قيل ان
ام علي وصلت للتو من العراق ، لا اعرفها ، لم اشاهدها من قبل ،
وغاية الامر ان ابنها علي صديقي جمعتنا التشرد والغربة ، واواصر
صداقتنا تقوت وتوثقت بداعي الجيرة والحيرة والهموم الكثيرة
والكبيرة ، طرقت الباب، دخلت الى الصالة ، رايتها جالسة على
الاريكة ، امراة عراقية صرفة ، وقورة ، حنونة في نهاية العقد
السادس من عمرها ، ملامحها جنوبية ، لهجتها بغدادية ، نظراتها
شمالية ، معجونة بمياه دجلة والفرات ، وترحيبها يقطر دبسا شهيا ،
جلست قبالها قبل ان تاذن لي بالجلوس ، رأيت في جرغدها أمي وفي
جلستها عماتي وفي حركاتها وسكناتها جميع خالاتي ،رايت فيها كركوك
وكربلاء ودهوك والرمادي ، رايت فيها السنة والشيعة والعرب والكرد
والتركمان والاشوريين ، والصابئة والايزيديين والشبك .
فقلت لها
سيدتي : حدثيني عن العراق ، فانا اشتاق لكل حديث عن العراق .
حدثيني
عن لفح الشمس في البصرة وعن هبوب النسيم في اربيل ، حدثيني عن شارع
الرشيد والمكتبات والفنادق والمطاعم والاكشاك، عن شارع النهر وابو
نواس ، حدثيني عن كل شئ، عن انواع السمك وانواع البط وانواع الثمر
،حدثيني عن النهار اذا اقبل وعن الليل اذا ادبر ، عن الجيران
والصبايا ولعب الاطفال ،عن الزيارات والاعياد والاعراس والمناسبات
، عن الطلاب والطالبات والمدارس ، عن آثار الحروب ومخلفات الحصار
ونتائج الاحتلال ومعاناة الارامل واحلام اليتامى وتأوهات العذارى
وحسرات المعوقين.
حدثيني
عن الحقول وتوالي الفصول وعن مزارع الكروم والقصب والبردي والاهوار
والمشاحيف وخبز التنور .
حدثيني
عن الانهار والسواقي والاعشاب ، والطحالب والسلابيح والبعوض
والجراد والفراشات.
حدثيني
عن البهجة في عيون الاطفال والخوف في عيون الكبار ، حدثيني عما
يجري في الازقة والحواري وعلى السطوح وعن الحدائق والازهار
والميادين وملتقيات العشاق، وعن التباريح وخفقات القلب عند التلاقي
ونشوة اللقاء ومرارات الفراق ، وعن الاغاني والتواشيح والاناشيد
والزغاريد ، عن الاطفال الذين كبروا والكبار الذين ماتوا ،حدثيني
عن الشموع والدموع وتمنيات الرجوع ، وعن المصابيح والمراجيح وزحمة
الاسواق واصوات الباعة .
حدثيني
عن الورود والخدود والياسمين والجلنار والرازقي وعن الحامض حلو
والشربت والمناديل والقناديل والشناشيل.
حدثيني
عن الوجوه الوجلة ، عن الاقارب والجيران.
حدثيني
عن البرتقال الذي يزهو بلونه وعن التفاح حلو المذاق ، عن
الخوخ والمشمش والنارنج والرمان والرقي .
وقولي لي
سيدتي : ما للعراق يحترق كل يوم ، فهل اعجبه ألم الاحتراق ؟
ومتى
ينتهي ليل الوطن ؟ ويزهو على رباه سنا الاشراق ،متى ينهض العراق ؟
وفي هذه
الاثناء دخل صديقي علي وبيده صينية مدورة وعليها استكان جاي(سنكين)
وقطع من كليجة التمر .
ونظرت ام
علي نحوي وعيناها اغرورقت بالدموع وقالت : ولدي كفى اسئلة ودعني
احدثك عن العراق .
فقلت :
تفضلي ...
aabbcde@msn.com