
فحولة السبعين ـ2
أحمد
عبدالمعطي حجازي - مصر
إذا كان هناك أصل واحد
ينبع منه شعر فاروق شوشة وتجتمع فيه صفاته ومزاياه, فهذا الأصل هو الانتماء.
نعم, ففاروق شوشة شاعر منتم. ولقد نري أن الانتماء صفة جامعة لاينفرد بها شاعر
أو انسان بالذات, فكل منا لابد أن يكون منتميا لجماعة وموطن وثقافة وتاريخ.
وهذا حق لايجادل فيه أحد. لكننا لانتمثل انتماءنا ولانحسه بدرجة واحدة, ولانعبر
عنه بطريقة واحدة.
هناك من يشغل بذاته عن كل ماسواه, أو يشغل بها أكثر مما يشغل بسواها. وهناك من
يضيق بسلبيات قومه فيثور عليهم أو يتبرأ منهم. وهناك من يتجاوز حدود بلاده وينتمي
للانسانية جمعاء. لكن فاروق شوشة يبدأ منا نحن أهله وذويه فينتمي لنا ويجعلنا
دليله إلي نفسه من ناحية, وإلي الانسانية من ناحية أخري.
انه يري وجهه في مرايانا. وفي مرايانا أيضا, أي في لغتنا نحن, وثقافتنا
نحن, وماضينا نحن, وحاضرنا نحن يري الانسان, ويتصور العالم. يفرح ويحزن
بلغتنا, ويحب ويكره, ويغضب ويطرب. فكأنما هو في لابيرنت من الوجوه والصور
التي يتوالد بعضها من بعض, لايكاد يفرق بين أصل وفرع أو بين حقيقة ومجاز, أو
بين وجهه هو ووجوه سواه.
وبعض الانتماء ميراث. فأكثر الناس يرثون ملامح آبائهم, ولغة أمهاتهم, وتقاليد
أجدادهم. لكن بعضه الآخر اكتساب واكتشاف. إذ يتاح لبعضنا أن يتعلم ويتفهم,
ويفكر ويحلم, وينشيء لنفسه عالما داخل العالم, ويكتشف لغة داخل اللغة, وهذا
هو شأن الشاعر وشأن فاروق شوشة بالذات.
قدر الشاعر أن يشتغل بالمادة التي كان بها الانسان انسانا, وهي اللغة. فالانسان
قبل أن ينطق حيوان أعجم, حتي إذا نطق نهض واقفا يمشي علي قدميه ويأكل من عمل
يديه.
والنطق ليس مجرد تصويت, ولكنه تفكر وتعقل. فإذا قلنا إن الانسان حيوان ناطق
فمعناها أنه كائن عاقل. وإذا كان النطق أي العقل واحدا في البشر جميعا فاللغات
شتي. وهكذا لاتكون الانسانية إلا حيث يكون التعدد والتنوع, ولايكون الشعر إلا
بلغة بالذات يحبها الشاعر فتحبه, ويشاغلها لتشاغله, ويعطيها نفسه لتعطيه
نفسها. اقرأوا معي هذه المقتطفات من قصيدة فاروق شوشة لغة التي يفتتح بها ديوانه
الجديد أحبك حتي البكاء:
ها أنت تشاغل لغة كبرت بك/ ومعك/ لم تبتعد/ أو تتباعد أجنحة منك ومنها/
بينكما سر أقدم من سفر التكوين/ وأعمق من طبقات الأرض
***
ماذا قالت هذه اللغة وماذا قلت؟/ وأنت تصيد أوابد راحلة في قلب هجير المحل/
وقطرة طل/ راحت تتشكل في قلب الليل/ لتفصح عن جلوتها في الفجر المخضل
***
قصيدة حب تساقط مطرا/ أو كوة نور يشرق من أسوار العتمة/ وهو يزلزل ديجور
الطاغوت/ ليسطع بين الناس بهاء العقل
***
ماذا يبقي بعد جفاف الحرف وفوضي الكلمات/ وتناعق أغربة الحقد الأسود/ وحناجر
دربها الهتافون المأجورون/ بحثا عن خلخلة المعني وهشيم الفكر المعتل
لكن يقينك ينجيك ويغنيك
***
أطلق للريح شراعا مقتحما/ واقبض بيديك علي معشوقتك الموعودة/ وانفخ فيها من
روحك/ حتي تنهض من كبوتها وتلوح لك
***
فاروق شوشة في هذه القصيدة يكلم نفسه ويكلمنا. يقول إن اللغة طفلة كبرت معه,
كأنه قيس واللغة ليلي. لكن لغة فاروق شوشة التي ولدت معه تنتمي لأصل بعيد,
وتتصل بسر أقدم من سفر التكوين, هو سر الخلق الذي بدأ بالكلمة, ففي البدء كانت
الكلمة. الكلمة إذن هي أصلنا الذي نشأنا منه, وهي غايتنا التي لانتحقق إلا
بالوصول إليها. وهذا ليس مجرد تركيب شعري, وإنما هو حقيقة علمية. فاللغة من
حيث هي معجم وقواعد ونصوص وأساليب موجودة قبلنا سابقة علينا. لكنها لاتتحقق إلا
بنا ولانتحقق إلا بها. وذلك حين نقتنصها كما تقتنص الطيور الآبدة, ونروضها كما
نروض الوحوش الشاردة, ونمتلكها أو نحصل علي نصيبنا منها, فنحولها من امكان إلي
فعل, ومن لغة إلي كلام يشرق فيه نور العقل, وتنتصر الحرية. فإذا فقدت اللغة
معناها علي ألسنة المنافقين الكذابين, ودبت فيها الفوضي, وصارت خرابا تنعق فيه
الغربان فماذا يبقي لنا؟ لكن اللغة لها في فاروق شوشة و أمثاله من الشعراء والكتاب
الحقيقيين رجال ينفخون فيها من روحهم حتي تنهض وتقوم. فلينشر هؤلاء الرجال
أشرعتهم فالريح معهم!
***
وإذا كان فاروق شوشة عاشق اللغة يحاور اللغة ويغازلها في هذه القصيدة علي هذا النحو
الصريح, فهو في بقية قصائده يحاورها ويغازلها ويعانقها دون أن يصرح. وذلك وهو
يختار مفرداته, ويبني عباراته, فيسأل مرة ويجيب, ويسأل مرة أخري ولايجيب.
ويستطرد أحيانا ويقتصد أحيانا. ويؤكد ويتشكك ويتأمل ويتخيل. ويتوقع ويتمني,
ثم وهو يشكل ايقاعاته فيبحر في الأوزان الموروثة والأوزان الجديدة, وفي البحار
المطروقة والبحار المجهولة, يقتنص القوافي أو يواصل طريقه وهي في مرماه. وربما
نظم في بحر الطويل فذكرنا بالقدماء الفحول, وربما طعم شعره الموزون بشعر منثور.
أما قصائده في بحر الخفيف فمتعة أي متعة, لأنه لايكتفي بركوب هذا البحر, بل
يغير حدوده, ويرسم شواطئه من جديد في كل قصيدة جديدة.
***
وفاروق شوشة الذي ينتمي للغة ينتمي لنا جميعا, وينوب عنا جميعا, ولايكاد يترك
مناسبة إلا ويقول فيها كلمته. إنه يحدثنا عن نفسه وعن أسرته عن الأرض المغتصبة
والسلام الكاذب, يواسينا, ويبكي موتانا الذين رحلوا في أيام الفزع فلم يبكهم
أحد: يوسف إدريس, وعبدالمحسن طه بدر, وطاهر أبوفاشا, ومحمد عبدالوهاب.
وإذا كانت أحلام الخمسينيات الوردية قد فاتت فاروق شوشة فلم يغن لها كما غنينا,
فقد ظهرت هذه الأحلام علي حقيقتها الفاجعة, وتكشفت عن أوهام خادعة. وإذا كانت
الريح تواتيه في هذا الزمن البائس الذي لايجد فيه إلا مايرثي له ويهجوه, فعزاؤه
أنه شاهد حق, يفتح عيوننا علي قبح الحاضر, ويبشرنا بزمن جديد.
ياقمر!
هل تظل يؤرقك العدل/ ينتابك الذعر/ في زمن شائه ورجيم؟
نعم. فاروق شوشة يهجو الزمن ولا يشكو منه, ويرثي له ويترفع عليه. والزمن في
قصائده ذليل, ومخيف, ورخيص, وشائه, ورجيم, وخسيس, ووضيع, وملتبس,
ومراوغ. والوقت رماد. والعصر طغاة وسبايا.
اقرأوا معي هذا المقطع من هجاء فاروق شوشة لمن يسميه شبيه زماننا:
ياشبيه الزمان الذي جاءنا بك/ في غفلة من عيون الأمان/ ومن شرف العرض
والكبرياء.
أو تدرك كم أنت تشبهه؟/ كاذب مثله/ وخسيس, وملتبس, ومراوغ.
شبيهك هذا الزمان
أنتما أعميان!
أنتما عابران!
(نقلاً عن الأهرام بتاريخ 15/2/2006)
|