أقمارٌ
مائيَّةٌ في شرفةِ بدر شاكر السيَّاب
نمر سعدي/ فلسطين
ذاكرةُ الحبقِ الشعريّْ
القصيدةُ السيَّابيَّة تسدُّ عليَّ جميعَ المنافذ. وتراودني عن
كُلِّ شيءْ . عن الحنين الطفوليِّ والمطرِ والندى والذاكرة .
لا أعرفُ لماذا ينهلُّ الحبقُ من الجهاتِ الستِّ ويرشحُ زهرُ
اللوزِ غيرُ المرئيِّ في فضاءاتِ خيالي وكياني المحترقة .
أكُلُّ قصائدهِ حدائقُ تجمعُ كلَّ الزهورْ ؟؟!
لا أدري ما الذي أصابني بحنينِ النحلِ إليها ؟؟
ها هنا من خلالِ عينيهِ السماويَّتينِ أرى إلى جلجامشَ وهوَ
يجرُّ الزمنَ العجوزَ من قرنيهِ إلى الحقيقةِ المطلقةِ كألفِ
شمسٍ ربيعيَّةْ .
***
بئرُ الأساطير
ما أشبَهَ الحياةَ الشخصيَّةَ لشاعرنا بالبئرِ العميقةِ
المسحورةِ والخافيةِ الكنوزِ والأساطير. هكذا كنتُ أحسُّ عندما
أقرأُ في الكتبِ والمراجعِ التي دوَّنتْ سيرتهُ الشعريَّة
والحياتيَّة . وكم كانَ يعجبني ويجذبني الكاتب الفلسطيني
الدكتور عيسى بُلاَّطة في كتابهِ الذي ألَّفهُ عن شاعرنا . ولا
يقلُّ عنهُ جمالاً وذكاءً وبحثاً وتمحيصاً كتابُ الناقد
الفلسطينيِّ الكبير اللامع والرائع إحسان عباس . فقد انكبَّا
على بئرٍ لا تنضبُ أساطيرها مدى الدهرِ ومدى الشعرِ والسحرِ .
ومتَحا منها ما شاءَ لهما أن يمتحا . حتى سكرَ كُلُّ من شربَ
من هذهِ البئرِ الغريبةِ . ولم يعُدْ إلى صحوهِ المُكفهرِّ ولم
يفق لهُ قلبٌ أبداً .
***
بين إمرئِ القيسِ وت.س. إيليوت
بوتقةُ القصيدةِ لدى بدر تضمُّ غزلَ امرئ القيسِ النقيَّ
البريءَ وذهنيَّةَ وعمقَ الشاعر الإنجليزي ت.س.إيليوت. وهذا ما
جعلَ التنوَّعَ في النصِّ الشعري يبهرُ الجميعَ ويرتقي
بالذائقةِ الجماهيريةِ .
غزَلٌ ومرحٌ وعبثٌ وفرحٌ وبكاءٌ وشجنٌ ..كلُّ هذا بمقدارٍ
معلوم . إلى جانبِ عمقٍ وثقافةٍ وتوظيفٍ ذكيٍّ وبارعٍ
للإشاراتِ التاريخيةِ والرمزية. بالإضافةِ إلى مسحاتٍ
متوهجَّةٍ من الأصالةِ التعبيرية والمجازيةِ العربية .
نحنُ إذن أمامَ بوتقةٍ مُلوَّنةٍ غنيَّةٍ متموِّجةٍ بالتناصْ
والخيالِ والصور الشعريةِ الجديدةِ والمعاني البكرِ التي لا
أظنُّ أنَّ شعراءنا كانوا سيفطنونَ لها حتى لو بعدَ قرنين أو
ثلاثةٍ من الزمنْ .
***
جيكورُ أمَّاً
لا شكَّ أنهُ لا توجدُ بينَ القُرى والمدائنِ التي ولدَتِ
الشعراءَ أمَّاً أحنُّ وأعطفُ على ابنها من جيكور . لذلكَ حفظَ
لها شاعرها الأزليُّ هذا الوُدَّ . وتغنَّى بعطفها وحنوِّها
وجمالِ بساتينها وغاباتِ نخيلها ونقاءِ هوائها .
فهيَ للسيَّابِ بمثابةِ نهر أيفون لشكسبير . أو دمشق القديمة
لنزار قبَّاني . أو قلب فلسطين النابض بالوفاءِ لمحمود درويش .
أو غابات تشيلي وسحرها لبابلو نيرودا أو العاطفة الأندلسِّية
لغارسيا لوركا .
إنَّ كُلَّ كلمةٍ في أواخرِ حياةِ الشاعر كانتْ مشدودةً بحبلٍ
من الضوءِ الخفيِّ النديِّ إلى جيكور . إلى قلبها المشتعلِ
بالحنانِ.
وعبقريَّةِ ابنها البارِ وعاطفتهِ المذهلة .
***
أحلام غرائبِّية لإيديث ستويلْ
كادَ الطفل في الشاعر أن يلمسَ أحلام ايديث ستويل بقلبهِ
كادَ أن يلبسَ معطفَ أوراقها واخضرارَ لياليها وبحيراتها
كادَ أن يكونَ أناها الآخر
وبسمتها التي يشقُّ بها ضبابَ العالمِ الحجريِّ
كادَ أن يكونَ نفسَهُ وروحَ حلمهِ وحلمها.
***
شاعرُ الوطنِ المذبوحِ بسيفِ الأعرابْ
قلَّما يتغلغلُ شاعرٌ إلى مطاوي نفسكَ كما يتغلغلُ السيَّاب .
حتى كأنَّ شعرهُ عنقاءٌ أو كائنٌ ضوئيٌّ يخترقُ ما ظلَّ فينا
من الصخورِ والصلصالِ والترابِ والضبابِ والأسئلةِ والموسيقى
الخفيَّةِ الزرقاءْ .
فهو يمتحُ الكلمةَ من بحارِ أساه وينحتها من مقالعِ حزنهِ
وفرحهِ بالحياة . من عيدهِ المعلَّقِ فوقَ غاباتِ النخيلْ . من
مأتمهِ القائمِ في أعالي وطنهِ المذبوحِ بسيفِ الأعرابْ .
ألشعراءُ لديَّ في كفَّةٍ والسيَّابُ في كفَّةٍ أخرى . لا
لشيءٍ ... لا لشيءٍ .. فقط من أجلِ هذا الدفقِ الحريريِّ الرخص
ِ الهادرِ كمهرةٍ أصيلةٍ في حنايا قصيدتهِ الجريئةِ والبريئةِ
والمنفعلةِ والمشتعلةِ بالماءِ وسرابهِ .
***
مائيَّةُ السيَّابْ
لم يفتقدَ بدرُ مرحَ بويبْ حتى آخرِ لحظةٍ من حياتهِ العريضةِ
القصيرةِ والقصيدةِ أيضاً . وهذا ما جعلَ أصابعنا الحجريَّةَ
تتفتَّتُ في حضرةِ موجهِ الناعمِ . المُباغتِ والمليءِ
بالتحنانِ والذكرى .
لا أكادُّ أمسُّ بقلبي قصيدتهُ حتى تمتلئُ صحراءُ أيامي
بالرذاذِ . وتطفحُ بالرشاشِ الحبقيِّ الدائمِ . ويطفحُ قلبي
بأشعارِ سافو . ولا أرى حينها إلاَّ احتراقَ السفنِ الورقيَّةِ
الصغيرةِ في اليمِّ الغامضِ . ولا أسمعُ إلاَّ صياحَ بحَّارةٍ
مجهولينَ يأتي من البعيدِ تحملهُ رياحُ السندبادِ ونارُ إيديث
ستويل المُجنَّحة .
***
قصاصةُ عطر
لا هنا ... ولا الآن ..... في حضرةِ الليمونِ.. والسوسنِ ..
وحدائقِ بابلَ المعلَّقةِ الموجودةِ والمفقودةِ ...
والمرميَّةِ في بحارِ الروحِ.. وغيابها الورديِّ.....
في لجَّةِ حرائقِ الشعرِ وعذريَّةِ بخورهِ وعبقهِ يترامى
العطرُ الأنثويُّ الأسطوريُّ ويتسلَّقُ جدرانَ المُخيِّلةِ
الزرقاءْ .
ذلكَ العطرُ القادمُ من الأماسي البعيدة المذهَّبةِ العاطفةِ
والشعورِ والخيالْ .
***
نهرُ الوردِ المُجفَّفْ
يتراقصُ في اللا مكانِ على أعلى ضفةٍ حالمةٍ بالصباحِ الغريبِ
العاشقِ نهرٌ كأنهُ قلبُ شاعرٍ يعشقُ سبعَ حوريَّاتٍ جامحاتِ
الجمالِ والفتونِ والجنونِ والهوى
نهرٌ خالدٌ متجدِّدُ الأشواقِ والأوراقِ والرؤى وألوانِ
السريالييِّنَ الفرنسيِّينْ
نهرٌ يعانقُ طيفَ من أحبَّ وصدَّتهُ بلوعةٍ كهربائيةٍ وروعةٍ
عاليةٍ
يجذبني ترجيعُ خريرهِ كأنهُ السيرينُ الخُلَّبُ وكأنني
توزَّعتُ إلى ألفِ عوليسٍ مسكونٍ بالرهبةِ والندمِ والعشقِ
القتَّالِ والكبرياءْ
تماماً كأنني وورد زورث .
***
أحجارُ النبوءة
أتذكَّرُ الآن تلكَ الحادثةَ الغريبةَ التي قرأتها عن عرَّافةٍ
أعرابيَّةٍ التقت السياب برفقةِ اثنين من أصدقائهِ فرمتْ لهم
أحجارَ الغيبِ. فشذَّ حجرُ بدر عن حجريِّ صديقيهِ وارتمى
بعيداً خارجَ الدائرةِ المحفورةِ في الرمل . وقد كانَ أصفرَ
اللونِ ضئيلاً . فجاءَ تفسيرُ العرافة ِ أنَّ صاحبهُ يموتُ
غريباً معتلاَّ فقيراً وحيداً خارجَ بلدهِ .
عندها انتفضَ الشاعرُ غاضباً وانهالَ على العرافةِ المسكينةِ
بأقذعِ الشتائمِ وسطَ ضحكِ مرافقيهِ وهزلهم .
لا أدري سرَّ الحزنِ الذي يشعلني كالقمرِ عندَ تذكُّرِ هذهِ
القصةِ الموجعةِ وتذكُّرِ قصيدةِ محمد الماغوط عن السلحفاةِ
التي ركبها السيَّابُ ليبلغَ الجنَّةَ . بينما الجنَّةَ بعيدةٌ
وقصيَّةٌ وهيَ مُعدَّةٌ فقط للعدَّائينَ وراكبي الدراجاتْ .
آهِ كم كانَ الماغوطُ صادقاً في حزنهِ ذاكَ وحبِّهِ اللا
إراديّْ .
***
إكتمالاتُ النرجسْ
كما اكتملَ النرجسُ الأليفُ في عينيّْ شاعرتهِ البغداديَّةِ
لميعة عباس عمارة. فقد اكتملَ عذابُ أميرِ الشعر العربيِّ
الحديثِ وامرئِ القيسِ الأخيرِ زمانهُ. وكانَ اكتمالاً شهيَّاً
يغري كلَّ قلوبِ الشعراءِ العربِ المجدِّدينَ ويوجعهم .
والأخطرُ من كلِّ هذا أنهُ يستدرجهم كالطيورِ الغبيَّةِ إلى
الفخِ الجحيميِّ . وكالفراشاتِ الساذجةِ إلى محرابِ النارْ .
***
فسحةٌ لفوضى الكلامِ البريءْ
الأعرابُ الذينَ نقضوا عهدَ الحديبية كما يدَّعي أبو سفيانَ في
بعضِ لحظاتِ صحوهِ وصفوهِ .
الأعرابُ وهم أشدُّ كفراً ونفاقاً وقسوةً من قتلوا بدر شاكر
السياب الشاعرَ العربيَّ العراقيَّ وهو يزحفُ على أعتابِ
الجنَّةِ . وبعدها لا أدري ماذا صُنعَ بروحهِ لكنِّي أعلمُ أن
ألفَ شاعرٍ عربيٍّ عُلِّقتْ رؤوسهم تحت كُلِّ جسورِ العالمِ
الجديدِ وفوقَ جميعِ بواباتهِ .
***
في ظلالِ غاباتِ النخيلْ
النخيلُ العربيُّ يشبهُ إلى حدٍّ كبير قامات النساء . خصوصاً
نخيلُ جنوبِ العراقِ الذي تغنَّى بهِ بدر بعدما ترعرعَ وشبَّ
في ظلالهِ . وغاباتُ النخيلِ العراقيِّ ايضاً تشبهُ إلى حدٍّ
جامحٍ أعينَ النساءِ الحور . وهذا ما أثبتهُ بدر في شعرهِ .
وهذا الأمر هو في نظري أهمُّ الأسبابِ لتلكَ العذوبةِ
والرقَّةِ والرومانسية في لغةِ شعراءِ العراق. والأهمُّ من
كلِّ هذا هو تربيةُ الحلمِ بأحضانِ القصيدةِ عندهم كما يُربَّى
الوليدْ .
النخيلُ في إحدى صورِ تعريفهِ كائنٌ حلمي أو مرادفٌ ضروريٌّ
لزهوِ المرأةِ العربيةِ وكبرياءِ جمالها . وهو أيضاً صورةٌ
جلِّيةٌ لعنفوانِ الحبِّ العربي على مرِّ الأشعارِ والعصورِ
والهوى والأنوثةِ والأنهارِ الزرقاءِ والنجومِ الخفيضةِ
والمطرِ السيابيِّ والسماواتِ المبتلَّةِ برائحةِ الفرحِ
الباكي .
***
مزاميرُ المطر
لأمطارِ الشعرِ ألحانٌ لا نسمعها . نحسُّها بحواسنا فقط .
ونعانقُ شذاها العابقَ وننسبها إلى جيكور وأقمارها وغمامها
الشبيهِ بالهالاتِ السماويَّةِ .
ننسبها لجيكورَ ودمعها السخيِّ البهيِّ الحائرِ فوقَ صليبِ
الكونِ والمُعدِّ كالبذورِ الغنيَّةِ بالخصبِ لقلبِ الأرضْ .
لأمطارِ تلكَ السنينِ الموغلةِ في الشجنِ عطرٌ أنثويٌّ وموسيقى
لا تُصنَّفُ . ومسكٌ وبخَّورٌ وذكرى يرفرفُ صفصافها كيَدَيْ
شهريارَ في أبدِ الخواءِ . وكقلبِ شهرزادَ في الليلةِ الثانيةِ
بعدَ الألفِ .
فسلامٌ على السيابِ وعلى نخيلهِ المنطلقِ إلى صدرِ السماءِ
كالسهمِ العاشقِ
وسلامٌ على مطرهِ في العالمين .
***
|