شكَّلَ فاروق شوشة بالإضافة إلى أمل دنقل وأحمد عبد المعطي
حجازي وصلاح عبد الصبور ومحمد عفيفي مطر حالةً إبداعيَّةً
فريدةً كانتْ برأيي جسرَ العبور من الزمن الكلاسيكي في
الشعريَّة المصريَّةِ إلى ضفَّةِ الحداثة في الستينيَّات
والسبعينيَّات، وكانَ حسب قراءتي لبعض منجزهِ أكبر من أن
تضمَّهُ مدرسة شعريَّة أو أن ينصاعَ لقوانين ضيِّقة أو
لتعاليمِ نظريَّة بحذافيرها، كانَ مفتوحاً على فضاءِ
الجماليَّات، وقراءته كانت تحيلُ دائما إلى صورةِ المثقَّف
الرومانسي، والشاعر الممسوس بهاجسهِ الموسيقي والمتفلِّت
من قيودِ النثريَّة والذهنيَّة التي سيطرت بشكل أو بآخر
على نسبة كبيرة من طبقة شعراء جيلهِ.
نقَّى شوشة لغتهُ الشعريَّة من الشوائب وأضفى عليها مسحةً
إشراقيَّةً مغسولةً بنور صباحاتِ الخريف تذكرِّنا بقصائد
شوقي على اختلاف أساليب الكتابة الشعريَّة بينه وبينَ أمير
الشعراء، قصيدتهُ على طولها تعيدُ إلى أذهاننا صورة
القصائد المشرقة الشبيهة بالأنهار الرقراقة الصافية صفاء
ماء المطرِ الأوَّل والينابيع الجبليَّة الصغيرة، ونبرتهُ
خاليةٌ من ذرات الغبار الصغيرة ومن كلِّ ما يعلقُ بها من
كدَر الغيومِ المكفهرِّة.
ومن أقرب قصائدهِ إلى قلبي هذه التي يقولُ فيها:
(الرمادُ أمامكَ..
والبحرُ خلفكَ..
فاتركْ - لمن خلعوك- الخلافةَ
هذا زمانٌ لدهماء هذا الزمانِ
يعيثون فيه فساداً
ويرجون منه امتداداً
ويحيون...
يرتكبون صنوف الخطايا
وفي طيشهم يوغلون
فلا يستدير إليهم أحد!
الرمادُ يسود..
تقدم...
وكن واحداً لا نصيب له
في الرهان)
في مثلِ تجليَّاتِ هذا الرفض نعثرُ على العفويَّة،
السلاسة، الأنفاس الشعريَّة المكتوبة بماء القلبِ ودمعهِ
الذي يلمعُ في الظلام، مع أنَّ شاعرنا الراحل اهتمَّ في
طورهِ الأدبي الأخير بالكتابة النقديَّة الانطباعية في
صحيفة الأهرام المصريَّة وكنتُ أحد متابعي تلك المقالات
المميَّزة والقادرة على مصالحة أيَّ كائن شعريِّ بالفطرة
مع النثر وعوالمهِ الثرَّة ودفقاتهِ العالية والمتوتِّرة
ذات المخزون الجماليِّ الهائل، وداعاً فاروق شوشة، يا آخرَ
الرومانسيِّين.