلاوي تأكد
أنها الحادثة الأولى التي أسمع بها بعد تجربة أربعين
عامًا في الترجمة لو حدث هذا في أوربا لنال المترجم
جائزة على فعلته هذه الفكرة لم تخطر حتى على بال خورخي
بورخيس ذات مرة كتب أحد النقاد الفرنسيين عن كاتب وهمي
أثر في كتاب كبار سبقوه... نجح الكتاب
مترجما هذا يستحق جائزة لأنه أخترع نوعًا جديدًا من
الترجمةنغبطه عليه ... كان ممكن أن نسميها الترجمة
الإبداعية لولا أنه أختار إسمًا موجودًا بالفعل
تحياتي الصادقة | |