ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

صلاح عبدالصبور‏..‏ قال لكم
سناء البيسي - مصر
 

ذاك من زمان عندما كان بوفيه كلية آداب جامعة القاهرة محطتنا ونادينا وملهانا وأرض الحب والحوار وجوار ضيوف يأتون إلينا لنعقد من حول مجلسهم الثقافي الندوات‏..‏ أذكرهما ضيفا الندوة المزدحمة بطلبة كل الكليات الأخري‏..‏ الشاعر صلاح عبدالصبور والكاتب يوسف إدريس‏.‏ كلاهما أتي للساحة البكر الظمأي للتلقي نبث السؤال طي السؤال‏,‏ فيجيب عبدالصبور الضيف الأسمر الساكن بسمات الحزن الطيبة البادية‏,‏ ويغرز فينا إدريس المتأجج الذي يرفض بعضه استقرارا علي بعضه‏,‏ يغرز نظراته الخضراء الثاقبة يسبر بها أغوارنا وعلي فمه شبه ابتسامة متهكمة‏,‏ قبل أن يمنحنا وجهة نظر يلقي بها حجرا يطرطش في مياهنا الراكدة‏..‏ فنمضي في استيعاب جديدهما‏.‏ نهضم معهما الكتابة بلغة أخري‏,‏ بالنكهة الجديدة والصيغ الجديدة والفكر الجديد في لغة لم تفقد هويتها المصرية‏,‏ وكأن من أتانا لندوة الزيارة في بوفيه الآداب امرؤ القيس وابن المقفع قد بعثا من جديد بلغة العصر ومنجزاته وصواريخه وطياراته ودباباته‏,‏ بعدما مللنا لغة صارت مثل الصيغ القانونية والأقوال المأثورة والخطابة المنبرية وخطابات الكتبة أمام المحاكم الشرعية‏..‏ عثرنا عندهما علي لغة كنا نبحث عنها وسط بحور السأم ولا تطاوعنا مواهبنا علي النطق بها‏.‏ لغة تتنفس علي أوتارنا‏,‏ وتبحر بذات مجاديفنا‏.‏ لغة تحمل منظارا مقربا يكشف ما وراء الأفق من أشياء تستحق أن تري وأن نتأملها في بلد لا يحكم فيه القانون‏.‏ في بلد يمضي فيه الناس إلي السجن بمحض الصدفة‏.‏ في بلد لا يوجد فيه المستقبل‏.‏ في بلد يتمدد في جثته الفقر كما يتمدد ثعبان في الرمل‏.‏

في بلد تتعري فيه المرأة كي تأكل‏...‏ ضيفانا أتانا زمان لنناقش نقطة الالتقاء والاختلاف بشأن فيينا‏..‏ نفرش أمامهما فدان لماذا؟ وننصت لإجابتهما حول لأن‏..‏ ضيفانا كان قد سرقهما الحلم الرومانسي علي أنغام الفالس الأوروبي بصوت أسمهان في ليالي الأنس في فيينا‏,‏ فسافر الحالمان إلي أرض الأحلام ليكتب إدريس قصته بعنوان السيدة فيينا‏,‏ ويعود عبدالصبور بقصيدته امرأة من فيينا‏..‏ الموضوع واحد والبطلة الأجنبية هي هي‏,‏ والمرتحل إليها المصري المغترب في بلاد الجن والملائكة الذي لم يعثر هناك علي مفتاح الكنز ولا كلمة السر ولا ارتواء ظمأ الوجدان ولا الغاية أو المرتجي‏,‏ بل كانت الأصداء مغايرة للمتوقع لتبقي الغربة سدا بين طرفي النقيض‏..‏ بين الشرق والغرب‏,‏ رغم زيف ليلة الحلم وقناع الحب الآلي في بلاد اللقاءات العابرة‏..‏ فيينا التي وصف عبدالصبور لقاءه العابر بها بقوله‏:‏

تعانقت شفاهنا‏,‏ وافترقت
تفرقت خطواتنا‏,‏ وانكفأت
علي السلالم القديمة
ثم نزلنا الطريق واجمين
لما دخلنا في مواكب البشر
المسرعين الخطو نحو الخبز والمئونة
المسرعين الخطو نحو الموت
في جبهة الطريق‏,‏ انفلتت ذراعها
في نصفه‏,‏ تباعدت‏,‏ فرقنا مستعجل يشد طفلته
في آخر الطريق تقت ـ ما استطعت ـ لو رأيت
ما لون عينيها
وحين شارفنا ذري الميدان‏,‏ غمغمت بدون صوت
كأنها تسألني‏..‏ من أنت؟

وفي الستينيات ذهبت للعمل في الأهرام لألقي هناك صلاح عبدالصبور الذي أوسع له محمد حسنين هيكل الصفحات بعدما صدر قرار إقالته من عمله الثقافي الرسمي مع الدكتورة سهير القلماوي‏..‏ وقع صلاح بين براثن مراكز القوي التي ألقت به في الطريق‏,‏ وعندما وصل الخبر لعبدالناصر أرسل علي الفور من يعيده لعمله قائلا‏:‏ الوطن الذي يفصل شاعرا لا صدق في أحلامه وليست مصر هذا الوطن‏...‏

بيننا كان بن عبدالصبور طائرا مغردا يأتي ليحط عفويا وبلا كلفة علي طرف المكتب‏,‏ يدخل في نسيج الضجيج‏,‏ ويحلق مع سحب الغضبات‏,‏ ويشارك في أفكار الموضوعات‏,‏ ويخطف لهفات صديقات‏..‏ يقعن في شرك دماثته وطزاجته وسمرة جبهته السمحة والشجن البادي في عينيه وطلة طفل يحوم ويبحث عن ملجأ‏,‏ والأنثي بطبيعتها حضن تفتح صدفتها كملاذ‏,‏ لهذا وقعت في شرك الحزن الرفيف أكثر من واحدة‏,‏ ولابد وأن شاعرنا الفريد في عشقه قد لمست قلبه واحدة أعلن لها منذ البداية أنه إنسان بسيط بلا ثروة ولا جاه ولا مال‏,‏ ولابد وأن يكون قد اعترف لها صادقا بأنه قد جاب الليالي باحثا في جوفها عن لؤلؤة يقدمها لها‏,‏ إلا أنه عاد ببضعة من الحصي والمحار دون العثور علي اللؤلؤة و‏..‏ نسمع ونشارك قصته مع صاحبة الصوت الدافئ عبر الميكروفون‏.‏ نشهد دقات حذائها المرح في موعدها إليه وهزة من شعرها اللازمة الأنثوية عند نطقها اسمه ممتدا علي شفتيها بتوزيع موسيقي‏,‏

وسفرة هيام لآخر الملكوت في عيونها إذا ما رددت أمامنا أبيات شعره‏..‏ لكننا فجأة نسمع عن حفل زفافه علي الأخري‏(‏ نبيلة‏)‏ في مساء الغد بشارع نوبار‏..‏ وتمضي فترة‏..‏ فترة تعد قصيرة في عمر الزواجات لنسمع عن الطائر الذي هجر العش‏..‏ الذي كتب تعليقا علي فشل قصة زواج الحب الذي جمع بين الراقصة الشهيرة إزادورا دنكان والمخرج المسرحي جوردون كريج‏..‏ كتب وكأنه اعتراف ذاتي علي لسان الزوج الذي أدار ظهره للارتباط‏:‏ هل تستطيعين أن تغفري لي كل سوء فعلته‏,‏ هل تغفرين لي محاولتي أن أعيش بدونك‏..‏ أنني لا أستطيع‏,‏ فهل تستطيعين أنت؟‏!‏ وعاد صلاح يتساءل‏:‏ هل كان ما بينهما رغم تلك الحرارة المتأججة حبا؟ أم كان لقاء بين نجمين تماسا واشتعلا ثم سرعان ما انطفأ ما بينهما؟‏...‏ لقد كانا مختلفين‏,‏ ولم تكن هي كما قالت إن كلا منهما نصف كان يبحث عن الآخر‏.‏ نصف روح هائمة ظلت في سفرها حتي تجد النصف الذي خلقت له‏,‏ فإذا وجدت ذلك النصف الشارد اندمجت فيه‏..‏ لا‏..‏ لم يكن أحد منهما نصفا‏,‏

كان كل منهما كلا‏,‏ يريد أن يستوعب الآخر‏,‏ وكان هو أكثر ذكاء ومعرفة بالإنسان حين عرف أنها كيان مستقل‏,‏ وأنها تستطيع أن تمضي في حياتها‏,‏ بل من الخير لها أن تمضي في حياتها مستقلة عنه‏...‏

ونسمع من صلاح عبدالصبور عن ليلي والمجنون وعن أغاني الخروج وعن أحلام الفارس القديم وعن مسافر ليل وعن شنق زهران وعن مأساة الحلاج وعن الصوفي بشر الحافي وعن الأميرة التي ظلت تنتظر‏..‏ وعن السندباد الذي أوغل ثم عاد‏...!‏ ورغم الحزن البادي في الأشعار وفي الخلجات وفي القسمات وفي قصيدته التي صنفت الحزن إلي أنواع وإلي درجات منها الحزن الضرير والحزن الصموت والحزن الطويل حتي بات صلاح جديرا بالتسمية التي أطلقها عليه الأصدقاء خبير الأحزان‏..‏ رغم كم هذا الحزن قال عنه صديقه كامل زهيري إنه كان أكثر حبا للفكاهة وأكثرنا حماسة للضحك‏,‏ وكان يستطيع أن يقضي ليلة كاملة من الضحك المتواصل‏,‏ وكان يجيد لعبة الاشتقاقات اللفظية ويطرب لفن القافية في مباريات الفكاهة‏..‏ لقد كان يضحك معنا‏,‏ وقد يكون سبب حماسته للضحك أنه في شوق إليه لأنه أكثرنا حزنا وشجنا‏,‏ خاصة حين ينفرد بنفسه ليكتب أو لينسج أشجانه شعرا‏.‏

ابنا الزقازيق محافظة المواهب وفيض العطاء‏,‏ الشراقوة الطيبين الملهمين صلاح عبدالصبور وعبدالحليم‏..‏ لم يلتقيا في مسقط الرأس لكنهما تلاقيا هنا مع الصعلكة القاهرية في سكة الفن والإعجاب بالسنيورة سعاد‏..‏ في بدايات ابن شبانة بعد أن طوي يومياته في الحلوات تباطأ مرسي جميل عزيز في الكتابة له لدفعه إلي ساحة الشهرة الغنائية‏,‏ فلجأ إلي بلدياته عبدالصبور يطلب منه غنيوة يفتح بها عكا الغناء في بلد آذانها مبرشمة علي عبدالوهاب وفريد الأطرش ومحمد عبدالمطلب‏,‏ فشمر صلاح عن قريحته ليكتب الأغنية الوحيدة في حياته التي دخل بها حليم عالم الطرب معتمدا علي كلماتها التي قام بتلحينها كمال الطويل زميل الصعلكة‏..‏ ويكتب علي الأغنية اليتيمة أن تظل أبدا من أغاني الظل‏,‏ فالإذاعة تقصر علي تقديمها في الفترات الواقعة مثل الصباح الباكر مع تمرينات الصباح‏,‏

وربما يعود ذلك لأنها من أداء عبدالحليم شبانة وليس حافظ‏,‏ والأغنية كما بقيت علي شاشة الذكري كان مطلعها يقول‏:‏ بعد عامين التقينا ها هنا‏.....‏ وتبقي العلاقة بين صلاح وحليم حميمة دافئة لمدة أربع سنوات‏:‏ كنا لا نكاد نفترق إلا علي موعد ونشق طريقنا في الحياة جاهدين مجهدين‏!!..‏ وتظل بعدها قصة حب سعاد وحليم خلف غلالة من الأستار‏..‏ الشفافة حينا والمحكمة غالبا‏..‏ ولأن الآخر كان مرهفا ومسافر ليل وخبيرا بالأحزان وشاعرا فكان ولابد وأن يكون سحر السنيورة قد مس أبياته فقد كانت بحضورها الطاغي رمزا شعريا وتيمة جمالية واستعارة إبداعية‏,‏ حتي لقد قال عنها الشاعر محمد الماغوط ليس في مصر سوي شعر العامية وسعاد حسني‏,‏ ولا يستبعد الشاعر الأديب حلمي سالم أن تكون سعاد من خاطبها صلاح عبدالصبور بكلماته‏:‏

صافية أراك يا حبيبتي
كأنما كبرت خارج الزمن‏..‏
وحينما التقينا يا حبيبتي أيقنت أننا
مفترقان
وإنني سوف أظل واقفا بلا مكان
لو لم يعدني حبك الرقيق للطهارة
فنعرف الحب كغصني شجرة
كنجمتين جارتين‏.‏
كموجتين توءمين
مثل جناحي نورس رقيق
عندئذ لا نفترق
يضمنا معا طريق‏!!‏
ولكن لم يضمهما معا الطريق ليموت صلاح ويسألون سعاد قبل وفاتها بشهور عن علاقتهما فتقول‏:‏ صلاح عبدالصبور كان لي صحبة رائعة وقلبا خالصا نقيا‏,‏ ومعلما أضاف لي الكثير‏..‏ ومن خلاله قرأت وفهمت وعشت بالقرب من الشاعر عندما يهبط عليه الوحي‏,‏ فازدادت مداركي نحو الأشعار وأصحابها ومعاناتهم‏..‏ أما الحب فكان خيال الشاعر‏,‏ وأنا كنت أذنا صاغية‏,‏ وكنت الملهمة التي تستمتع بدورها في جمع زهور الإلهام لتقدمها باقات للشاعر الملهم‏.‏

في السادسة صباحا يوم الأحد‏17‏ يوليو‏1966‏ يمزق الرنين السكون في بيت الشاعر فتهرع إليه الزوجة ــ الثانية والأخيرة ــ سميحة غالب مذيعة البرامج الثقافية في التليفزيون وأم ابنتيه مي ومعتزة‏..‏ يأتيها منفعلا صوت يوسف السباعي الذي ولابد أن حافزه قد أذاقه الأرق طوال ليله‏:‏ مدام سميحة أرجوك وبسرعة كلمي صلاح أو ابعثي له تلغرافا فورا قولي له ألا يسمع كلام لويس عوض وألا يجري وراء شطحاته‏.‏ قولي له يوسف بيقول لك الجايزة تأخذها في المسرح وليس في الشعر‏...‏ وتأتي السادسة مساء برنين التليفون‏..‏ لويس عوض منفعلا للزوجة الحائرة التي قال لها يوما أنا أخاف علي صلاح من الزواج منك‏!‏ صلاح أمامه رسالة أهم وأكبر بكثير من مسئولية علاقة زواج وأسرة وأطفال‏..‏ لماذا لم تتركيه للشيء الأهم‏:‏ اكتبي لصلاح تلغرافا فورا أو كلميه في التليفون قولي له يسحب مسرحيته من لجنة المسرح‏.‏ صلاح لازم ياخد الجايزة في الشعر مش في المسرح‏.‏ القضية الآن هي قضية الشعر الحديث وموقف الدولة منه‏,‏ وليست مفاضلة بين المسرح والشعر عند صلاح عبدالصبور‏!‏
‏-‏ أيوه يا دكتور‏..‏ لكن‏..‏ ماذا لو لم يأخذها في المسرح؟

يعود لويس عوض ليؤكد أن صلاح عبدالصبور عليه أن يتحمل قدره‏,‏ فهو قضية وليس فردا‏,‏ وكان صلاح المرشح وقتها لجائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته مأساة الحلاج قد سافر قبل انعقاد جلسات الجوائز إلي أمريكا تلبية لدعوة من جامعة هارفارد لحضور مهرجان ثقافي لأدباء العالم‏,‏ وفي القاهرة كانت المعركة قائمة في لجان الشعر والمسرح خاصة وأن ألفريد فرج كان مرشحا لجائزة المسرح‏..‏ وحاز صلاح علي الجائزة وبعدها بعام علي وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي‏,‏ وفي عام‏1981‏ حصل علي التقديرية ثم وسام الاستحقاق من الطبقة الأولي في نفس العام‏..‏ وكان العقاد من أبرز المعارضين لمنحه الجائزة التشجيعية منذ البداية خاصة وأنه كان رئيسا للجنة الشعر في المجلس الأعلي للفنون والآداب وهو الذي أحال شعر عبدالصبور إلي‏(‏ لجنة النثر للاختصاص‏)‏ حسب تأشيرته الشهيرة‏,‏ وهو الذي منعه من السفر إلي دمشق للاشتراك في مهرجانها الشعري ما لم يكتب شعرا عموديا حسب المواصفات التقليدية‏,‏

وكانت لجنة القصة في نفس الوقت قد رفضت منح الجائزة التشجيعية ليوسف إدريس لأن المجموعة التي تقدم بها للمسابقة قد احتوت علي سبع كلمات بالعامية‏..‏ وتعد واقعة المذكرة السوداء التي أصدرتها لجنة الشعر بالمجلس في زمن العقاد هي المثل البارز علي رفض القديم للحداثة‏,‏ المذكرة التي احتاج الأمر إلي ثلاثين عاما ليعترف زكي نجيب محمود علنا بأنه صاحبها الذي كتبها وصاغ فيها أفكار أعضاء لجنة الشعر برئاسة العقاد‏,‏ والتي اتهمت جميع شعراء الحداثة من السياب ونازك إلي عبدالصبور وحجازي بأنهم وثنيون كافرون‏,‏ وهكذا كانت هذه المذكرة أول وثيقة في التكفير المعاصر‏..‏ ودائما ما كان العقاد يوجه النقد القاسي لصلاح عبدالصبور متسائلا في أمر أشعاره الحديثة‏:‏ أهي مجرد شقاوة يا سي عبده؟‏!‏ أيظن سي عبده أننا نقلب الأوزان والأسماء التي نميز بها قصائد شعرائنا منذ القدم لأجل هذه الشغلانة التي لا تفلح ومن أجل هذه اللعبة التي لا تسلي‏..‏ ويعترف صلاح بأنه كان فرحا مختالا بالجدل الذي دار علي صفحات الصحف بينه وبين العقاد‏:‏ من أنا في آخر الأمر حتي يسألني سائل ما أخبار المعركة بينك وبين العقاد؟ وكيف أنكر أيام حياتي حين كنت أقرؤه مرتعد القلب والعقل‏..‏

لقد كنت أتتبع التعليق الذي يكشفه العقاد لخلصائه دون أن يدونه في الأوراق‏,‏ وكنت أسعد بهذا التعليق الذي اعتبرته وساما كريما قد نلته منه وذلك عندما ذهبوا إليه لعقد مناقشة تليفزيونية له مع أحد شعراء الحداثة والتيار الشعري الجديد وسألوه عمن يختاره لكي ينهض بمناقشته‏,‏ فاختارني العقاد قائلا‏:‏ أريد أن أناقش هذا الولد‏,‏ فهو قد قرأ بعض الشيء‏!‏ فيما يبدو‏..‏ هو ليس جاهلا‏!!‏ وفرحت بالخبر لكن العقاد مات قبل اللقاء‏....‏

صاحب النظرات الوسنانة الشاردة الحيرانة التي تشي بأن بينه وبين الكون قضية سينظرها فيما بعد‏,‏ وأن بينه وبين الكون عتابا لكنه سيأتي فيما بعد‏,‏ وأنه قد توصل بعد هذا البعد إلي أن العتاب لن يأتي في النهاية بالحل‏,‏ لذا سيترك الأمر برمته فما بقي لديه من جبال الصبر قد نفذ‏..‏ أدانه البعض بحزنه نكدي مطالبين بإبعاده عن مدينة المستقبل السعيدة بدعوي أنه أفسد أحلامها وأمانيها بما ينذر من بذور الشك في قدرتها علي تجاوز واقعها‏:‏ ينسون أن الفنانين والفئران هم أكثر الكائنات استشعارا للخطر‏,‏ ولكن الفئران حين تستشعر الخطر تعدو لتلقي بنفسها في البحر هربا من السفينة الغارقة‏,‏ أما الفنانون فإنهم يظلون يقرعون الأجراس ويصرخون بملء الفم‏(‏ النجدة‏)‏ حتي ينقذوا السفينة أو يغرقوا معها‏..‏

ولأنني لست مولعة بإثارة غبار قد استقر منذ سنوات طويلة فلن أنكأ الجراح حول ظروف وفاته الملتبسة التي تضاربت حولها الروايات المتشفية والحكايات الثأرية والشائعات الجارحة في حضرة الموت ورهبته‏,‏ ولا أنا مع استطاعة كلمات قليلة في جلسة أصدقاء مهما تكن شدتها الجارحة استثارة الأزمة القلبية التي أودت بحياة صلاح عبدالصبور في ليلة الشاعر الذي تنبأ بمشهد نهايته‏:‏ الله لا يحرمني الليل ولا مرارته‏,‏ وإن أتاني الموت فلأمت محدثا أو سامعا‏..‏ أموت‏..‏ لا يبكي أحد‏..‏ وقد يقال بين صحبي في مجامع المسامرة مجلسه كان هنا‏..‏ وقد عبر فيمن عبر‏..‏ يرحمه الله‏.‏

نحبه لأنه
وأسأل النفس وأسأل الناس في بلادي عن سر حبهم الدائم لعبدالصبور فأجد من لأنه العشرات والمئات‏,‏ وقوائم لا تحصي من الأسباب‏..‏ منها‏:‏ لأنه‏:‏ غامر بشعره الحديث في بقاع لم يسمع فيها وقع لقدم عربية من قبل‏.‏

لأنه‏:‏ القائل بأن الشعر لا يحتاج إلي أمير‏,‏ وإنما يحتاج إلي خدم يخدمونه ويخلصون في حبه‏..‏ لأنه‏:‏ الذي قال حول غموض الشعراء الجدد‏:‏ كل قصيدة لها مدخل أحاول أن أفتش عنه‏,‏ أقرأ القصيدة للمرة الأولي فإذا لم أفهم شيئا أحاول قراءتها للمرة الثانية‏,‏ وإذا فشلت فلا أرجع ذلك إلي غبائي ولكن لقصور الشاعر عن إظهار فكرته‏)..‏ لأنه‏:‏ كان يري في التكرار أفظع أنواع الإفلاس الفني‏,‏ وعلي الفنان دائما أن يطوي صفحة ما كتبه ويتأمل داخله‏,‏ وقد تطول مرحلة التأمل إلي ما شاء الله‏,‏ فالفن دائما رهان بين الفنان والزمن‏..‏ لأنه‏:‏ عندما هوجم من اليمين واليسار بقي مخلصا للقصيدة يري فيها أن كلا من اليمين واليسار يريد الفن حصانا هزيلا يركبه نحو غايته‏,‏ بينما يؤمن هو بالديمقراطية التي لا يؤمن بها الجانبين‏..‏ لأنه‏:‏ وعي منذ بداياته الشعرية أنه لا يوجد ما يسمي بالقصيدة الطويلة‏,‏ فجوهر القصيدة الحديثة هو التركيز والتكثيف البالغين‏,‏ لأنه‏:‏ تشبع بالتراث العربي عبر مختلف حقبه القديمة والمعاصرة‏,‏

وتثقف واطلع علي كل شاردة وواردة في لوحة الشعر الغربي المعاصر‏,‏ ثم قام بعدها ليخرج بصوت خاص مستقل قدم من خلاله لوحاته الشعرية الراسخة‏..
‏ لأنه‏:‏ كتب بلغة الحياة بلا تعال عليها‏,‏ وبموسيقي أشبه بفوضي أصوات البشر‏..‏ لأنه‏:‏ في تحوله إلي المسرح كان تعبيرا عن تمام النضج واكتمال الخبرة والأدوات إلي جانب الإيمان الذي لا يتزعزع بأن المسرح الشعري هو فن العصر‏..‏ لأنه‏:‏ سأل نفسه وأجاب لنا وله عما سيبقي للتاريخ من هؤلاء طه حسين والعقاد والحكيم والمازني مفرقا بين الأديب الكبير والأديب التاريخ‏,‏ فالأخير يرتبط اسمه بتغيير جوهري في تاريخ الأدب وينسب هذا التغيير إليه‏,‏ ويستطيع الأدباء الذين يأتون من بعده أن يستفيدوا من كشفه الأدبي فيسيروا علي هداه ويتجاوزوه بعد أن مهد لهم الطريق‏..‏ لأنه‏:‏ تساءل بابتسام العارف بالجواب الخبيث عن زيادة عدد النساء الأرامل عن عدد الرجال الأرامل‏,‏

ولماذا تكثر بين الرجال أمراض الانفعال مثل ضغط الدم والجلطات والذبحات الصدرية‏,‏ وتقل جدا‏,‏ بل تكاد تنعدم بين النساء‏!!...‏ لأنه الشاعر الوحيد الذي نذكر اسمه غير مسبوق بلقب الشاعر‏,‏ فأنت حين تقول صلاح عبدالصبور فكأنك قلت الشاعر‏,‏ وحين تقول الشاعر‏,‏ فكأنك قلت عبدالصبور‏...‏ و‏..‏ نحبه لأنه‏..‏ لأنناخسرناه في لحظة ليس فيها سواه‏..‏
صلاح الشعر قال لنا قبل أن يغادرنا‏:‏
انصرفوا يا أبنائي‏..‏ دون وداع
وسأبقي وحدي لحظات كي أجمع أوراقي
ثم أزور‏....‏ في السجن
وأعود إلي بيتي
كي أنتظر غدا قد يأتي أو لا يأتي
لا‏..‏ لا‏..‏ دون وداع‏..‏ أرجوكم
دون وداع
يا حاج علي
لا تنسي أن تغلق باب المكتب
أن تغلق باب الشقة
أن تغلق باب المبني
‏(‏أن توصد أبواب مدينتنا بالضبة والمفتاح‏)‏
هذا زمن لا يصلح أن نكتب فيه‏,‏ أو نتأمل‏,‏
أو نتغني أو حتي‏..‏ نوجد
يا حاج علي
أغلق كل الأبواب
أغلق‏..‏ أغلق‏..‏ أغلق
ستار

تم الإغلاق
وأنزل الستار
وظهرت كلمة النهاية
و‏..‏
ولم يزل الغرقي
أحياء في الأعماق
يا عم صلاح‏..!‏

 

(نقلاً عن الأهرام)

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا