ف |
شعر مترجم |
فن البداية في القصة القصيرة د. ثائر العذاري - العراق
ثمة تجربتنا أظن أن أكثرنا قد عاشها مرة أو أكثر، وأنت تدير مؤشر الراديو بحثا عن محطتك الأثيرة ، قد تسمع جزءا من لازمة موسيقية ، ثم تجتازها ، وفجأة تجد أن دافعا مبهما يدفعك الى ان تدير المؤشر بالاتجاه المعاكس لتستمع الى تكملة تلك اللازمة، ثم تعود للبحث عن إذاعتك. هذا بالضبط ما يجب أن تفعله البداية في القصة القصيرة ، ففي لمحة خاطفة تعلقنا البداية بأمر يهمنا ، لكنها تشعرنا بنقص في المعلومات نجد أنفسنا مندفعين الى البحث عن إتمامه. في الرواية تكون البداية أسهل بكثير مما هي عليه في القصة ، فهي ليست سوى اختيار نقطة ما على سطح الحبكة والابتداء بالسرد منها، أما في القصة القصيرة وخصوصا القصة الحديثة ، فنحن إزاء عمل سردي خال من الحبكة او ربما تنتظمه حبكة بسيطة جدا لا يمكن اعتمادها مصدرا لاستيحاء البداية. ما هي ضوابط البداية الناجحة؟ وما وظائف البداية؟ وكم يجب أن يكون طولها؟ وما كمية المعلومات التي ينبغي أن تزودنا بها ؟ هذه أسئلة قليلة من مجموعة كبيرة من الأسئلة المتعلقة ببداية القصة ، ولأن القصة لم تحظ كالشعر بكم كبير من التنظير ، فإن أجوبة هذه الأسئلة لا يمكن أن تكون مطلقة ، فضلا عن إنها ميدان فسيح للبحث والتحليل العلمي. القصة صورة مكثفة للحياة، ولذلك فهي تستمد الكثير من تكنيكاتها من الحياة الحقيقية, وإذن ، كيف يلفت انتباهنا شخص ما في الحياة الحقيقية؟ اننا ببساطة ننظر أولا الى منظر كبير ، ولنفرض أنه سوق، طبعا نحن لا نرى تفاصيل المنظر ، بل أن كثيرا من تلك التفاصيل نكملها في عقولنا افتراضيا من مخزوننا المعرفي النمطي للسوق، بعد ذلك تقوم أعيننا بالتقاط شخص ما لوجود شيء ما يميزه من غيره ، لون ملابسه ، طوله ، أشيء غريبة يحملها ، مكان يقف فيه لم نتعود أن يقف فيه أحد........ ، عند هذه النقطة يجب أن نلاحظ أن الشخص الذي التقطناه ليس منعزلا عن المنظر الكلي ، انما هو جزء وثيق منه ، ولكن أعيننا ستبدأ اعتبارا من هذه النقطة بطرح التفاصيل المحيطة وبسرعة كبيرة نجد أننا لا نرى غير هذا الشخص الذي استدرجنا لرؤيته. ومن هنا يمكن أن تكون البداية في القصة القصيرة تقليدا لحركة العين السابقة ، لتكون وظيفتها زرع الشخصية في بيئة القصة, مع التشديد على فكرة تقليد حركة العين وليس أية حاسة أخرى. فالقصة يجب أن ترينا الشخصية وهي تعمل لا أن تخبرنا عن الشخصية وعملها. ولنأخذ المثال الآتي: "كان أحمد طالبا في المرحلة المنتهية من كلية الهندسة قسم الكهرباء....." هذه طبعا بداية سخيفة لقصة فاشلة ، فهي تخبرنا عن شخصية ما بطريقة الحكاية ، وهذا الخبر يتحدث عن أمر نمطي ليس فيه ما يشد انتباهنا، ولكن: "ككل صباح ثلاثاء حمل أحمد كتاب (الدوائر المنطقية) واستقل الباص المتوجه الى الجامعة ، وهو يفكر بالأشهر الأربعة التي تفصله عن حفلة التخرج" الأمر مختلف هنا ، فنحن نشاهد شخصية تتحرك ، فضلا عن أن هذه البداية زودتنا بمعلومات كثيرة عن الشخصية ومحيطها. ويلاحظ أن استخدامنا للتعبير (ككل صباح) في بداية العبارة ، يوحي بأن هذا سيكون صباحا مختلفا ، مما سيولد الفضول لدى القارئ لمعرفة وجه الاختلاف. و لنحاول النظر الى بدايات بعض من القصص القصيرة لكتاب معروفين ، وهذه أولا بداية قصة (ضوء كالماء) لماركيز: ((في عيد الميلاد، عاد الطفلان الى طلب زورق التجديف. )) في هذه العبارة القصيرة يحدد ماركيز أشياء كثيرة، فمن الملاحظ أن البداية تعرض صورة متحركة لا خبرا جامدا، واستخدم القاص (الطفلان) بصيغة التعريف ليجعلهما أليفين لنا، ثم استخدم الفعل (عاد) الذي أفاد بأن هذا الطلب لا يحدث للمرة الأولى ، لكنه بالتأكيد مختلف هذه المرة والا ما كتب القصة، ثم ان الطفلين هنا يزرعان زرعا في القصة وذلك من خلال وجود مركزين للثقل في البداية ، هما الطفلان والزورق ، ثمة علاقة بين الاثنين سيحاول القارئ معرفتها ومتابعة القراءة. من يقرأ قصص جمال الغيطاني يلمس اهتمام هذا القاص ببداياته بحيث تأتي دائما غريبة ومبتكرة وهذا من أسرار نجاحه قاصا، تبدأ القصة ( الإجازة 72) هكذا: ((قالت: -كل مرة لا نعرف ميعاد اجازتك.. في المساء الخالي من الضوضاء ، الهادئ
في هذه البداية ترى إن القاص يسابق الزمن لدخول القصة، لقد استطاع أن يزرع شخصيتين في قصته بسرعة مذهلة ، لابد أن يكون البطل هنا شخصا يعمل في مكان بعيد بحيث يغيب عن بيته ولا يأتي الا في اجازات غير منتظمة، وهو أعزب لأن المتحدثة قالت له (سريرك) بصيغة المفرد ، وهذه المرأة ليست زوجة طبعا لأنها لو كانت كذلك لقالت (سريرنا)، لكنها مع ذلك تعيش في بيته وتربطها به علاقة حميمة فهي اذن أمه أو أخته ، ولكن ما كنه عمل هذا الشخص الذي يتسم بهذه الطبيعة، هذا ما سيبحث عنه القارئ عند مواصلة القراءة. في مقالات قادمة سنحاول النظر في أنماط البداية و سمات البدايات الناجحة.
|
|
|
|