ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

بل الفضل للمتأخر
د. جابر عصفور - مصر

 

ساد مبدأ الفضل للمتقدم علي الفكر العربي منذ أن تولي الخليفة المتوكل‏,‏ وخالف من أطلقوا علي أنفسهم السلفية‏,‏ أو اتباع السلف الصالح‏,‏ خصوصا من الحنابلة الذي عاني رأسهم أحمد بن حنبل من المحنة التي تمثلت في حبس المأمون له‏,‏ لرفضه الإقرار بأحد المبادئ الاعتزالية ‏(‏ خلق القرآن‏)‏ وإصراره علي الرفض‏,‏ الأمر الذي عرضه للسجن والتعذيب‏.‏

وكان هذا الفعل بمثابة سقطة كبيرة وقع فيها المعتزلة الذين استعانوا بسلطة الخلافة التي جذبوها الي أفكارهم‏,‏ لإجبار خصومهم علي التسليم بما يذهبون إليه‏,‏ مع أنهم عقلانيو الاتجاه‏,‏ وبدلا من مقارعة الخصوم الحجة بالحجة‏,‏ والرأي بالرأي‏,‏ فضلا عن المجادلة بالتي هي أحسن‏,‏ إذا بهم ينسون كل ذلك‏,‏ ويناقضون ما يتأسس فكرهم عليه‏,‏
فكانت السقطة التي نالوا عقابا قاسيا عليها‏,‏ خصوصا حين تغير اتجاه السلطة لأسباب نفعية‏,‏ عندما جاء المتوكل فنصر أهل السنة الذين حالفوه‏,‏ خصوصا الحنابلة الذين فعلوا بالمعتزلة أقسي مما فعلوه بهم‏,‏ كأنهم كانوا يردون الضربة الواحدة بضربات متعددة‏,‏ متوالية‏,‏ ومتصلة عبر العصور‏,‏ وكان من الطبيعي أن تفتح الأجهزة الأيديولوجية‏(‏ السلفية‏)‏ نيرانها علي المعتزلة وأمثالهم من المنتسبين الي التيارات العقلانية الموازية للمعتزلة سواء في منح الأولوية للعقل‏,‏ أو تأويل المنقول بما يرده الي المعقول‏,‏ وكانت النتيجة ان سادت التيارات السلفية‏,‏ خصوصا تلك التي ازدادت تشددا وتصلبا وحرفية‏,‏ خصوصا في القرون المتأخرة التي عانت فيها الأمة الإسلامية من غزو المغول ثم الصليبيين‏,‏ فكان التشدد في حرفية التمسك بأقوال السلف‏,‏ وتبرير العودة إليهم بوصفهم الذين ذهبوا بالفضل‏,‏ نوعا من الآلية في مواجهة الغزو الخارجي ومخاطر الأزمان الفاسدة هكذا شاعت معاداة الفلسفة والتفلسف ولم يقتصر الأمر علي مقولات من مثل من تمنطق تزندق بل جاوزها الي حرق الكتب الفلسفية أو التي تحمل شبهة التيارات العقلانية‏,‏ وتعذير أصحابها‏,‏ أي تعذيبهم واطراحهم في السجون‏.‏

هكذا‏,‏ استقرت مبادئ كثيرة أسهمت في صنع التخلف بقدر ما أسهم التخلف في ترسيخها وإنزالها منزلة المقدسات‏,‏ لكن لحسن الحظ‏,‏ كانت هناك بؤر مضيئة‏,‏ هامشية‏,‏ ظلت تقاوم الاضطهاد‏,‏ وتعمل علي إبقاء شعلة العقل باقية‏,‏ تشع أضواؤها في الدوائر التي تصل اليها‏,‏ أو تحتضنها‏,‏ وذلك علي الرغم من الهجوم العدائي والقمع المادي الذي واجه ممثلي هذه التيارات‏,‏ وكانت النتيجة تواصل مبادئ مناقضة لمبدأ الفضل للمتقدم علي الإطلاق‏,‏ وكانت البداية عند المعتزلة في موازاة الفلاسفة والعلماء الذين رأوا التاريخ أقرب من خط صاعد من التطور الحتمي‏,‏ وبدل صورة الزمن المنحدر‏,‏ حلت صورة الزمن الصاعد‏,‏ دوما‏,‏ رغم كل تعرجاته وذبذباته‏,‏ وذلك ما ذهب اليه أمثال أبي زكريا الرازي‏,‏ وجابر بن حيان‏,‏ والحسن بن الهيثم وغيرهم‏,‏ ويعني فهم الزمن الصاعد الإيمان بالتطور الحتمي‏,‏ والتقدم الذي لامفر منه‏.‏

ويترتب علي ذلك ان الفضل للمتأخر‏,‏ لأن المتأخر قد رأي من التجارب والخبرات ما لم يرها سلفه‏,‏ وانه إذا أعمل عقله فيما تراكم من خبرات‏,‏ وما ورثه من تجارب السابقين في ملته وغير ملته وصل الي ما لم يصل إليه المتقدمون‏,‏ هكذا ورث العرب علوم الهند وفارس واليونان القديمة وأضافوا‏,‏ وورث كل عالم نابه من علماء المسلمين ما تركه الذين سبقوه في المجال نفسه‏,‏ فزاد عليه لأنه بدأ من حيث انتهوا‏,‏ ومضي إلي أفق لم يعرفوه‏,‏ وسيأتي غيره ليكرر الفعل نفسه‏,‏ سواء في مجال الإضافة بالتطوير‏,‏ أو مدي الانقطاع المعرفي والتغيير الجذري‏.‏

وكانت النتيجة ما يشبه القانون الذي صاغه ابن النفيس العالم العربي الرائد بقوله‏:‏ إذا تساوت الأذهان والهمم‏,‏ فمتأخر كل صناعة خير من متقدمها‏,‏ وهو قانون لاتزال له وجاهته في مجالات العلوم التي يضيف فيها اللاحق للسابق ما يدفع بقاطرة العلم الي الأمام‏,‏ أو يكتشف جديدا يؤسس لانقطاع معرفي يتغير به المسار الي ما يدفع نحو المزيد من التطور‏.‏ وهذه بديهيات يعرفها أهل العلوم الطبيعية‏,‏ ما ظل تطور العلم مرتبطا بالتراكم الكيفي والإضافة الخلاقة التي لاتفارق معني الابتكار في العلوم‏.‏ والواقع أن الأمر لايختلف اختلافا جذريا في العلوم الانسانية‏,‏ ولقد مست مقولة التطور بسحرها بعض الذين تأثروا بالتيارات العقلانية والعلمية في التراث‏,‏ ويمكن ان نجعل من شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني‏(‏ المتوفي‏1250‏ هجرية‏)‏ مثالا علي ذلك‏,‏ خصوصا عندما يؤكد أن الله‏,‏ وله المنة‏,‏ قد تفضل علي الخلف‏,‏ كما تفضل علي السلف‏,‏ بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية‏,‏ علي اختلاف أنواعها‏,‏ من يقل نظيره من أهل العصور المتقدمة به‏.‏ وأتصور أن نموذج العلوم الطبيعية كان يخايل الشوكاني في هذا الذي ذهب إليه‏,‏ خصوصا عن إمكان أن يوجد من العلماء المتأخرين في الزمن من يقل نظيره‏,‏ أو حتي ينعدم‏,‏ بين المتقدمين في الزمن‏,‏ والجملة الأولي للشوكاني لا تخلو من رائحة اعتزالية‏,‏ ذات صلة بمبدأ العدل الإلهي الذي جعل المعتزلة يوصفون بأنهم أهل العدل والتوحيد‏,‏ ومؤدي هذا المبدأ أن العدل الإلهي لا يتجزأ‏,‏ ولا يؤثر في قوم‏,‏ فكما أن شمس الله تشرق علي الأشرار والأخيار‏,‏ ولا تخص قوما دون قوم‏,‏ ولا حتي زمنا دون غيره‏,‏ فمن العدل الإلهي ان يجعل العقول متساوية عبر العصور والأزمنة‏,‏ لا فرق فيها بين زمن قديم أو جديد‏,‏ الفارق الوحيد يأتي حسب الجد والاجتهاد‏,‏ والإفادة من تراكم الخبرات‏,‏ وهذا بالضبط هو معني ما قاله ابن النفيس الذي هداه تبحره في العلوم العلمية إلي صياغة القانون الذي يؤكد انه إذا تساوت الأذهان والهمم‏,‏ فمتأخر كل صناعة خير من متقدمها‏,‏ ولقد ترجم الشوكاني علي هذا الأساس لرجال القرن السابع للهجرة في كتابه العمدة البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع‏.‏ وهو الكتاب الذي يغفل في مقدمته عن الهجوم علي ما شاع بين الناس من اختصاص سلف هذه الأمة بإحراز فضيلة السبق في العلوم دون خلفها‏,‏ وكيف انتشر قول البعض بتعذر وجود مجتهد بعد المائة السادسة كما نقل عن بعضهم‏,‏ أو السابعة كما ذهب آخر‏,‏ ويدحض الشوكاني هذا المبدأ بقوله إنه لو صحت هذه المقالة الخاطئة لاقتصر الفيض الرباني للعلم علي بعض العباد دون البعض‏,‏ وعلي أهل عصر دون عصر‏,‏ دون برهان ولا قرآن‏,‏ والدليل العملي الملموس يقول إن العدل الالهي لا يمايز بين الأزمنة والأفراد إلا بما عملوا وأضافوا‏.‏

والواقع أن نقض المبدأ القديم واستبدال نقيضه به كان نوعا من الآلية الدفاعية المضادة التي تقصر الفضل علي المتقدم‏,‏ ومن العدل ألا تتطرف هذه الآلية فلا ننكر فضل المتقدم‏(‏ في الزمن والرتبة‏)‏ شريطة ألا يسد هذا المتقدم طريق حركة التقدم‏,‏ ولا يقف في وجه الأجيال‏,‏ بل يدرك ان عليه دورا يؤديه‏,‏ وأن عليه إكمال مهمته في الحدود المعقولة‏,‏ كي يترك مكانه‏,‏ مريدا مختارا‏,‏ لغيره من الأجيال الجديدة‏,‏ وإلا توقفت حركة الزمن العلمي والفكري والسياسي والثقافي‏,‏ فلا يحدث تدوير للنخب الثقافية والسياسية‏,‏ ولايترك مسئول مقعده إلا بالموت‏,‏ ولذلك قررت الدساتير الحديثة المبادئ التي تكفل الحراك والتغير في القيادة‏,‏ وتوافقت الأقطار المتقدمة علي ضرورة تدوير النخب‏,‏ وفتح الأبواب واسعة أمام الشباب‏,‏ والتحيز للشباب في غير حالة‏,‏ ولولا ذلك ماظهر أمثال بيل جيتس وأشباهه علي امتداد العالم المتقدم القائم علي المساواة واحترام حقوق المواطنة‏.‏

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

1-

جريس دبيات - سوريا
jeryes.debayat@gmail.com
Saturday, October 3, 2009 7:28 PM

تقدير  خاص
أنا احد متابعي الدكتور جابر في كتاباته الادبية المتنوعة واعتبره خلفا لاستاذه  العميد .اقرا مقالاته في كل مكان من العربي الى كل المراجع والمواقع المتاحة.
اتمنى له دوام الصحة وتمام العافية واسال الله ان يكثر من امثاله في عالمنا الثقافي والادبي.
جريس دبيات - فلسطين

ضع إعلانك هنا