نزار
السياسي.. ونزار الدون جوان!
أحمد عبدالمعطي حجازي - مصر
أنا لا أعرف شاعرا عربيا بلغ من الشهرة ما بلغة نزار قباني, ولا أعرف شاعرا جنت
عليه شهرته كما جنت الشهرة علي نزار قباني.
والشهرة ربما حجبت صاحبها بدلا من أن تظهره, وربما أبعدته بدلا من أن تقربه,
لأنها تقوم بينه وبين الناس فلا يرونه كما هو في الحقيقة, بل يرونه كما صورته لهم
خيالاتهم, ولأن اسمه علي كل لسان يظن الناس أنهم يعرفونه, لكن الواحد من هؤلاء
لا يكاد يراجع فكرته عن نجمه المشهور حتي يدرك أنه لا يعرف عنه شيئا.
ونحن ننظر فنري الدنيا من حولنا حافلة بالمشاهير الذين تتابع الصحف والمجلات
أخبارهم, وتنشر صورهم, حتي إذا خطر لنا أن نسأل أنفسنا! من هؤلاء؟ لم نجد
جوابا واضحا.
ومنذ أصدر نزار ديوانه الثاني طفولة نهد قبل ستين عاما, وكان آنذاك في الرابعة
والعشرين من عمره, صار مشهورا! لكن قراء نزار قباني ونقاده أو معظمهم, لم
يلتفتوا إلي شعر نزار بقدر ما التفتوا إلي موضوعاته لم يلتفتوا لشعره من حيث هو لغة
جديدة تميز بها نزار عن أي شاعر أخر, وانما التفتوا إلي موضوعات قصائده التي
أدارها حول نساء وفتيات يذكرننا بنساء الملاهي وفتيات المقاهي المتجملات بالمظهر
فحسب, والمتحررات دون حرية, هذا الطابع الحسي الشهواني في شعر نزار لفت إليه
الأنظار أكثر مما لفتها إليه فنه الجميل
ولاشك أن شعر نزار جميل. ولكن جمال من نوع خاص نحن نقرأ دواوين نزار الأولي فنجد
أناقة, ونجد ذكاء وطرافة, لكننا لانجد عمقا.
نجد في شعره كثيرا من الفساتين والحمالات والمشدات والمنامات ـ أي البيجامات ـ ونجد
كثيرا من الألوان والعطور, وكثيرا من الأقراط والقلائد والأساور, ولا نجد الا
قليلا من الأفكار والعواطف. ونستطيع أن نقول بشئ من المجازفة ان دواوينه الأولي
كانت شعرا من أجل الشعر, وكانت بالتالي ردا علي أشعار الرومانتيكيين الذين تصدروا
الحركة الشعرية في الأربعينيات وأسرفوا في التعبير عن عواطفهم.
غير أن نقاد نزار لم يلتفتوا إلي فنه كما قلت, وإنما التفتوا الي موضوعاته وهذا
ما صنعه أيضا قراؤه وقارئاته, والمهم أن نزار صار مشهورا جدا دون أن يعرف الناس
عن شعره إلا القليل.
ويبدو أن هذه الشهرة أعجبت نزارا وأثلجت صدره, فلج في مغازلة المعجبين به ومداعبة
عواطفهم, حتي حين هجر موضوعاته الأولي, وانقلب علي نفسه ـ بعد هزيمة1967 ـ
وصار شاعرا سياسيا.
لقد أخذ يتخلي عن أناقته, ويخلط لغته التي كانت براقة مجلوة ناعمة بالمفردات
والتعبيرات الدارجة, وربما بلغ حد الركاكة كما نري في قصيدته صباحك سكر:
إذا مر يوم ولم أتذكر
به أن أقول صباحك سكر
فحين أنا لا أقول: أحب
فمعناه أني أحبك أكثر!
إنه كلام عامي نظمه نزار فصار هجينا, لا هو فصيح ولا هو دارج, ولا هو شعر ولا
هو نثر. ثم يواصل مغازلة جمهوره الواسع فيوبخ حبيبته كما يوبخ السوقة زوجاتهم:
أنت لا تحتملين!
كل أطوارك فوضي
كل أفكارك طين!
ومازال نزار يواصل السير في هذا الطريق حتي تحول شعره الي نوع من الهجاء السياسي
المنظوم بالحد الأدني من أدوات النظم, وقد اتسعت شهرة نزار نتيجة انقلابه علي
نفسه الذي صفقت له الجماهير المتعطشة للهجاء السياسي, لكن هذه الشهرة لم تجد من
النقاد من يفسرها ويقيمها ليساعد الشاعر في تصحيح كتابته, ويساعد جمهوره في تصحيح
قراءته.
ولقد ظن البعض أن شهرة نزار سوف تتراجع بعد رحيله: لكن الحقيقة أن نزارا لا يزال
حتي الآن وقد مرت علي رحيله عشر سنوات ـ أشهر شاعر عربي معاصر, ولايزال الناس
يقرأونه, ولا تزال دواوينه تطبع وتنفد طبعاتها لتطبع من جديد, ولايزال شعر نزار
مع ذلك مجهولا أو شبه مجهول, سواء شعره في المرأة أو شعره في السياسة, لأن
الذين يقرأونه يبحثون عما قاله نزار في المرأة والسياسة, ولايهمهم أن يعرفوا كيف
قال هذا الشعر, ولا كيف تميز به عن سواه من الشعراء
ولقد وصلت شعبية نزار إلي الحد الذي أصبحت فيه الطبعات الجديدة من دواوينه تتلاحق
حافلة بالأخطاء التي لايبالي بها أحد, لا الناشر, ولا الطابع, ولا المصحح,
ولا القارئ, ولا الناقد فهل جنت الشهرة علي شاعر كما جنت شهرة نزار قباني عليه؟
أتمني وقد حلت الذكري العاشرة لرحيله أن نقرأ شعره من جديد وأن نقرأ, عنه نقرأه
باعتباره شعرا لا باعتباره غزلا أو هجاء, ولنري الشاعر الذي نظم هذا الشعر قبل ان
نري النساء اللائي غازلهن والرجال الذين شتمهم.
فإن سألتني كما سألني بعض الصحفيين عن مستقبل نزار قلت لك سيبقي نزار الدون جوان,
وسوف يتراجع نزار السياسي!
(نقلاً عن الأهرام)
|