
شـعرية فـاروق شوشـة
د. صلاح فضل - مصر
أصبحت السبعون التي بلغها فاروق شوشة, ومن قبله أحمد عبد
المعطي حجازي, رقما لافتا في أعمار المبدعين والمفكرين ومن
يشغلون اهتمام الناس بذواتهم في هذه الآونة. ربما لأنها
مضاعفات الرقم السحري سبعة, أو لأنها تأتي بعد تجاوز الصبا
والشباب عند تخطي عتبة الستين الحاسمة في الحياة الوظيفية,
لتؤذن بالدخول جديا في عوالم الكبار, قبيل أن يطعنوا في
السن, وترتفع شكواهم من تآكل كفاءة الحواس, كما كان يشكو
الشاعر الجاهلي وهو يلاطف ممدوحه قائلا: 'إن
الثمانين ـ وبلغتها ـ/ قد أحوجت سمعي إلي ترجمان'
وربما كانت السبعون في حياة الشعراء فرصة لمراجعة أنفسهم,
وإلقاء نظرة علي مسيرتهم, تتراوح بين الرضا والقلق, وقد
استقبل فاروق شوشة فيما يبدو هذه المرحلة بكثير من الطموح
والتفاؤل; إذ كتب لي في إهداء مجموعته الأخيرة, وهي
الرابعة عشرة, وعنوانها:' أحبك حتي البكاء' قائلا: هذه
بداية جديدة لشاعر في السبعين; أرجو أن تجدها كذلك' مما
دعاني إلي النظر الملي فيها, لكن صورة الصديق الكبير, صاحب
الإنجازات الشعرية والثقافية والإعلامية العريضة لم تلبث أن
ملأت مخيلتي, فأخذت أستجلي ملامحها لأتبين التداخل والتمايز
بين خطوطها المختلفة, بما يتعارض تماما مع دعوي النقاد
الحداثيين التي لم أستسغها يوما عن' موت المؤلف'; خاصة
ونحن ندعو لمن هم في السبعين بطول العمر ليغيظوا النقاد
ويفرضوا حضورهم المتجدد الخصيب.
إيثار الفهم: منذ
أن انتهي فاروق شوشة من دراسته في دار العلوم نهاية
الخمسينيات, والتحق بكلية التربية كي يعد نفسه لمهنة
التدريس, وقد ظل يمارسها علي المستويات التعليمية العليا حتي
اليوم, وقد امتلك حسا تربويا ناضجا, جعله يؤثر في مقارباته
للإبداع, إنتاجا وتلقيا وأداء, هذا الطابع الاستراتيجي
المميز, من الاهتداء دائما بنور الفهم, والسباحة في ضوء
النهار, والحوار العقلاني الخالص, مع اللغة التواصلية
البعيدة عن غواية اللبس وسوء الفهم والغموض. ولعل تجربة
الإعلام أن تكون المصفاة الحقيقية لهذا النزوع الفطري الذي
يصيب الشعراء عند اتساع الرؤية وضيق العبارة كي يتلفعوا
بالغيوم في ظلال المجاز; حتي يبلغوا درجة التحدي بالإبهام
المقصود والمضني للقراء. ولعلنا نتذكر ما كان يجده أكبر
شعراء العربية, أبي الطيب المتنبي, من متعة في إرباك قرائه
من العلماء والأدباء حين يقول: ' أنام ملء جفوني عن
شواردها/ ويسهر الخلق جراها ويختصموا'
أما المعلمون
والإعلاميون فليس بوسعهم أن يمارسوا هذا الترف من عشق الإبهام
وسحر اللبس, وإن كانوا يدركون ما يفوتهم من أغوار الفن
العميق, فيجتهدون في تعويضه دون التورط في الرمز والتكثيف
والغموض المحبب. وقد أقام فاروق شوشة ـ منذ مطلع حياته ـ
محرابا للغة العربية, يتعبد فيه بقدسيتها, ووضع في مدخله
مذبحا للشعر يقدم له القرابين كل يوم, ثم وقف علي ذروة
السبعين يقول لنا ولنفسه: 'ها أنت تشاغل لغة/
كبرت بك ومعك..
لم تبتعدا, أو تتباعد أجنحة منك
ومنها
بينكما سر أقدم من سفر التكوين/ وأعمق من طبقات
الأرض..
ماذا قالت هذي اللغة/ وما قلت وأنت تصيد
أوابد راحلة
في قلب هجير الليل, وقطرة طل
راحت
تتشكل في قلب الليل/ لتفصح عن جلوتها في الفجر المخضل'
هذه أقصي نقطة يبلغها شعر فاروق, التعبيري المفهوم, في
توظيف عناصر المجاز وتشكيل الصور المتوالدة, احتماء بعناصر
الطبيعة الحسية, وإيثارا لاستحضار الموضوع دون غياب أو
إبهام, محافظا علي جسور التواصل التي كان يقفز فوقها أستاذه
وشيخه ومثله الأعلي محمود حسن إسماعيل, حيث يستغرقه الذهول
في عشق الطبيعة, وتبعده التجربة الصوفية عن مدارك القراء,
ويمعن في افتراع بكارة اللغة بتفرد مربك وممتع معا.
حبس الشياطين: بقدر ما يخشي الإعلاميون من الحبس في قضايا
النشر, يعتقلون شيطان الحرية المعربد في دمائهم, خاصة إذا
كان بعضهم ممسوسا بلوثة الفن. فإذا كان مبدعا أصيلا- في
قامة فاروق شوشة- كانت حياة الإعلام بالنسبة له محنة
موصولة, ونضالا مريرا مع الذات قبل أن تكون صراعا مع
الآخرين, فهو العاشق للحقيقة يعاشر الزيف في أرضه, وهو
المولع بالتمرد يراود الناس علي الطاعة, مما قد يصيبه
بالازدواج والانشطار, غير أنه لابد أن يتصالح في نهاية الأمر
مع ذاته, وقد وجد فاروق شوشة منفذا يسيرا له في التعبير
الآمن عن بعض الجموح عبر اختياراته الشعرية المحسوبة من عيون
الأدب العربي والتلذذ بأدائها المسموع والمرئي, مما أشبع
لديه بعض النهم في التجاوز دون أن يبوء تماما بإثمه عند
المتلقين, لكنه عرف كيف يحافظ علي النسق المتوازن الذي لا
يحيد عن صراط الإعلام في كتاباته واختياراته علي السواء. كما
ابتكر لونا من القصائد النقدية الهجائية لبعض النماذج المستفزة
مثل قصيدته العاتية' خدم' التي يقول فيها: '
خدم/ خدم/ وإن تبهنسوا/ وصعروا الخدود كلما مشوا
وغلظوا الصوت/ فزلزلوا الأرض/ وطرقعوا القدم
خدم/
خدم
وإن تباهوا أنهم أهل الكتاب والقلم
وأنهم في
حلكة الليل البهيم/ صانعوا النور وكاشفوا الظلم
وأنهم
بدونهم/ لا تصلح الدنيا ولا تفاخر الأمم'
هنا تبرز
قيمة الحرية المطلقة باعتبارها القيمة العليا لمفهوم السيادة
في الوطن دون نسبية, حيث يظل من لا يجسد جمال الحرية نموذجا
للعبودية والدونية, وهنا يبرز أيضا العرق الذهبي في شعرية
فاروق شوشة المولع بالمثالية والمجسد لتوقه الدائب للانعتاق من
عبودية التبعية.
(نقلاً عن الأهرام) |