الشعر
في حياتنا (3) الشعر ليس امتيازا خاصا
أحمد عبدالمعطي حجازي - مصر
ليس صحيحا أن الشعر امتياز خاص بالشعراء, محصور فيهم أو
مقصور عليهم, وماذا يكون الشعر إلا اللغة التي نملكها
جميعا ونتكلمها جميعا؟ وماذا يكون إلا الحياة التي نعيشها
جميعا وننفعل بها ونحولها إلي خبرات وثقافات؟
وفي المجتمعات البدائية والمجتمعات القديمة عامة كان
النشاط البشري كله مشتركا, النشاط العملي, والنشاط
العقلي, والنشاط الروحي, فالجميع يصطادون ويجمعون
الثمار, والجميع يحملون السلاح, والجميع ينظمون
القصائد ويروون القصص, والجميع يصلون للشمس والقمر
والريح والمطر, لأن كلا منهم يحتاج لأن يأكل ويشرب,
ويدافع عن نفسه, ويعبر عن انفعالاته ويتصل بالطبيعة وبما
وراء الطبيعة. من هنا تنسب الأعمال الأدبية
والفنية القديمة أو معظمها للجماعة كلها لا لصانع واحد
أوصناع أفراد, حتي ولو كان هذا الصانع معروفا, فنحن
نقول تمثال فرعوني, وهيكل فينيقي, وإناء إغريقي,
ونحن ننسب الشعر العربي القديم للعصر الجاهلي فنقول قصيدة
جاهلية, لكننا لاننسب قصيدة شوقي الا لشوقي.
وإذا كان الرواة العرب ينسبون القصائد المعلقات لشعراء
أفراد كامرئ القيس, وطرفة بن العبد, وعنترة, فقد ذهب
عميد الأدب إلي أن الشعر الجاهلي منحول, أو هو بعبارة
أدق نتاج جماعي يصور حياة الجماعة العربية البدوية,
ويجسد أخلاقها, ويعبر عن نظرتها الخاصة للوجود بلغة
طقسية قريبة من لغة الشعائر الدينية التي تصبح فيها
الجماعة كيانا واحدا يتوحد فيه الأفراد وتتصل الأجيال,
وما علينا إلا أن ننظر في أدبنا الشعبي الذي نتوارثه ولا
نسأل عن قائله, لأننا نعلم أن قائله هوالشعب بكل أجياله
ونسائه ورجاله وأطفاله. الشعب كله هو
الذي غني للحب فقال ورمش عين الحبيب يفرش علي فدان وهو
الذي غني للوطن فقال بلسان الأمهات يخاطبن أطفالهن الرضع
خد البزة واسكت خد البزة ونام, أمك السيدة وأبوك
الامام, وجدك سعد باشا طالب الاستقلال. وهو الذي غني
للولد الفقيد فقال بلسانه يا امه خطفني الطير برياشه,
وابويا ع الديوان ما حاشه! وحين كنا أطفالا
نغني الأغاني الفولكلورية لم نكن مجرد مرددين نغني
ماحفظناه أو تلقيناه عن غيرنا, بل كنا ننفعل بالأغنية
ونؤديها كما لو كنا نحن مؤلفيها, وهذا هو ما نعنيه حين
نقول عن هذه النصوص انها تأليف جماعي, لانقصد بهذا أن
الجميع جلسوا ينظمون القصيدة أو الأغنية معا, ولاننكر أن
في كل مجتمع أفرادا مؤهلين أكثر من غيرهم للتعامل مع اللغة
والتصرف فيها وتطويعها لما لديهم من معان وأشكال, وإنما
المقصود أن المبدع في الأثر الشعبي لايتمثل نفسه في
عمله, بل يتمثل الجماعة كلها, ولايجتهد في التحرر من
تقاليدها الفنية كما يفعل المبدع الفرد الذي يريد أن ينشئ
عملا فريدا ينسب له وحده, بل يجتهد علي العكس في احترام
هذه التقاليد والامتثال لما تمليه عليه حتي يكون له الحق
في أن ينسب نفسه للتراث القومي الذي ينبع منه ويصب فيه,
وإذا كان الأثر الشعبي تعبيرا عن الجماعة وعن تراثها
القومي فهو مفتوح لكل قادر, علي أن يضيف إليه ويعيد
تشكيله ويجعله أقدر علي أن يمثل الجماعة ويوقظ في أفرادها
الشعور بأنهم كيان واحد, وأن الأغنية التي يغنونها أو
الرقصة التي يؤدونها تراث مشترك ينتمي له الجميع.
غير أن هذا العصر الذي كان فيه النشاط البشري كله نشاطا
مشتركا يؤديه الجميع, انتهي وانتقل الناس إلي عصر جديد
تقوم فيه الحضارة علي تقسيم العمل بين أفراد المجتمع.
في البداية كانت الحاجات محدودة, والخبرة متواضعة,
وكانت الصنعة ساذجة فجة, لكن الحاجات زادت وتنوعت,
والخبرات تراكمت وتطورت, وأصبح المجتمع قادرا علي
التمييز راغبا في الاتقان الذي لايمكن أن يتحقق إلا بأن
يتتلمذ الصانع علي الصانع, ويتعلم الشاعر من الشاعر,
ويتلقي الكاهن علي الكاهن, ويتفرغ الفيلسوف للفلسفة,
وهكذا انقسم المجتمع إلي قسمين: أيد عاملة من ناحية,
وعقول مفكرة من ناحية أخري, وكما تخصصت الأيدي العاملة
وظهر فيها الراعي, والصياد, والفلاح, والصانع,
والخادم, تخصصت العقول المفكرة فظهر الشاعر,
والكاتب, والفنان, والعالم, والفيلسوف, وانفصل كل
نشاط عن بقية ألوان النشاط, وأصبحت كل حرفة سرا من
الأسرار لايطلع عليه إلا أهلها, الطعام سر, والشراب
سر, والكهانة سر, والمعني في بطن الشاعر.
والحقيقة أن تقسيم العمل لم يمنع الفلاحين من أن يغنوا
ويرقصوا, ولم يمنع الشعراء من أن يكونوا فلاحين
وفرسانا, وأطباء, ومهندسين وقطاع طرق أيضا ومتسولين!
كل ما نتج عن تقسيم العمل هو أن اللغة انقسمت, وأن الشعر
انقسم, فنحن نفكر ونتكلم بلغة, ونكتب ونقرأ بلغة
أخري, وشعراء الفصحي في جانب, وشعراء العامية في جانب
آخر,ونحن ننتمي لما لا نعرفه, وقد نعرف مالا ننتمي
اليه! اللغة التي نكتب بها تكاد تموت لأنها
بعيدة عن مجري الحياة الدافق, واللغة التي نتكلمها تكاد
تموت هي الأخري, لأنها بعيدة عن الخبرات الإنسانية
المشتركة محصورة فيما هو عادي دارج مبتذل. شعر الفصحي
أشبه ما يكون بالزهور الصناعية, وشعر العامية حائر بين
ولائه للثقافة وولائه للحياة. والجمهور هو
الآخر منقسم علي نفسه. المتعلمون في جانب, والأميون في
جانب آخر. المتعلمون لايجدون أنفسهم فيما يقرأون,
والأميون لا يقرأون ولايكتبون.. كيف
نواجه هذه التمزقات؟ كيف نكتب بلغة حية ونتكلم بلغة رفيعة؟
كيف نعيش ما نكتب؟ وكيف نكتب ما نعيش؟ كيف نجتمع بعد تفرق؟
وكيف نتوحد بعد تمزق؟ وكيف ننهض بعد سقوط؟
أنا لا أري إلا طريقا واحدا هو الثقافة فنحن بالطبيعة
أفراد, لكننا بالثقافة أمة, والثقافة تبدأ من اللغة,
واللغة تبدأ من الشعر. إذا أعدنا للشعر
مكانه في حياتنا أعدنا للغة مكانها, وأعدنا للثقافة
وظيفتها, وأعدنا للمصريين وحدتهم وشعورهم بالانتماء
لأنفسهم وللعصر الذي يعيشون فيه. |