مظاهر
التواصل غير اللفظي
د. جميل حمداوي - المغرب
1-التواصل التموضعيProxémique:
التموضعية أو التقريبية هي دراسة المجال الزمكاني والمسافة
بين المرسل والمرسل إليه وكيفية تنظيمها. والتموضعية قناة
بصرية ومرئية تحدد حدود التواصل الفضائي. ويقول بيير غيرو
في هذا الصدد:" لا يقتصر استخدام الاتصال الألسني على
الحركات فحسب، بل يتعدى ذلك إلى استخدامه الزمان والمكان؛
فالمسافة التي تفصلنا عن متحدثنا، والزمن الذي يستغرقه
استقبالنا له وإجابته يشكلان علامات. فهذا النوع من الكلام
هو المعني بالدراسة تحت عنوان"
Proxémique"
التقريبية"1.
ويختلف نظام التواصل الموضعي من ثقافة إلى أخرى مما سبب
كثيرا من التاويلات وسوء التفاهم. ويعتبر كتاب هولE.T.HALL
اللغة الصامتةSilent
language
المنشور سنة 1959 أول مصدر سيميائي في التقريبية. وقد حدد
الكاتب مجموعة من المسافات الدلالية وحصرها في ثمانية:(2)
متقارب جدا |
من20 إلى 25سم |
همس خفيف-سري جدا |
متقارب |
من 20 إلى 30سم |
همس مسموع-حميم |
مجاور |
من30 إلى50سم |
في الداخل صوت منخفض، في الخارج ملء الصوت-حميم |
حيادي |
من50إلى90سم |
صوت خفيض، مدى ضعيف، موضوع شخصي |
حيادي |
1.30 م-1.50م |
ملء الصوت-موضوع غير شخصي |
مسافة عامة |
1.60م-2.40م |
ملء الصوت وبفخامة خفيفة-معلومات عامة
مؤداة-الحديث على فريق أو مجموعة |
عبر الغرفة |
2.40-6م |
صوت عال ليسمعها غير المتحدث معه |
بما يتجاوز الحدود |
6-30م |
صوت عال-تحيات من بعيد- رحيل الخ |
يقول غيرو معلقا على هذه المسافات:"ونخطىء إذا ظننا بأن
المسافة بين المتحادثين يحددها علم الأصوات، والواقع أن
تلك المسافة اصطلاحية: فالأنكلوسكسونيون يبقون مسافة معينة
بين المتحادثين، بينما يسعى اللاتينيون ( أمريكا وأوربا)
إلى اختصارها، فينتج عن ذلك أن الأوائل يحسون بعدم ارتياح
وعدوانية تنبعث من محدثيهم اللاتين، بينما يخيل إلى هؤلاء
أن الأنكلوسكسونيين باردون ومتحفظون"3.
وذهب هال كذلك إلى هذا الرأي في تقدير المسافة دلاليا بين
الشعوب:" تبدو المسافة بين المتحدثين في أمريكا اللاتينية
مختصرة أكثر منها في الولايات المتحدة. والواقع أن الناس
لا يحسنون التكلم بارتياح إلا عن مسافة قريبة جدا.
وبالمقابل فإن هذا التقارب يثير في نفوس الأمريكيين
الشماليين عواطف جنسية وعدوانية. وينتج عن ذلك أنهم حين
يقتربون منا فإننا نتراجع. مما يجعلهم يستنتجون أننا
متشامخون أو باردون وغير صادقين. ونحن نتهمهم بدورنا بأنهم
ينفخون في وجوهنا ويحصروننا ويرشون من لعابهم على وجوهنا
حينما يتحدثون إلينا."4.
ويضيف الباحث هال:" عاش الأمريكيون الشماليون مدة طويلة في
أمريكا اللاتينية دون أن يدركوا معنى هذه المسافات فكانوا
يستخدمون خدعا شتى يواجهون بها حديث الجنوبيين. فيكمنون
وراء مكاتبهم أو يضعون الكراسي والطاولات أمامهم ليبقوا
الأمريكي – اللاتيني على مسافة يعتبرونها لائقة".
" وينتج عن ذلك أن الأمريكي – اللاتيني يتجاوز كل هذه
الحواجز حتى يصل على مسافة قريبة توحي له بالراحة في
التحدث"5.
وإذا كان للمسافة المكانية دلالات اجتماعية مهمة فإن الزمن
كذلك له دلالاته الاجتماعية والسيميائية. فإذا أخذنا على
سبيل المثال أنك مدعو إلى مقابلة المدير، فانتظارك وقتا
طويلا يدل على مرتبتك الاجتماعية بالمقارنة بين شخص أتى
بعدك ليرى المدير، فإذا هذا الأخير يخرج من مكتبه ويستقبله
استقبالا حارا ويدخله في الفور بينما يترجاك أن تنتظره بعض
الوقت أو يرجىء لقاءك إلى وقت آخر، كل هذا دليل على وجود
تراتبية اجتماعية وتفاوت بين الأشخاص والفئات والطبقات
الاجتماعية. ويقول غيرو" ندرك إلى أي مدى يعير الداعي إلى
حفلة اهتماما باستقبال الزائرين، حين يصرف أوقاتا متفتاوتة
في استقبالهم بحسب مرتبتهم الاجتماعية.
وهذا الزمن هو اصطلاحي محض ويمكن ألا يتخذ أبعادا مهمة.
ويمكن على سبيل المثال، لسفير أجنبي في بلد " موغول
الكبير" أن ينتظر مدة تصل إلى ثلاثة أشهر قبل أن يستقبله
الملك كما يمكن للنساء ألا يقبلن مدائح المعجب بهن إلا بعد
تمرين دقيق.
وللزمان والمكان دورهما الدلالي في الاحتفالات، والمواكب
والمآدب الكبرى. فالمسافة هي العلامة على العلاقة القائمة
بين المتحادثين ويمكن أن تتراوح هذه العلاقات بين المتحفظة
والحميمة بحسب قرب أو ابتعاد المتحادثين"6.
وهكذا تدل التموضعية على " مجموع الملاحظات والنظريات
المتعلقة باستعمال الإنسان للمجال من حيث إنتاج ثقافي
خاص"7.
ويعني كل هذا أن التموضعية هي دراسة للمسافة الزمكانية
التي تربط المتكلم بالمستمع، وبتعبير آخر دراسة المسافة
الموجودة بين المتواصلين وتموضعهم في المجال.
إن المسافة التي تربط بين المتواصلين حسب هال ليست
اعتباطية، بل هي غالبا ما تكون خاضعة لمجموعة من المعايير
والضوابط والقواعد، فهناك أنواع من المسافات ذات دلالات
معينة(كنا قد وضحناها في جدول المسافات)، فهناك مسافة ودية
تسمح بإجراء حديث ودي بين شخصين، وهناك مسافة شخصية تكمن
من ملاحظة سلوك الشخص المخاطب، ومسافة اجتماعية تستوجب
وجوب حاجز أو فاصل بين المتواصلين كمكتب أو شباك يؤشران
على علاقة غير شخصية، وهناك مسافة عمومية مقتربة عندما
يكون عدد المتخاطبين محدودا ومسافة عمومية مبتعدة عندما
يكون عدد المخاطبين كبيرا.
هذا، وإن المدرس ينظم المسافة بينه وبين التلاميذ، ففي
القسم تكون المسافة عمومية مقتربة مادام عدد التلاميذ
محدودا إلى حد ما، حيث ينتقل الأستاذ حرا من مكان إلى آخر
ويتحرك بطلاقة، فتارة يجلس في مكتبه أو وراء التلاميذ أو
متجولا بين الصفوف أو واقفا في مواجهة التلاميذ، بينما
المخاطبون يتموضعون في مجال ثابت على كراسيهم دون تغيير
لتموضعهم المكاني. أما في المجال الجامعي، فالمدرجات دليل
على المسافة العمومية البعيدة بغض النظر عن العدد الكبير
للطلبة، مما يعطي قيمة لمضمون الإرسالية اللغوية التي
يلقيها المدرس الجامعي مع تقلص السلوك غير اللغوي، أي
هيمنة ما هو معرفي على ما هو وجداني.
و ترتبط المسافة بين المتواصلين أساسا بالتموضع داخل
المجال والتموقع فيه، فاختيار الأماكن ليس أمرا اعتباطيا
وإنما يحمل دلالات سيكواجتماعية،أي دلالات عن العلاقة
الوجدانية بين المتواصلين أي علاقة الفرد بالجماعة على
مستوى التواصل. فاختيار تلميذ لمكان معين داخل الفصل
الدراسي يؤشر على الجوانب التالية:
أ- جانب نفسي: كإحساس التلميذ بالتهميش والرغبة في
الظهور أو الاختفاء أو المنافسة؛
ب- جانب وجداني: يتعلق بعلاقات التلميذ الذي اختار
مكانا مع التلاميذ أو مع المدرس بناء على علاقات الزمالة
أو المصلحة أو المنفعة ؛
ت- حوافز المادة وأهدافها: يغير التلميذ مكانه من
مادة إلى أخرى ، حيث يكون أكثر نشاطا و تحفيزا واختيار
للمكان المناسب في مادة محبوبة لديه على عكس مادة ينفر
منها، ويميز سكوفتشكي بين التموقعات التالية: وجه لوجه-
جنب لجنب- ظهر لظهر- وجه لوجه مع وجود فارق.
وعليه، فالتموضعية هي علم الفضاء الإنساني، فهال يحدد في
كتبه اللاحقة(8-9)
التموضعية كمجموعة من النظريات والملاحظات المتعلقة
باستعمال الإنسان الخاص للفضاء، أي استعمال الاجتماعي
والثقافي. ويوضحها ( التموضعية) في مقاله القيم المنشور في
سنة 1968(
PROXEMICS)
ك" دراسة للطريقة التي يبنين بها الإنسان لا شعوريا الفضاء
المصغر: ملاحظة المسافات المحترمة بين الناس في اتفاقاتهم
اليومية، وتنظيم الفضاء بواسطة الإنسان في بيته ومدينته"10.
ويقول دولاندسير ودولشمبرDE
LANDSHEERE ET DELCHAMBRE
" أن التفاعلات اللفظية أو غيرها تتموقع، في فضاء من
شواغله الأساسية تقديم إطار أولي دلالي: أن المسافة التي
تفصل بين فردين يتواصلان ليست اعتباطية أو بدون جدوى إنها
تشكل من التفاعل الناتج عن مسافة محترمة أو فاصلة، والأخرى
تعني التقارب الضروري الحاصل عن تقارب العلاقة
الفيزيائية"11.
وقد خص علماء العادات أهمية خاصة لهذه الإشكالية حيث يقول
روﭫي:"كل فرد يعطي لنفسه فضاء من المن حيث لا يمكن
تحمل أي تدخل غير قانوني من طرف الجار، هذه المسافة
الفردية تلخص ازدواجية المحاولة: المواجهة وتجنب
المتشابهات أو المساواة، إن أهمية الناتج عن
المواحهة/الهروب تحدد فضائية الذوات أو مجاليتها... إن هذا
النمط من المسافة ( أن هذه المساحة المأخوذة) تناسب نوعين
من التنظيم:
- الهرارشية
أو التراتبية الاجتماعية، حيث العلاقات تتحكم فيها علاقات
الهيمنة/الخضوع؛
- والوطنية
حيث الذوات تطالب بملكية وشرعية الأرض التي استحوذت عليها
أو تشغلها أو تدافع عنها"12.
وقريبا من اهتماماتنا الحالية يرى سومرsommer
أن في وضعية المقابلات تكون المسافة بين المتواصلين قائمة
وجها لوجه، بينما في وضعية التعاون والمشاركة الجماعية
تكون مسافة المتواصلين قائمة على جنب إلى جنب13.
1-الحـــركة
Le gestuelالجسدية:
وتهتم الحركة الجسدية أو الشخصية
Le gestuel-
وتعني حرفيا دراسة الحركات- بدراسة الإيماءات والحركات
والرقصات.
الاهتمام بالحركات اهتمام قديم وذو جذور قديمة. فداروين له
كتاب في هذا الصدد" التعبير عن العواطف عند الحيوان
والإنسان"(1873)، إلا أن كتاب راي بوردهوستيل
RAY BIRDWHISTELL(1952)"
مقدمة إلى الكينيسية" سجل السبق الحقيقي لدراسة منظمة
للحركات الجسدية؛ مما سيؤدي إلى ظهور" علم جديد يتناول
بالمعالجة ظواهر الجسد المتحرك وسلوكه المكتسب
والمبنين".14
وإليك خاصيات العلامات الحركية كما حددها راي بوردهوستيل
مقتبسا في تحديده النموذج اللساني:"إننا نقع على علامات
تشخيصية مختلفة. تلك هي حالة السمات التشخيصية الضميرية
المتضامنة والضمائر المبنينة بشكل تعارضي:
تباعد/تقارب:هو/أنا. هوذا/هو/ذاك إلخ... ويمكن للحركة
الموسعة ذاتها أن تكثر التشخيصية الضميرية فنحصل بذلك على
سمات تكاثرية: نحن، هم، الخ...
وبإمكاننا أن نميز سمات شفوية متضامنة وسمات ضميرية دائمة
الحركة، ومن بينها سمات الزمن. كما يجدر أن نذكر سمات
الوجهات:
تحت، فوق، خلف، أمام، خلال، الخ...
وكنا قد حللنا سابقا ودونّا حركات الرقص المختلفة. ولئن
تعدت هذه المسائل حدود محاولتنا الحالية فبمقدور القارىء
أن يرجع إلى العدد العاشر من مجلة"اللغات"languages
الصادر في حزيران من العام 1968 والمخصص للممارسات واللغات
الحركية"15.
ولقد وضع بيرهوستيل أبجدية معيارية غير لفظية نستخلص منها
مايلي:
1- ناحية
الفم(40 وحدة)
2- ناحية
الحواجب(6 وحدات)
3- ناحية
الأجفان والحواشي( 10 وحدات)
4- وجهة
النظر( 5 وحدات)
5- حركات
الرأس(14 وحدة)
6- وحدات
الوجهة السلوكية الأمامية(9 وحدات)
7- حركات
اليدين والسواعد( 40 وحدة)
8- حركات
الرجلين(7 وحدات)
9- حركات
العنق(3 وحدات)
ويمكن تجميع هذه الوحدات في المقولات والصنافات التالية:
1- ناحية
العينين وتشمل الحواجب والأجفان والحواشي
2- ناحية
الفم
3- حركات
الرأس
4- حركات
النظر
5- حركات
اليدين والأصابع والسواعد
6- حركات
الجسم
وتساعد الحركات الجسدية المستقلة عن اللغة المنطوقة في
عملية التواصل والتبادل ولاسيما في الأعمال المسرحية
والتواصل البيداغوجي.
هيئات الجسم:
Les Postures
نقصد هنا الهيئة التي يكون عليها الجسم في المكان والتي
نستفيد منها داخل القسم في جمع معلومات عن ردود الفعل تجاه
الرسالة والمرسل، وقد حددها جيمس
James في
أربع هيئات أساسية هي:
هيئة الانتباه:
حيث تتصلب الأعضاء ويميل الجسم والرأس إلى الأمام؛
هيئة الرفض:
حيث يدور الجسم أو الرأس في الاتجاه المعاكس للمخاطب؛
هيئة الامتداد:
وتشير إلى اعتزاز أو تكبر أو ازدراء عن طريق تقلب الجسم
وارتفاع الرأس؛
هيئة الانكماش:
حيث ينغلق مؤشرا على الخضوع أو إرادة التلقي أو الاكتئاب
والانهيار.16
الكنيسية منهجا لتحليل الحركات:
دفعت الأهمية التي يشكلها نظام الحركات والسلوك الجسدي
العلوم الإنسانية التي تهتم بقوانين وبنيات اللغة
والسيميوطيقا التي تهتم بالوحدات الدلالية إلى محاولة
البحث في هذا النظام. وقد وضعت جوليا كريستيفا في مقالها (
الحركية: الممارسة والتواصل) الإشكالية الفلسفية والمنهجية
التي قادت إلى بناء نماذج بنائية للحركات والسلوك الجسدي
داخل السيميوطيقا، فأبرزت أربع تقاط أساسية ومترابطة يمكن
أن تبين لنا زوايا إشكالية الحركات الجسدية كنظام
للتواصل.17
1- نموذج
لساني عام:
تميز البحث في الأنساق السيميوطيقية وفي نظام الدلالة أو
المعنى في الفكر الحديث بوجود تيارين أساسيين:
انطلق التيار الأول من مبادىء الفكر الإغريقي الأفلاطوني
معتبرا الصوت/اللغة كقيمة معبرة عن الفكرة ووسيلة عامة
للثقافة والآداب والفلسفة والعلم؛ لذلك بقيت الدلالة
مرتبطة بالصوت المنطوق، وكل ممارسة حركية مقصاة في نظام
السيميوطيقا، إنها فقط حشو ميكانيكي يرتبط بالصوت.
أما التيار الثاني، فقد بدأ يهتم بممارسة سيميوطيقية
مغايرة للغات المنطوقة، فالأبحاث الأنتروبولوجية التي
اهتمت بالحركات لدى الحضارات غير الأوربية وأبحاث حول
الحركات الحيوانية قاد إلى إعادة النظر في الممارسة
الحركية واعتبار المظاهر المرئية غير المنطوقة كالصورة
والخط والسلوك ذات نظام دلالي. ومن هذا المنطلق أصبح
التفكير اللساني المعاصر يبحث عن نماذج لسانية أكثر شمولية
تتبنى متونا أخرى غير اللغة.
" فإذا كانت اللسانيات، كما لاحظ جاكبسون، قد قاومت طويلا
من أجل أن تضم أصول الكلام ومن أجل أن تدمج الدلالات
اللسانية، فقد آن الأوان لضم الحركات وإدماج الإنتاجية في
علم الدلالة"18.
وعلى هذا الأساس فإن الدراسة العلمية للحركات والجسد ذات
أهمية فلسفية ومنهجية حاسمة في بناء نموذج لساني عام، و
قادت هذه الأهمية إلى تأسيس علم جديد ألا وهو الكنيسية.
تأسيس علم جديد : الكنيسية:
يمكن تعريف الكنيسية بأنها هي " الميتودولوجيا التي تدرس
مظاهر التواصل في السلوك للمتعلم والمبنين للجسد خلال
حركة"19.
وتعتبر أبحاث داروين في السلوك الإنساني والحيواني بمثابة
المنطلقات الأولى لهذه المنهجية إلا ان أطروحة سابير حول
علاقة الشفرة الحركية بالتواصل شكلت التأسيس الفعلي
للكنيسية، فجاءت أبحاث أخرى قام بها الأنتروبولوجيون
والسيكولوجيون والسلوكيون والمحللون النفسانيون لنظام
الحركات، وقادت هذه الجهود إلى ضرورة بناء علم جديد له
منهجيته الخاصة في البحث عن قوانين حركات الجسد. ومن
بين الأسماء التي تذكرها كريستيفا في هذا الميدان:
برردهوستيل وبلومفيلد
وأوزگود ومرغريت ميد وهال وتراجروسميث وويسطون لابارH.L.SMITH/RAY
BIRDWHISTELL/WESTON LA BARRE/MARGARED
MEAD/BLOOMFIELD/TRAGER/EDWARDT HALL/CH.OSGOOD.
وقد نشطت هذه الحركة العلمية في الولايات المتحدة
الأمريكية مع السلوكية في علم النفس، والتوزيعية في
اللسانيات، وأبحاث الأنتروبولوجيين.
الكنيسية واللسانيات:
ذكرنا سابقا سيطرة البحث في اللغة المنطوقة على اللسانيات
إذ لم تكن الحركات الجسدية سوى آلية تابعة للتعبير اللغوي
أثناء التواصل؛ لأنها اعتبرت غير خاضعة للمقولات النحوية
كالفعل والاسم والصفة. وعندما اكتشفت الأبحاث أن اللغة
المنطوقة ليست سوى مظهر متأخر من مظاهر التعبير الإنساني،
وأن التعبير بالميم والحركات سابق على التعبير اللغوي.
وأصبح الاهتمام بحركات الجسد ينطلق من اعتباره نظاما
مستقلا ومبنينا، ومن هنا اعتبرت الكنيسية الأمريكية أن
اللغة المنطوقة ليست هي نظام التواصل الوحيد، بل واحد من
أنظمة التواصل الموجودة، ويعني هذا الاعتراف باستقلالية
السلوك الجسدي داخل نظام التواصل العام، وبإمكانية وصف
قواعده وبنياته. غير أن الكنيسيةاستفادت مما وصلت إليه
جهود اللسانيين الذين قطعوا خطوات منهجية كبيرة في بناء
المناهج والنماذج اللسانية اللغوية.
وهكذا فإن الإقرار باستقلالية الحركية الجسدية كنظام
للدلالة والإنتاجية لا يقصي إمكانية الاستفادة من إجراءات
البحث المنهجي اللساني ومقولاته اللغوية.
الشفرة الحركية:
تسعى الكنيسية إلى البحث " عن العناصر المتكررة خلال
التواصل وتجريدها ثم اختبار دلالتها البنائية، ويتعلق
الأمر هنا بعزل العنصر الدلالي من هيئة أو حركة، في علاقة
بنية عامة، وبتكرار هذا الإجراء يتم بناء شفرة ذات أجزاء
متدرجة"20.
تلخص هذه المقولة الإجراء المنهجي الذي تقوم به الكنيسية
قصد بناء شفرة حركية، فقد اتجه البحث إلى عزل الوحدات
الصغرى في حركات الجسد واستخراج نظامها داخل وحدات أشمل
وأكبر، وذلك من أجل الوصول إلى وضع شفرة حركية تماثل
الشفرة اللغوية التي تتكون من الفونيمات والمورفيمات
والمونيمات.
وتعتبر اطروحة برودهوستيل من الأمثلة الواضحة على هذه
البحوث الكنيسية ففي مقابل الفونيم، الوحدة الصوتية الصغرى
في اللغة، وضع هذا الباحث تسمية كينيم
Kinème
للإشارة إلى الوحدة الصغرى في شفرة اللغة الحركية وذلك مثل
حركة رفع وخفض الحاجب أو اليد أو الرأس، وتناسق الكنيمات
فيما بينها يكون وحدة ذات درجة أعلى من الكينيم سماها
الكينيمورفيمKinèmorphème،
وهي تقابل الوحدة الصرفية ( المورفيم) في اللغة المنطوقة،
وذلك مثل التناسق بين حركة اليد والرأس معا.
ويتناسق الكينيمورفيمان بدورهما بشكل مركب ليكونا بناء
كينومورفيما مركبا
Constructions kinèmorphiques complexes
يشكل بنية لشفرة الحركات مثل البنيات اللغوية المكونة من
كلمات وجمل وفقرات.
ومن خلال هذه الأمثلة، يمكن أن نلمس التوجه المنهجي للعلم
الذي يهتم بنظام الحركات الجسدية الذي يمكن أن نستفيد من
نتائجه في دراسة مقولات التواصل غير اللفظي. ويبدو جليا أن
علم الحركات الجسدية تأثر كثيرا بالسيميولوجيا واللسانيات
وعلم النفس والأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع والأثنوغرافيا.
2- الميم
Mimique
أ- التعبيرات الجسدية:
نعني بالميم كل ما يتعلق بتعابير الوجه والنظر والتي تترجم
الانفعالات مثل الحزن والخوف... وكل شخص يحمل سمات مميزة
في وجهه، لذا فإن وجه المدرس يثير انتباه التلميذ إذ أن
الكيفية التي ينظر بها إلى التلاميذ تؤشر على أمر أو تحفيز
أو ترهيب، فمن خلال النظر يبعث المدرس تلميذا على المساهمة
أو المبادرة أو على الانكماش أو الانغلاق.
يركز فن الميم أساسا على الهيئة الجسدية والحركات بعيدا عن
كل تعبير لفظي يساعد بدون شك على وعي تام بالقدرة المسبقة
المثيرة وحدود الحركية. والميم كذلك تعبير عن الفكرة
بواسطة الحركة. وقد عرفه اليونانيون والرومان عندما اتخذوه
نوعا من الكوميديا الشعبية حيث يقلد الكاتب خصائص وقيم
الشخصيات. ويعد ممثل البانتوميم ممثلا متخصصا في التقليد
والمحاكاة.
ويقدم لاوتونLawton
في كتابه ( نظرية الميم وتطبيق الحركية التعبيرية)- (21)-
تصنيفا توضيحيا للمكونات الميمية حيث يميز بين ثلاثة
أنواع:
2- التعبير
الطبيعي للانفعالات
3- الحركات
الاشتغالية التي تصف مختلف النشاطات( اللعب والعمل)
4- الحركات
الاصطلاحية التي تشمل ثلاثة أنواع تحتية:
أ- الحركات
السردية
المستعملة في مجال التبادلات اللفظية؛
ب- الحركات
الوصفية
التي تسمح للفنان للتعبير عما يرى، ويسمع ويحس ويلمس.
وتمكن هذه الحركات أيضا من وصف الأحداث أو الظروف الواقعة
خارج المشهد.
ت- الحركات
الانفعالية
المشتقة من الانفعالات الطبيعية على سبيل المثال.
ويميز لاوتون سبعة أنشطة جسدية معبرة عن انفعالات طبيعية:
1- نحو
الأمام:
للسلام والقبول والاستفسار أو التعبير عن المفاجأة؛
2- نحو
الخلف:
للرقص والتعبير عن الرفض وإظهار الكراهية والنفور والخوف؛
3- نحو
الأعلى أو الخارج:
وذلك للتعبير عن جميع الانفعالات المفردة أو الضاحكة؛
4- نحو
الأسفل أو الداخل:
وذلك لإظهار جميع الانفعالات الحزينة، ويشير الداخل بمفرده
إلى حالة التعب؛
5- الهيئة
المنفتحة:
هي علامة الطيبوبة والأمانة؛
6- الهيئة
المنغلقة المنكمشة:
مثال جمع اليدين مصاحبة بحركات سريعة غير ظاهرة هي علامة
على الاحتيال والتخفية واستعمال الذكاء؛
7- تقديم
الظهر:
يعني نهاية حلقة أو أخذ قرار أو تغيير في الهيئات.
ب- السرعة / المشي:
تنقسم السرعة إلى سبعة أنواع:
1- عادية
2- بطيئة
تعبر عن الهدوء والاحترام
3- سريعة
وهي علامة القلق والتوتر والتسرع
4- ثقيلة
لإظهار معارضة ما
5- متعبة
مشخصة عن طريق تخفيض الكتفين ورمي الرجلين
6- مخيفة
تعلن عبر إيقاع السرعة والحركات السريعة الخطوات
7- هادئة
وهي غالبا ما تترجم عبر الانتقالات المنحرفة أو المتغيرة
للاتجاهات22.
وما حددناه هنا للاوتون هو جزء مصغر من فن الميم؛ لأن
لاوتون ألف معجما يربو على 500 وصف للحركات الاتفاقية التي
تناسب السماء والنعوت والفعال والأدوات أو الروابط.
ث- النظـــــــــــــر:
يلعب النظر دورا مهما في عملية التواصل غير اللفظي خاصة
أثناء التعارف والتواصل في التعبير عن المشاعر والأحاسيس.
وقد تكون النظرة نظرة غمز بالعيون أو نظرة شزراء أو نظرة
استهزاء وسخرية أو نظرة اندهاش.
خاتمة :
يتبين لنا مما سلف ذكره، أن التواصل نوعان: تواصل لفظي
وتواصل غير لفظي. وقد توصلنا كذلك أن السلوكات التواصلية
غير اللفظية لها أهمية كبرى في شتى الميادين ولاسيما
الميدان التربوي. وتساعد هذه السلوكات المرئية البصرية
التواصل اللفظي في أداء دوره اللساني والسيميائي بشكل
كامل. كما تقوم هذه السلوكات بتوضيح إرسالياته الشفوية حيث
تخدمها مباشرة وذلك عن طريق تجسيدها وتفسيرها وتنغيمها
والتركيز عليها. ويساعد أثرها في كثير من الأحيان على فهم
جيد. ويختلف هذا الأثر حسب الخصائص المعرفية والوجدانية
للأفراد, ونجد في كثير من الأحيان السلوكات غير اللفظية
دوالا مستقلة وخصوصا أنها تمثل بطريقة مباشرة أو عبر
اصطلاح ثقافي الأشكال والكينمات والحركات أو الأفعال
والخصائص والحالات.
وعليه، فإن علم التواصل علم ضروري لفهم الإرساليات البشرية
المنطوقة وغير المنطوقة، بل وفهم الإرساليات الأخرى في
مجالات متعددة كالاقتصاد وعلم النفس والطب والفلسفة
والجماليات.....