لا أستطيع وأنا أواصل حديثي عن الشعر إلا أن أكون صريحا مع
نفسي ومعكم فأقول إن الشعر لم يعد له الآن إلا وجود باهت
متهافت في حياتنا التي انحسر عن مجالات النشاط والفعل فيها
ليظهر علي هوامشها الراكدة, لا بقوته الذاتية, بل
بالمناسبات التي تحملنا علي تذكره, وتتيح له أن يطل
علينا من بعيد.
هذه الحال المتردية ليست
نهاية طبيعية ولا تطورا حتميا كان لابد أن ينتهي إليه هذا
الفن الجميل كما يظن بعض النقاد الذين يحبون أن يطبقوا
نظرية داروين علي الأدب, ويخلطوا بين الشعر كحاجة
انسانية ثابتة والشعر كأشكال تتطور وتتجدد.
الشعر حاجة إنسانية ثابتة, لأن الشعر هو التعبير اللغوي
الأمثل عن الوعي الانساني الجامع الذي تتحد فيه النفس
والجسد, ويتصل فيه الحلم بالحقيقة, وتمتزج الفكرة
بالعاطفة. لهذا كان وجود الشعر بديهيا في كل لغة, وكان
سابقا لوجود الفنون اللغوية الأخري, ومتضمنا إياها.
ففي العصور القديمة والعصور التي سبقتها لم يكن هناك إلا
الشعر, وكان الشعر فنا جامعا يتسع لثقافة الجماعة
وخبراتها. فهو تمثيل وغناء, وعلم وحكمة, ودين
وأخلاق, وتاريخ وسياسة. وقد ظل الشعر يتطور ويتخلي عما
لايدخل في جوهره من المعارف والخبرات التي تحولت إلي فنون
مستقلة, وبقيت القصيدة وحدها شعرا خالصا.
ولقد ظن بعض النقاد الغربيين أن الرواية التي ظهرت منذ
ثلاثة قرون ونضجت وازدهرت في القرن التاسع عشر والقرن
العشرين ستحل محل الشعر. لكن الشعر ازدهر أيضا في هذين
القرنين الماضيين, وقدم خلالهما روائع لم يقدمها في
العصور السابقة والرواية قد تغني عن الملحمة, لكنها
لاتغني عن القصيدة.
ولقد ظن كثير من
النقاد الغربيين أن الحضارة الصناعية ستقضي علي الشعر الذي
ولد في الغابات والمراعي, فلابد أن يموت في المعامل
والمصانع التي ستتخلي عن الشعر لتحتضن العلم والتقنية.
غير أن الشعر لم يمت, لأنه ليس بديلا عن العلم وليس
العلم بديلا عنه, وإنما يلبي كل منهما حاجة من حاجات
الانسان لا يلبيها سواه. وإذا كانت الحضارات الرعوية
والزراعية قد انتجت وعيا من نوع خاص عبر عنه شعراؤها,
فالحضارة الصناعية أنتجت وعيا آخر يحتاج إلي شعر آخر قدمه
في عصرنا الحديث فيكتور هيجو, وشارل بودلير, وبول
فاليري, وبول ايلوار, ولويس أراجون في فرنسا. وورد
زورث, وشيلي, وبيرون, وإيليوت, وييتس, وأودن في
انجلترا. والشعر الأمريكي كله شعر حديث لم يظهر إلا في
الحضارة الأمريكية الصناعية. ونحن لانعرف في روسيا
القديمة شاعرا يطاول شعراءها الذين ظهروا في العصور
الحديثة من أمثال بوشكين, وليرمنتوف, وماياكوفسكي,
وباسترناك, ويوفتشنكو, وفوز نسينسكي.
ومن المؤكد أن في شعرنا العربي القديم قصائد رائعة تركها
لنا امرؤ القيس وطرفة بن العبد ومالك بن الريب وأبو
نواس, والمتنبي, والمعري, لكني أعتقد أن شعرنا
الحديث في مجمله أعظم وأحفل بالقيم الجمالية والانسانية من
الشعر العربي القديم.
ليس صحيحا إذن أن
الحضارة الحديثة تقتل الشعر. أو أن ظهور الرواية لابد أن
يؤدي لاختفاء القصيدة. فالشعر كما قلت حاجة أساسية من
حاجات الانسان لا تنحصر في زمن ولا يلبيها فن غير فن
الشعر. قد يتراجع الشعر في مرحلة ويتقدم في مرحلة
أخري, لكن الحاجة إليه تظل قائمة ملحة. فإذا كان هذا
صحيحا فكيف نفسر تهافت الشعر وانحساره في بلادنا هذه
الأيام؟
التفسير واضح ملموس. فالشعر مادته
اللغة. واللغة في هذه الأيام فاسدة ركيكة متهافتة. كيف
يمكن إذن أن يزدهر الشعر؟
قد يري البعض أن
الرواية مزدهرة في هذه الأيام, وقد يستنتج من ذلك أن
اللغة بخير وعافية, لأن مادة الرواية هي اللغة أيضا.
وإذن فالكلام عن تهافت اللغة وفسادها مبالغ فيه.
والتفسير الذي أقدمه لتراجع الشعر غير مقنع.
لكن ازدهار الرواية مسألة فيها نظر. لأن الازدهار شئ,
والرواج شئ آخر. الأغنية الآن علي سبيل المثال رائجة.
جمهورها ضخم, والأجر الذي يحصل عليه الواحد أو الواحدة
من أصحاب الأصوات الناشزة والألحان التافهة والكلمات
السوقية أضخم بكثير مما كان يحصل عليه عبدالوهاب, وأم
كلثوم, وأسمهان وليلي مراد مجتمعين!
ولاشك أن الجمهور القارئ في حاجة إلي الرواية, كما أنه
في حاجة إلي الشعر, ولاشك أنه الآن مقبل علي قراءة
الرواية التي أتيحت لها في العقود الأخيرة مواهب حقيقية
نفخر بها جميعا, لكن هذا كله ليس دليلا قاطعا علي أن
اللغة بخير, ولا ينفي أنها تتراجع يوما بعد يوم.
قد لا يظهر هذا التراجع في الرواية كما يظهر في الشعر,
تماما كما أن عيوب صوت المغني لا تظهر في الكلام كما تظهر
في الغناء, لأن اللغة في الرواية أداة, لكنها في الشعر
غاية ومثل أعلي. الكلمات في الرواية قد يغني بعضها عن
بعض, لأن الكلمة في الرواية معني فقط. أما في الشعر
فالكلمة معني وصورة ووزن في آن معا, والخطأ النحوي في
الشعر مكشوف مفضوح, لأن الشعر غناء ناطق, أما في النثر
فالأخطاء مستورة, لأن النثر يقرأ في الصمت, والكلمة
فيه تغني عن أختها. وإذا كانت الرواية تكتفي من كاتبها
بالقليل من اللغة, فهي تكتفي من قارئها بأقل من
القليل. لأن الرواية لاتقوم باللغة وحدها, وإنما تقوم
باللغة, وبمعرفة الواقع, ومعرفة الآخرين. وهي لاتنطق
بلسان الروائي وحده كما ينطق الشعر بلسان الشاعر, وإنما
تحفل بالنماذج البشرية المختلفة وتنطق بألسنتها جميعا.
ومالنا نلجأ للمقارنة والمناظرة وأمامنا الواقع اللغوي
الراهن يتحدث عن نفسه ويقدم لنا الدليل المادي الملموس علي
ما نقول؟ اقرأوا لغة الصحف والكتب وأنبئوني بصدق كم مقالة
في الصحيفة, وكم صفحة في الكتاب تجدونها بريئة من الخطأ
الفاحش؟ واستمعوا لما يذاع في الراديو والتليفزيون وقولوا
لي بأي لغة يتحدث المتحدثون؟ كم مذيع يستطيع أن يكلمنا بضع
دقائق بلغة عربية صحيحة؟ وكم مذيعة قادرة علي التمييز بين
الصاد والسين, والزاي والذال, والضاد والدال؟ بل أنا
متأكد من أن الذين يحسنون الحديث بالفصحي من بين أساتذة
اللغة والأدب قلة محدودة, فأي مستوي نتوقع أن تكون عليه
لغة التلاميذ؟
محنة الشعر من محنة اللغة,
وقد أضعنا هذه فأضعنا هذاك. فهل نسترد اللغة لنسترد
الشعر؟!