رجاء
النقاش ضمير جيل
فاروق شوشة - مصر
قرب منتصف الخمسينيات أصبح رجاء النقاش واحدا من النجوم
البازغة بقوة في سماء حياتنا الأدبية والثقافية, كان
مراسلا من القاهرة لأهم مجلة أدبية في العالم العربي هي
مجلة الآداب البيروتية, وكانت رسائله الشهيرة فيها ـ
التي يكتبها بذوب قلبه ويسكب فيها معاناته الوجودية
الهائلة ـ زادا للألوف التي بدأت تقرؤه وتلتف من حوله,
من أبناء جيله من الذين رأوا فيه صوتهم, ومن غيرهم,
وهو مايزال طالبا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في
جامعة القاهرة, لم يتجاوز عامه التاسع عشر, هذه
الرسائل أصبحت فيما بعد كتابه الأول في أزمة الثقافة
المصرية الذي أتاح لصاحبه مكانه ومكانته وموقعه المتقدم في
الساحة الثقافية كاتبا وناقدا ومفكرا, وجعل كثيرين
يقارنون بين كتابه والكتاب الذي سبق صدوره للناقدين
الكبيرين محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس في الثقافة
المصرية, يقارنون بين منهجين ورؤيتين ولغتين في النقد,
منهج رجاء النقاش الذي يقوم علي أفق إنساني رحب يمتزج فيه
الفكر بالوجدان, ويري الظاهرة الثقافية في إطار مكوناتها
وعناصرها الفردية والاجتماعية دون تزمت أو تعصب لنظرية ما
ومنهج
العالم وأنيس الذي يلتزم الرؤية الواقعية في نموذجه ا
الإيديولوجي الصارم الأحكام والتطبيقات, وهو ما ظهر في
تناول أعمال مبدع كبير من طراز نجيب محفوظ, أثبتت الأيام
فيما بعد, صدق منهج رجاء النقاش وانسانيته وأفقه الرحب
في التعامل معه, وتعسف التناول الايديولوجي الملتزم
وعجزه عن استشراف آفاقه. وسرعان ما أصبح اسم رجاء النقاش
يمثل عملة نقدية جديدة, تستند الي فكر حضاري وثقافي
واجتماعي واعد, وتستوعب انجازات الكبار الذين سبقوه من
أمثال طه حسين ومحمد مندور وأنور المعداوي وغيرهم دون أن
تكون تكرارا لها, والتمع اسمه أكثر حين أصبح صوتا قويا
وبارزا في كوكبة النقاد الجدد ـ الأمر الذي جعل خصومه
يطلقون عليه عبدالحليم حافظ الأدب ـ
ويخوض بكل ما يمتلكه من شجاعة وجرأة وحرارة واخلاص معارك
عنيفة من أجل ما يؤمن به من قيم, وما نذر حياته لأجله من
موقف ورسالة يجمعهما دائما شرف الكاتب ونبل الكتابة, من
هنا كانت كتابته المبكرة ـ وهو مايزال طالبا ـ عن عبقرية
الشابي, واكتشافاته المبكرة لعبقرية الطيب صالح من خلال
رائعته موسم الهجرة الي الشمال, وشاعر فلسطين محمود
درويش, ورهانه المبكر علي عبقرية محفوظ في وقت انصرف فيه
كبار النقاد عنه
بدعوي أنه أصبح مؤسسة غير قابلة للنقاش, أو أن سرده
الطويل يهبط بمستوي ايقاع رواياته, أو أنه يقف عقبة في
وجه الأجيال الجديدة من مبدعي الرواية, فلما جاءت نوبل
قلبت موازين هؤلاء النقاد جميعا, وأكدت نبوءة رجاء
النقاش الذي لم يفقد يقينه بعبقرية نجيب محفوظ.
ويوم عاد رجاء النقاش ـ بعد دورة طويلة من الزمان ـ الي
دوره النقدي التنويري من خلال كتابه قصة روايتين, الذي
قدم فيه دراسة نقدية وفكرية لروايتي ذاكرة الجسد لأحلام
مستغانمي ووليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر, كتبت أحييه
وأشيد بكتابه علي هذه الصفحة التي تجاورنا فيها تسع سنوات
بمقال عنوانه: رجاء النقاش وعودة النقد الجميل, وكأنني
كنت أستشرف صداقة غالية بدأت منذ منتصف الخمسينيات واستمرت
حتي رحيله, ارتبط فيها اسم رجاء بمحطات ثقافية وأدبية
بارزة من بينها دوره رئيسا لتحرير مجلتي الهلال المصرية
والدوحة القطرية, كاشفا عن موهبته, وقدرته الهائلة في
اصدار مجلات ثقافية ناجحة, تقوم بأدوار تنويرية وطليعية
بارزة, وتجسد أفقه الثقافي الرحب, واختياراته الشديدة
التوفيق للقضايا والموضوعات, وللمبدعين والكتاب أو من
منطلق التزامه بالموضوعية, لدرجة القسوة الزائدة علي
النفس, فقد تجنب الكتابة عن كثير من أصدقائه المقربين من
أبناء جيله, فلم يكتب عن غالب هلسا أو بهاء طاهر أو
سليمان فياض أو أبوالمعاطي أبوالنجا أو غيرهم من الروائيين
والشعراء.
وبالرغم من هذا الموقف, فقد ظل في قلوبهم نموذجا نبيلا
لقيم الشرف والترفع وا لاحترام.
ولسوف تفتقده هذه الصفحة التي بسببها اصبحت كتاباته زادا
للألوف المؤلفة من قرائه ومتابعيه وعاشقي لغته, وسنفتقده
ـ نحن أصدقاءه ومحبيه وعارفي قدره ـ وجها انسانيا نبيلا,
وقلما مبدعا يتوهج بالصدق والنقاء والعذوبة والجمال.
|