السرد
الروائي المغربي: بين التجنيس والتجريب والتأصيل التراثي
د.
جميل حمداوي - المغرب
على الرغم من حداثة
الرواية المغربية فإنها حققت في العقود الأخيرة تراكما كميا لايستهان به( حوالي 400
نص روائي)، وتغيرا كيفيا ملحوظا في الشكل والأسلوب والقالب الفني. وعرفت هذه
الرواية عدة مراحل فنية يمكن اختزالها في المراحل التالية:
-
مرحلة الأشكال
الجنينية التي مهدت للرواية، وتتمثل في المقامة والمقالة والمناظرة والقصة
والأقصوصة والقصة القصيرة والرحلة والتاريخ والسيرة والتصوف(الرحلة المراكشية
أوالمساوئ الوقتية لمحمد بن الموقت المراكشي، ووزير غرناطة لعبد الهادي بوطالب،
والزاوية للتهامي الوزاني...)؛
-
مرحلة التأسيس
أوالاستنبات أو التجنيس الفني لنوع الرواية من خلال معايير الرواية الغربية (
في الطفولة لعبد المجيد بنجلون ودفنا الماضي لعبد الكريم غلاب والريح الشتوية
لمبارك ربيع باعتبارها نماذج تأسيسية لهذه المرحلة)؛
-
مرحلة التجريب التي
اتخذ فيها الروائيون الغرب مرآة للحداثة والإبداع والانزياح السردي؛
-
مرحلة التأصيل التي
اتخذ فيها الروائيون التراث مرآة للحداثة والخلق والتجاوز.
وإذا كانت البداية
الجنينية للأشكال السردية الروائية قد بدأت منذ الثلاثينيات من هذا القرن ( كتبت
رحلة ابن الموقت في 1930م الموافق لــ1351هـ)، ومرحلة التجنيس قد انطلقت مع منتصف
الخمسينيات من القرن الماضي( كتب نص في الطفولة لعبد المجيد بن جلون سنة 1956م، وهو
أول نص روائي مغربي كلاسيكي)، إلا أن مرحلة التجريب الروائي قد بدأت منذ أواسط
السبعينيات مع نصوص أحمد المديني( زمن بين الولادة والحلم1976)، وعبد الله العروي(
الغربة 1971، واليتيم 1978)، ومحمد عز الدين التازي( أبراج المدينة 1978)، وسعيد
علوش(حاجز الثلج 1974)، حيث نلاحظ في هذه النصوص السردية التجريبية تداخل الضمائر،
وتعدد السراد، وتيار الوعي، والمنولوج وخاصية التذويت( تبئير الذات)، وشعرنة الخطاب
السردي، وتداخل الأزمنة والإيقاعات السردية، والإيجاز في الوصف،وتوظيف خطاب التغريب
والتعجيب، وخلق بوليفونية سردية( تعددية أسلوبية) قائمة على الباروديا والتهجين
والمفارقة والسخرية واستنطاق المستنسخات النصية. بيد أن هذه الإبداعات الروائية
تبقى محاولات فردية متناثرة لتتحول على ظاهرة جماعية مع بداية الثمانينيات خاصة مع
ظهور أعمال كل من مبارك ربيع( بدر زمانه- رفقة السلاح والقمر...)، وأحمد
المديني(وردة للوقت المغربي...)، ومحمد عز الدين التازي( رحيل البحر)، والميلودي
شغموم( الأبله والمنسية وياسمين1982)، وسيصبح التجريب بعد ذلك سمة مميزة للرواية
المغربية في التسعينيات وما بعدها إلى يومنا هذا.
ولم تختر الرواية
المغربية طريقة التجريب إلا لإرضاء الخطاب النقدي المغربي المعاصر في مجال السرديات
الذي انفتح على المقاربات البويطيقية والأسلوبية والسيميائيات ، وكذلك لإضفاء
الحداثة والمعاصرة على النص السردي وتكسير قواعد النص الروائي الكلاسيكي أو
التقليدي. وكان النص المنزاح عنه يتسم بتسلسل الأحداث وخطية السرد والإيقاع(بداية
وعقدة و صراع وحل ونهاية)، وتوخي المنطق والتوجيه المحكم في التعامل مع الأحداث ،
والتمركز حول الشخصيات الإنسانية النموذجية الحية، والمسماة علميا( بفتح اللام) ،
والمحددة بدقة بصفاتها الفيزيولوجية وأدوارها النفسية والأخلاقية والاجتماعية
والسردية.
وكان هذا النص الروائي
الكلاسيكي يزاوج بين البطل الفردي السلبي والبطل الجماعي الإيجابي( المعلم علي لعبد
الكريم غلاب والريح الشتوية لمبارك ربيع) ، ويسهب في وصف الشخوص والأمكنة والوسائل
والأشياء بطريقة واقعية مشحونة بالتوتر الدرامي والبعد الموضوعي والطبيعي؛ وذلك
باختيار فضاءات مرجعية واقعية كفضاء البادية والمدينة. و غالبا مايستعمل هذا النص
الروائي تقنيات سردية كالرؤية من الخلف وضمير الغائب . وبالتالي، يتحكم السارد
العارف بكل شيء (الراوي المطلق) في رقاب الشخصيات ومصائرها مادام يملك معرفة خارجية
و داخلية كلية كالإله الخفي كما يسميه فلوبيرFLAUBERT. ويتدخل هذا السارد في عملية
السرد والحكي تعليقا وتقويما وتفسيرا وأدلجة. ويوظف في هذا النص الكلاسيكي التسلسل
الزمني الكرونولوجي، ويهيمن الخطاب المسرود على حساب الخطاب المعروض والمسرود
الذاتي. وقد يركن الكاتب إلى التقرير والريبورتاج التسجيلي والتشخيص الحرفي ولاسيما
في الروايات ذات الأطروحة( دفنا الماضي والمعلم علي لعبد الكريم غلاب والريح
الشتوية لمبارك ربيع وإكسير الحياة لعزيز الحبابي...).
تجاوزا لهذا النص
الكلاسيكي، سارع الروائيون المغاربة إلى تجريب الكتابة السردية الجديدة؛ وذلك
لأسباب ذاتية وموضوعية يمكن حصرها في النقط التالية:
-
المثاقفة مع الفلسفة
الغربية وآدابها: قراءة وترجمة وكتابة وتتلمذا؛
-
التأثر بالرواية
الفرنسية الجديدة( كلود سيمون ، ميشيل بوتور، آلان روب غرييه، جان
ريكاردو،.....)، ورواية تيار الوعي أو الرواية المنولوجية ( جيمس جويس،
فيرجينيا وولف، وهمنغواي، ودون باسوس، وكافكا، ومارسيل بروست...)؛
-
الاطلاع على النصوص
الروائية العربية الجديدة( عبد الرحمن مجيد الربيعي، الطيب صالح، غسان كنفاني،
عبد الرحمن منيف،غالب هلسا، وحيدر حيدر....)؛
-
التحولات التي عرفها
العالم العربي والإسلامي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ولاسيما بعد هزيمة
حزيران 1967م؛
-
التمرد عن الأنماط
والقوالب الفنية الكلاسيكية.
وعليه، فقد بدأ الروائيون
الجدد في تنويع التيمات( التذويت- المجتمع- السلطة- الهجرة- البطالة- القهر- الجنس-
الفقر- الموت- الإخفاق- الغربة- الشطارة- العبث...)، والأشكال الفنية( المحكي
الشاعري- البوليفونية- العجائبية- الخطاب البيكارسكي- التشظي- التناوب السردي-
الروائية في الرواية- السرد الرمزي والأسطوري....).
ومن أهم خصائص الرواية
المغربية التجريبية تداخل الأزمنة ، وذلك بتداخل الحاضر مع الماضي والمستقبل في شكل
تداعيات وأحلام واسترجاعات كما نجد في رواية رفقة السلاح والقمر لمبارك ربيع،
وأوراق لعبد الله العروي ، وزمن بين الولادة والحلم لأحمد المديني، وحاجز الثلج
لسعيد علوش. ويلاحظ كذلك شعرنة الخطاب الروائي حيث يتداخل المحكي السردي النثري مع
الخطاب الشعري كما في كتابات محمد عز الدين التازي( المباءة) وأحمد المديني.
وتستخدم الأجناس الأدبية داخل الرواية لدى محمد برادة في (الضوء الهارب)أو خناثة
بنونة في ( النار والاختيار). وتوظف كذلك تقنية الهوامش عند العروي في (أوراق)، دون
أن ننسى لجوء الروائيين المغاربة إلى التعددية الأسلوبية واللغوية وتنويع الأجناس
كما في رواية ( لعبة النسيان) لمحمد برادة.
وتستدعي هذه الرواية
الجديدة القصاصات الإذاعية والإشهارية كما في (البرزخ) لعمر والقاضي إلى جانب
استدعاء الصور والخط والرموز والوثائق مثل رواية( إمليشيل1986) لسعيد علوش، وأسطرة
المحكي السردي في رواية ( بدر زمانه) لمبارك ربيع، والتركيز على تقنية المسخ
العجائبي( أحلام البقرة لمحمد الهرادي، وسماسرة السراب لبنسالم حميش)، وفضح أسرار
اللعبة الروائية كما في لعبة النسيان لمحمد برادة وأوراق للعروي. كما التجأت هذه
الرواية إلى التشظية والخراب الروائي في كثير من النصوص ولاسيما في المباءة لعز
الدين التازي والبرزخ وطائر العنق لعمر والقاضي ، ووظف التخييل البيكارسكي أو
الشطاري في الخبز الحافي والشطار لمحمد شكري، والرحيل والألم للعربي باطما ،
والتذويت في الضوء الهارب لمحمد برادة والاسترجاع في رواية جنوب الروح لمحمد
الشعري.
وإذا حاولنا تقويم هذه
الظاهرة التجريبية فإن مايمكن قوله : إنها نتاج لظاهرة المثاقفة والاقتباس والتأثر
بالرواية الجديدة الغربية أو التأثر بالرواية العربية الجديدة التي يمثلها صنع الله
إبراهيم ويوسف القعيد وإدوار الخراط وعبد الرحمن منيف وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم
جبرا وإلياس خوري وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان وصبري موسى وعبد الحكيم قاسم وجميل
إبراهيم عطية وسليم بركات واللائحة تطول.
ويلاحظ أيضا أن هذه
التجربة الإبداعية المغربية إفراز لسلطة النقد السردي والتخطيط المسبق مما أوقع
كثيرا من النصوص الروائية في مغبة التقليد وتطبيق منجزات الخطاب السردي المعاصر.
ولا ننسى أن نقول: إن معظم النصوص السردية المغربية الجديدة كانت تستحضر في لاوعيها
أثناء انكتابها نظريات تودوروف وجيرار جنيت وجيمس جويس وبويون وميخائيل باختين
والشكلانيين الروس ومكتسبات نظرية التقبل وجمالية القراءة وتصورات لوسيان ﮔولدمان
وجورج لوكاتش حول البطل الفردي والجماعي.
وكل هذا جعل الرواية
التجريبية المغربية عبارة عن تمارين سردية فيها نوع من التكلف والتصنع " الإبداعي"
تخلو من الطبع وفطرية الخلق والإلهام، بعيدة عن المحلية والأصالة وعبق التراث
والتميز الفني الحقيقي.
وتتسم هذه النصوص كذلك
بالجري وراء بريق الحداثة واستحضار منجزات السرد الغربي وما تم تحقيقه فنيا وتقنيا
وإنسانيا، ولكن غابت معه الهوية وأصالة التراث والإبداع بشكل كبير ولافت للنظر.
وقد سقط السرد مع الرواية
الجديدة المغربية في البيوغرافيا والسيرة الذاتية وأوهام الفرد ونرجسيته الرعناء
ووساوس الوعي واللاوعي والغرق في التجريد الشاعري والفلسفي، وابتعد عن القضايا
السياسية الساخنة الراهنة كالاستبداد وانعدام حقوق الإنسان باستثناء بعض الروايات(
البرزخ والطائر في العنق لعمر والقاضي ولكن من وجهة إيديولوجية يسارية).
ومن مآخذنا عن هذه
الرواية غياب المتعة السردية والحبكة الروائية إلى حد كبير، وطغيان النفس القصير
بسبب غياب الوقفات الوصفية والمشاهد الدرامية، إذ تم إقصاء الوصف بشكل ملحوظ غير
مبرر ليعوض بالمسرود جريا وراء تقنيات الرواية الجديدة. ولكن غياب الوصف قد أدى
بهذه الرواية إلى أن تكون باهتة لايمكن أن تصل إلى مثيلتها الغربية أو العربية في
المشرق ولا إلى نماذج عبد الكريم غلاب الكلاسيكية( دفنا الماضي والمعلم علي)، أو
مبارك ربيع( الريح الشتوية)، وروايات محمد زفزاف(المرأة والوردة)، أو بهوش ياسين(
أطياف الظهيرة)..كما أن حجم صفحات نصوص الرواية الجديدة ضئيل جدا . فمن خلال
استقراء نسبي لمجموعة من الروايات وجدنا روايات لاتتعدى المائة صفحة وما أكثرها!
وقليلا ما نجدها تتعدى المائتين ؛ لذلك يصعب تجنيسها داخل خانة الرواية لقربها من
جنس القصة الطويلة أو القصيرة. بينما الروايات الكلاسيكية هي على عكسها تمتاز بكثرة
الصفحات وطول النفس مثل: روايات غلاب ومبارك ربيع. وتعد رواية أطياف الظهيرة لبهوش
ياسين – في اعتقادي- أكبر نص روائي مغربي من حيث الحجم إلى حد الآن، إذ تبلغ
صفحاتها(411) صفحة من الحجم الكبير. وهذا يبين لنا تميز النصوص الكلاسيكية وسموها
بالمقارنة مع النصوص الروائية الجديدة من حيث السرد والوصف والتشويق الفني والحجم
الكمي والمتعة الحكائية والحوار الدرامي. وأعتبر شخصيا ( دفنا الماضي) لعبد الكريم
غلاب من أجمل النصوص الروائية المغربية فنية ووصفا ومتعة إلى حد الآن!.
ويلاحظ كذلك أن انتقال
الروائيين الجدد إلى النمط الروائي التجريبي لم يكن طبيعيا يراعي آفاق انتظار
القارئ وتطورات الواقع المغربي موضوعيا. فنحن لم نكتب بعد روايات كلاسيكية كافية
مثل مصر أو دول الشام لإشباع نهم القارئ المغربي وتأسيس عرف أدبي ثابت لمرحلة
معينة. إذ سرعان ماانتقلنا بشكل مفاجئ إلى الرواية الجديدة دون مواكبة لظروف الواقع
المغربي التي لم تكن مماثلة إطلاقا لظروف الرواية الجديدة الفرنسية بسبب هيمنة
القطاع الفلاحي، والتخلف على جميع المستويات والأصعدة، وتعثر سياسة التصنيع، ونقص
التقنية ، وغياب الرأسمالية المشيئة ذات البعد التقنوقراطي.
وعليه، فالتجريب الروائي
في المغرب لم يكن سوى موضة سردية مفتعلة لعدم تفاعلها جدليا مع الواقع المغربي
المتخلف والقارئ الذي لم يشبع بعد من معين الروايات الكلاسيكية القليلة جدا. و
ماالتجريب الروائي في الحقيقة إلا تقليد للرواية الغربية وتطبيق لتوصيات النقد
السردي المعاصر لكسب رهان التجديد على حساب الهوية والأصالة والإبداع والابتكار
وإثبات الذات، وإقصاء الثقافة والتراث والتخييل السردي القديم. وإذا كان هذا هو حال
الرواية التجريبية. فما هو شأن الرواية التي سارت على خطى التأصيل وتوظيف التراث،
أو مايسمى بالرواية التراثية؟
بعد استنفاد الرواية
التجريبية لقدراتها الإبداعية وطاقاتها التعبيرية وسقوطها في "التمرينية" والخضوع
لسلطة النقد السردي والتقليد الأعمى للرواية الغربية وخفوت بريق ولمعان الحداثة،
بدأ الروائيون المغاربة يفكرون في الهوية وإعادة الاعتبار للتراث وقراءته قراءة
جديدة وتأويله انطلاقا من تصورات جديدة والتواصل معه إيجابا تأثرا بتجربة جمال
الغيطاني في( الزيني بركات)، ورضوى عاشور في( ثلاثية غرناطة)، وإميل حبيبي في
(الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل)، ونجيب محفوظ في( ليالي ألف
ليلة) ومحمود المسعدي في (حدثني أبو هريرة. قال...)، وواسيني الأعرج في ( نوار
اللوز: تغريبة صالح بن عامر الزوفري)، وأمين معلوف في ( ليون الإفريقي).
وهكذا وجدنا في المغرب
بنسالم حميش يتزعم كتاب التأصيل ويدخل الرواية التراثية من باب التخييل التاريخي
ويفوز بعدة جوائز عربية على روايتيه( مجنون الحكم والعلامة) ، ويدين فيهما
الاستبداد والتسلط والقمع والظلم الاجتماعي مناديا إلى دمقرطة الحكم وإحقاق إنسانية
الإنسان. وقد اختار في روايته مجنون الحكم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله نموذجا
للمتسلط المريض نفسانيا الذي يسحق رعيته من أجل تحقيق رغباته الذاتية بطريقة
مازوشية. وانتقى كذلك شخصية ابن خلدون في العلامة ليكون شاهدا على عصر يعج
بالتناقضات السياسية والاجتماعية والظلم واستبداد الحكام وقهر الرعية والتحكم في
رقاب العلماء إذلالا وتجويعا وإخضاعا. وبذلك صارت روايات بنسالم حميش التراثية
ولاسيما رواية (محن الفتى زين شامة ) خطابا سياسيا رمزيا لفضح الراهن السياسي
الاستبدادي عبر توظيف التراث العربي الوسيط بلغته وتعابيره المسكوكة لإضفاء جمالية
فنية رائعة على السرد وتحميله بأبعاد ثقافية وسياسية راهنة ومستقبلية. ونحس من
اندماجنا الكلي في هذا التخييل التراثي أننا قريبون من هويتنا وأصالتنا دون أن يسقط
الكاتب في الاجترار أو الاستنساخ. إذ لايكتب بنسالم حميش التاريخ ولا الرواية
التاريخية التي كتبها جورجي زيدان أوعبد الهادي بوطالب( وزير غرناطة)، بل يعيد
كتابته بطريقة جمالية افتراضية قائمة على التخييل وملء الثغرات واستقراء اللاشعور
التاريخي وكتابة المسكوت عنه وماهو شعبي لإضاءة ماهو رسمي. إنه الراهن في الماضي ،
أو الماضي يعود مرة أخرى في الراهن. إنها رواية الثقافة والجمال والتراث والروح
الشرقية.
وفي هذا المنحى نجد رواية
أحمد توفيق ( جارات أبي موسى) التي يزاوج فيها الكاتب بين التخييلين : التاريخي (
رصد فترة الحكم المريني المتميز بالجور والاستبداد والتوسع الحدودي وكثرة الأوبئة
وتعاقب سنوات الجفاف وبذخ الحكام الذي يتمظهر في الترف ونقوش العمارة)، والصوفي(
التركيز على شخصية أبي موسى المناقبية ذات الكرامات الإصلاحية الخارقة). ويمكن أن
نستحضر نصوصا إلى حد ما تراثية مثل: عين الفرس لشغموم الميلودي، وبدر زمانه لمبارك
ربيع...
وما يميز الرواية
التراثية أو التخييل التراثي هو الانتقال إلى الفترة التاريخية المتخيلة لاعتماد
لغتها وأجوائها الإبداعية وتعابيرها وحواراتها الفنية لخلق أصالة حداثية تنبني على
الوعي الحقيقي والتفرد والاستقلالية والإبداع والتواصل الحي مع الماضي وتشغيل
المستنسخات التراثية والتناص بطريقة حوارية أو اعتماد المحاكاة الساخرة والأسلبة
والباروديا.
وعلى الرغم من هذا،
فمازالت الرواية ذات التخييل التراثي لم تأخذ وجودها في الساحة الإبداعية بالمغرب،
ولم يتحقق فيها التراكم الذي عرفته الرواية التجريبية؛ وذلك لأسباب عدة يمكن
إجمالها في خوف الروائيين من الوقوع في الاجترار أو تكريس الماضي واستعارة لغة لم
يعد لها سياقها الآن تداوليا، أو خوفا من الوقوع في إسار التراث دون القدرة على
تجاوزه ،أو لسيطرة مفاهيم الرواية الغربية على أذهان الكثير من روائيينا المغاربة
تجعلهم يكتبون روايات على مقاس الوصفة الغربية ناهيك عن التوجهات الإيديولوجية
ولاسيما اليسارية ذات الطرح الاشتراكي أو اليمينية ذات التوجه الليبرالي التي ترفض
أي توجه إسلامي تأصيلي ( أحمد المديني وموقفه من روايات بنسالم حميش التراثية
ولاسيما روايته محن الفتى زين شامة حيث اعتبرها رواية رجعية قائمة على الاجترار
والتقليد واستنساخ التراث- الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي 6 يونيو
1993 ص:7).
هذا ، وإن الذين قرأوا
روايات نجيب محفوظ في الغرب بعد ترجمة أعماله الإبداعية بمناسبة حصوله على جائزة
نوبل قالوا:" C’EST NOTRE BALZAC !" " إنه بلزاك عربي!". ويعني هذا أنه كان وفيا
للمدرسة الواقعية وتعاليم السرد الروائي الغربي، ولم يضف شيئا إلى السرد الروائي
العالمي من الناحية الفنية والسردية إلا بعد أن بدأ مؤخرا في استثمار الكتابة
التراثية.
وكم كانت دهشتي لما سمعت
باحثا إسبانيا يدخل إحدى مكتبات مدينتي في المغرب( الناظور ) يسأل عن رواية جمال
الغيطاني" الزيني بركات"! فتعجبت كثيرا لهذا الباحث الذي يريد أن يعرف أصالتنا وعبق
الشرق وتراثه العريق وبيانه الساحر، بعد أن سئم من قراءة النصوص الروائية الغربية
التي يقلدها روائيو العالم العربي بنهم شديد وحرفية تقليدية عمياء رغبة في التسلق
الحداثي والتجريبي .
ويمكن أن نرسم آفاقا
للرواية المغربية بصفة خاصة والرواية العربية بصفة عامة من أجل أن تساهم في إثراء
السرد العالمي وتنويعه. ولايعني هذا أننا نقيد الكتاب والمبدعين بوصفات جاهزة
وتعاليم مقننة تقتل روح الإبداع وملكات الخلق والتجاوز، بل هي عبارة عن إرشادات
وآراء شخصية قد تساهم في بلورة خطاب روائي عربي أصيل على غرار المسرح الاحتفالي(
رؤية عبد الكريم برشيد)، والشعر ( استثمار الإيقاع الخليلي بعد فشل التجارب الشعرية
المعاصرة ولاسيما قصيدة النثر)، والنقد العربي( القراءة التأويلية عند عبد الفتاح
كيليطو، والقراءة التشريحية عند عبد الله الغذامي،....)، والتشكيل(استثمار الخط
العربي الإسلامي ...)، والسينما(يوسف شاهين يشتغل على شخصية ابن رشد)،
والموسيقى(الطرب الأندلسي، الموسيقى العربية الأصيلة)...
وإليكم بعض المقترحات
التي يمكن الاسترشاد بها في كتابة رواية عربية معاصرة أصيلة قصد المساهمة في بناء
ثقافة عالمية متنوعة ولكنها ذات ملامح خصوصية مرتبطة بالهوية والبيئة المحلية
والوحدة القومية والخصوصية الدينية والروحية:
-
توظيف التراث توظيفا
إيجابيا للتعبير عن الراهن والمستقبل؛
-
الجمع داخل هذا
التراث بين المتعة الفنية الجمالية والثقافة المرجعية؛
-
استغلال تقنيات السرد
العربي القديم وأشكاله الحكائية وقوالبه الأسلوبية؛
-
أن يكون توظيف التراث
نابعا من رؤية فلسفية إنسانية إسلامية ذات بعد جمالي وحضاري وتصور شمولي مع
الابتعاد عن فلسفة العبث واللاجدوى والاستهتار البيكارسكي( الإباحية والشطارة
والصعلكة)؛
-
الاستفادة من آليات
التخييل العجائبي والغرائبي كماهو مبثوث في كتاب ألف ليلة وليلة أو كليلة ودمنة
لابن المقفع كما فعل جورج لويس بورخيس( JORGE LOUIS BORGES) الكاتب الأرجنتيني
الذي استثمر الليالي أحسن استثمار في نصوصه الإبداعية؛
-
استغلال الأشكال
الشعبية والأنماط الدرامية والقوالب الشعرية والخطابات الحكائية وصيغ القرآن
والحديث؛
-
استثمار الخطاب
الفلسفي أو الصوفي أو العلمي أو التاريخي أوالسياسي أو الديني في بناء روايات
تراثية تحمل أبعادا رمزية إيجابية مثل الاشتغال على شخصيات تراثية في مجالات
عدة أوأحداث بارزة كانت لها دلالات في تغيير مجرى التاريخ في الماضي كالاشتغال
على ابن رشد،وحي بن يقظان،وابن خلدون،والحاكم بأمر الله، والحجاج، والحسن
والحسين، والمهدي بن تومرت.....؛
-
توظيف المستنسخات
النصية والخطابات التناصية التراثية في بعدها الحواري والتفاعلي عبر وسائط
السخرية الهادفة والمفارقة والباروديا والأسلبة والتهجين؛
-
تطوير أدب المقامة
والرحلة والتراجم وأدب الرسائل والمناظرة في إطار بلورة رواية عربية أصيلة؛
-
الاستفادة من القصة
القرآنية و طرائقها في السرد والتعبير والتدرج في القص واستخدام اللغة المهذبة
السامية في التعبير عن ثنائية الخير والشر واحترام مقاصد الشريعة الإسلامية؛
-
تشغيل أدوات البلاغة
العربية القديمة بصيغ تداولية رمزية تثري النص وتمتع المتقبل، ولكن بدون تغريب
في اللغة أو تعقيد أوغموض؛
-
الابتعاد عن توظيف
اللغة الجنسية والخطاب الإباحي وصور"الدعارة" المستهجنة، و تجنب كل خطاب سردي
قد يمس بالعقيدة وأعراض المسلمين والمقدسات الدينية والثوابت المتعارف عليها في
المجتمع العربي والإسلامي؛
-
الارتباط بالأصالة
والهوية والتواصل بين الأنا والآخر بطريقة إيجابية قوامها الحوار و التعارف
والتعاون والتعايش والتكامل؛
-
التركيز على الجانب
الروحي والمناقبي ووصف سحر الشرق و تبيان عبق الدين في تشكيل رؤية الرواية
الجمالية والمقصدية دون نسيان المشاكل الحقيقية التي يعانيها الإنسان المسلم
على المستوى الدنيوي والواقعي، وذلك بنقد كل مظاهر الفساد والدعوة إلى التعمير
الفاضل وبناء الإنسان المسلم الصالح ؛
-
ضرورة الانفتاح على
طرائق السرد العالمي مع الاحتفاظ بخصوصيات السرد العربي وتراثه الفني والجمالي
في إطار التفاعل والحوار والتكامل الثقافي والفني دون انغلاق أو تعصب أوتطرف؛
-
اختيار المواضيع التي
تؤرق الإنسان العربي خاصة موضوع السلطة والاستبداد السياسي و حرية المجتمع
وحقوق الإنسان ودمقرطة النظم السياسية في إطار الشورى والانتخاب العادل؛ونبذ
التفرقة والحروب بين المسلمين وتناول القضايا المعاصرة كالصراع الحضاري والديني
والتكنولوجي في ما يخدم الإسلام والإنسانية.
تلكم- إذاً – أهم النقط
المقترحة لصياغة سرد روائي عربي معاصر إذا أردنا المساهمة في إغناء الأدب العالمي.
ولايمكن أن نصل إلى الآخر إلا إذا تحدثنا عن خصوصيتنا وحضارتنا، وعبرنا عن هويتنا
بلغتنا البيانية وبلاغتها الجمالية الساحرة، ونقلنا إليهم أجواء الشرق الساحرة
وعوالمه الروحية ومناقبه الصوفية وفضاءاته العجائبية والرمزية والتاريخية.
ملاحظة:
جميل حمداوي ( عمرو) ص.ب:5021
الناظور، 62002 المغرب/JAMIL HAMDAOUI AMAR