ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

أحمد عبد المعطي حجازي - مصر

فحولة السبعين‏!‏
‏أحمد عبدالمعطي حجازي - مصر
 

فاروق شوشة في السبعين‏.‏ وليست هذه هي القرابة الوحيدة التي تجمع بيننا‏,‏ وإنما تجمعنا قرابات‏.‏

لقيته أول مرة منذ نحو خمسين سنة‏.‏ كان طالبا لايزال في كلية دار العلوم‏,‏ حين كانت لاتزال في دارها الأولي التي بناها لها الخديو اسماعيل في سبعينيات القرن التاسع عشر‏.‏ كان في السنة الثانية أو الثالثة قريب عهد بسكني العاصمة التي قدم إليها من ريف دمياط‏.‏ وكنت مثله قريب عهد بسكناها قادما إليها من ريف المنوفية باحثا عن عمل في الصحافة وجدته في دار روزاليوسف‏,‏ وعن مكان في الشعر كان لابد أن يسوقني بحثي عنه إلي كلية دار العلوم التي كانت تضم بين طلابها شعراء معروفين حولوا هم وأساتذتهم قاعات الدرس إلي منابر للشعر كنت واحدا ممن اعتلوها وأنا بعد في الحادية والعشرين أوالثانية والعشرين‏.‏ وهكذا تعرفت في دار العلوم علي فاروق شوشة‏,‏ كما تعرفت فيها علي محمد الفيتوري‏,‏ وهو من أبنائها‏,‏ وعلي صلاح عبدالصبور وهو ضيف من ضيوفها مثلي‏.‏

في ذلك الوقت كان الشعر الجديد أو الشعر الحر فتنة جديدة انخرطنا فيها بكل ما أوتينا من قدرة علي التمرد واعتمل في نفوسنا من شوق حارق للتغيير والتجديد‏.‏ كانت حركة التجديد في الشعر وجها من وجوه حركة شاملة تبنينا شعاراتها وحملنا راياتها‏,‏ ظانين أننا نتقدم تحتها إلي مدينتنا الفاضلة التي ستتحد فيهاشعوبنا من المحيط إلي الخليج‏,‏ وستنعم فيها بالحرية التي لم تعرفها منذ آلاف السنين‏,‏ وبالاشتراكية التي لم يكن لها عهد بها‏.‏

وقد جمعتني بفاروق شوشة في الخمسينيات هذه الأحلام‏,‏ كما جمعني به الشعر‏,‏ والعمر الجميل‏,‏ وظروف الحياة التي عطفتني عليه وعطفته علي‏,‏ فنشاطنا متقارب‏,‏ وثقافتنا واحدة‏,‏ في أصولها علي الأقل‏,‏ وأصدقاؤنا مشتركون‏.‏ وإن لم تمنعنا هذه القرابات الحميمة كلها من أن يكون هو كما كان‏,‏ وأن أكون كما كنت‏.‏

أظن أن فاروق شوشة أكثر تحفظا‏,‏ وإذن فالرجل الذي نعرفه بهذا الاسم يختلف إلي حد ما عن الشاعر الذي نقرأ له‏.‏ الرجل محتاط‏,‏ متوازن عاقل‏,‏ منضبط‏.‏ والشاعر صريح‏,‏ منفعل‏,‏ طروب‏,‏ مندفع‏.‏ وربما كانت هذه المسافة التي نجدها عند كل شاعر بين‏,‏ نشاطه كفنان ونشاطه كا نسان هي التي أطلقت خطي فاروق رجل الإعلام‏,‏ وأمسكت خطي رجل الشعر بعض الوقت‏,‏ فلم يبدأ مسيرته فيه إلا في الستينيات‏.‏ وكان مؤهلا لأن يبدأها قبل ذلك‏.‏

لكن فاروق شوشة الذي تأخر في البدايات يتقدم ويسبق في النهايات‏.‏ وإذا كانت شياطيننا نحن قد بكرت في الحضور حين كانت أدواتنا لاتزال محدودة ساذجة‏,‏ فها هو شيطان فاروق شوشة نشيط يقظ متحفز مستعد يقف رهن اشارته‏,‏ ويتبعه كظله بعد أن نضجت تجربته واكتملت أدواته‏.‏

لقد أصدر مجموعته الأولي إلي مسافرة عام‏1966‏ وهو في الثلاثين من عمره‏.‏ ثم مرت ست سنوات قبل أن تصدر مجموعته الثانية ثم تتلوها الثالثة بعد عام لتصدر الرابعة بعد ست سنوات أخري‏.‏ أما المجموعات التالية وهي عشر مجموعات فقد صدرت تباعا خلال الأعوام العشرين الماضية‏,‏ أي مجموعة كل سنتين‏,‏ وآخرها أحبك حتي البكاء التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية قبل أيام‏.‏ وهذه الخصوبة أو هذه الفحولة كما كان القدماء يقولون‏,‏ ليست كما فحسب‏,‏ وإنما هي قيمة واضافة‏.‏

كل شيء في شعر فاروق شوشة‏,‏ وخاصة في مجموعاته الأخيرة‏,‏ في مكانه‏.‏ كل كلمة‏,‏ كل صورة‏,‏ كل اشارة‏,‏ كل ايقاع‏,‏ كل سكتة عمل ممتع‏,‏ لأنه صادر عن قدرة وغني وتمكن وثقة تجعله حرا يقول مايشاء‏,‏ في الوقت الذي يشاء علي النحو الذي يشاء‏.‏

قد لايدهشنا في كل قصيدة لأنه لايمعن في البعد ويحرص علي أن يظل قريبا مأنوسا‏,‏ لكنه يمتعنا في كل قصيدة يمزج فيها بين مانعرف وما لانعرف‏.‏ يذكرنا بالذي نسيناه من هذا الفن فنغنيه معه‏,‏ ثم يتلوه بالجديد الذي نقف أمامه مبهورين‏.‏

هذه الحرية التي يتمتع بها فاروق شوشة لها ثمنها‏,‏ وثمنها عنده أن يكون صوت بلاده‏,‏ أي صوت زمنه‏.‏ لا بالمعني البسيط الذي قد نفهمه من هذه العبارات ويكون فيه الشاعر مجرد وسيط بيننا وبين العالم‏,‏ وإنما بمعني أعمق بكثير يكون فيه الشاعر خالق لغة وناطقا بها في الوقت ذاته‏,‏ منفصلا عن الجماعة ومتصلا بها‏,‏ يتحدث عن نفسه فيحس السامع كأنه ينطق بلسانه‏,‏ وينفعل بما يراه في الآخرين فكأنه يراه في نفسه‏.‏ وهذه الحركة الدائبة بين الداخل والخارج‏,‏ هذا الوجود المزدوج وهذا الوعي المركب هو الشرط الذي لايستطيع بدونه الشعر أن يكون‏.‏

الشاعر لايستطيع إلا أن يكون وريثا للغته مثله مثل غيره ممن يتحدثون بها وإلا فلن يصل إليهم‏,‏ ولن يفهموا عنه‏,‏ ولن يتأثروا به‏.‏ والشاعر لايستطيع أيضا إلا أن يكون منشئا لهذه اللغة مبدعا فيها‏,‏ وإلا فلن يأتي بجديد يغري الآخرين الذين يتكلمون هذه اللغة بأن يقرأوه ويستمعوا إليه‏.‏

والشاعر وهو يبدع وينشيء يفاجئ الناس بما استخرجه من لغتهم التي يعرفونها‏.‏ إنه لايفرض عليها شيئا من خارجها‏,‏ ولايحملها ما لاتسيغه أو ماتنوء به‏,‏ بل يكشف عن جمالها المستور وسحرها الخفي المتجدد‏.‏ وهذا هو مايفعله فاروق شوشة وغيره من الشعراء الحقيقيين الذين اجتمعت لهم الموهبة والصنعة‏,‏ الكسب والميراث‏,‏ وعي الفرد ووعي الجماعة‏,‏ احترام النظام والتمرد علي النظام‏.‏ وفي شعر فاروق شوشة شعور قوي متوتر بوجود هذين الحدين‏,‏ وبالصراع الذي لايهدأ بينهما‏.‏ يقول‏:‏
بعضي صار يناجزني‏/‏ يتنكر لي‏,‏ ويباعدني
وأنا المذبوح علي الحدين‏/‏ أرد الطعنة كيف؟
أصوب‏,‏ حين أصوب‏,‏ للمجهول‏!‏
وجه عدوي في نافذتي‏,/‏ في مرآتي‏,‏
في داخل سمي وطعامي‏.‏
ويقول في رسالة إلي أبي‏!‏
الآن عندما اختلطنا صرت واحدا‏,‏
وصرت اثنين‏,‏ عدت واحدا
عنك انفصلت‏,‏ واتصلت‏,/‏ وانفصلت‏,‏ واكتملت‏.‏
وهذا الذي يقوله الشاعر لأبيه بقوله للجماعة القومية التي ينتمي لها‏.‏
ويقول في قصيدته مدن للرحيل‏:‏
مدن للرحيل
فمن يمسك الأرض‏,‏ يقسم‏:‏
هذي نهاية موتي
وهذي بداية صوتي
وهذا طريقي إلي المستحيل‏!‏
لاسكن إذن ولا قرار‏,‏ مادامت المدن التي أنشئت للسكني تحولت إلي محطات وفنادق في طرق العابرين‏,‏ ومن الذي يموت هنا؟ ومن الذي يبدأ؟ الوريث الشبيه يموت؟ ربما‏.‏ وبموته يبدأ الشاعر المتفرد‏.‏

والصراع الدائر في كيان الشاعر بين ذاته الفردية وذاته القومية يعلن عن نفسه بطرق شتي‏.‏ فهو موضوع للشعر كما رأينا في الأمثلة السابقة‏,‏ وهو شكل أيضا يؤلف فيه الشاعر بين لغته هو ولفة أسلافه لنري كيف يطاوعهم أحيانا ويصارعهم أحيانا أخري‏,‏ كما نجد في حديثه عن العرار والخزامي‏,‏ واليمام والقطا‏,‏ والرغاء والردي النائم وسواها من الاشارات التي نتذكر بها امرأ القيس‏,‏ والحارث بن حلزة‏,‏ والمتنبي‏,‏ والمعري‏.‏

هكذا استطاع فاروق شوشة أن يكون صوتا لبلاده‏,‏ وأن يكون صوتا لزمنه وفيا لنفسه‏,‏ ووفينا لنا‏!

(نقلاً عن جريدة الأهرام 2006/2/8)

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا