فِي كُلِّ حُضُورِ عَتْمَةٍ، بَعْدَ انْهِيَارِ جِدَارِ
ذَرَّاتِ الضَّوْءِ عَلَى مَنْ يَجلِسُ قُرْبَ سَفْحَةِ
الرَّطْبِ، أَصْرُخُ فِي دَاخِلِي وَلِدَاخِلِي:
(لَيْتَهَا الأَخِيرَةُ). هكَذَا، بِبَسَاطَةٍ
مُؤَكَّدَةٍ، أَقِفُ مِنْ بَلَلِ المَكَانِ عَلَى
نَحِيلَتَيْنِ مُكَهْرَبَتَيْنِ كَأَنَّ فِي
شَرَايِينِهِمَا سَرَتْ قَوَافِلُ نَمْلٍ مُتَتَابِعَةٍ،
تَعْرِفُ هَدَفَهَا إِلاَّ كِلاَنَا؛ أَنَا الشَّاعِرُ
وَأَنَا الأَنَا.
وَلأَيْنَ يُمْكِنُ الصُّعُودُ أَوِ النُّزُولُ أَوِ
الانْتِشَاُر فِي دَائِرَةٍ أَشْبَهُ مَا تَكُونُ
بِحَلَبَةِ حِصَانٍ جَامِحٍ، يُدِيرُ خَبَبَهُ
وَخَيْبَتَهُ عَكْسِيًّا، ضِدَّ مَا تُفْرِزُهُ
الْوَحْدَةُ المُبَعْثَرَةُ فِي شَتَّى الاتِّجَاهَاتِ
المَأْلُوفَةِ المَوْصُوفَةِ وَغَيْرِهَا؟ وَأَيْنَ؟
وَكَيْفَ؟ وَبَعْدُ؟ وَإِلَى مَتَى؟... وَعَلَامَاتُ
اسْتِفْهَامٍ كَثِيرَةٌ تَبُوحُ بِتَشْكِيلٍ وَاضِحِ
الْغُمُوضِ، فِي عَصْرٍ سَهْلٍ لِلْكَثِيرِينَ إِلاَّ
لِمَنْ أَخْطَأَ، عَامِدًا مُتَعَمِّدًا، أَنْ يَفْتَحَ
يَدَهُ لِيُسَلِّمَ عَلَى مَنْ هُمْ خَارِجَ الإِطَارِ
المُبَاحِ مِنَ الصَّبَاحِ، إِلَى الرِّيَاحِ، إِلَى
الْغَيْبُوبَةِ.
يَقُولُ التَّفَاؤُلُ بِكُلِّ حَيَاءٍ: أُنْظُرْ إِلَى
الأَمَامِ، سَتَجِدُ مَاءً رَقْرَاقًا بَيْنَ حَصَى
الطَّرِيقِ الَّتِي تَعْتَلِيهَا خُطُوَاتُكَ الآنَ.
وَيَقُولُ التَّشَاؤُمُ بِكُلِّ فَخْرٍ: أُنْظُرْ إِلَى
الْوَرَاءِ، سَتَجِدُ بُحَيْرَةً كَانَتْ عَذْبَةً،
عَكَّرَتْهَا خُطُوَاتُ حَوَافِرِ الآخَرِينَ، وَلَنْ
تَجِدَ بَيْنَ الْحَصَى سِوَى مَاءٍ تَجَرَّعُوهُ فِي
حَالَةِ انْتِشَاءٍ، ثُمَّ نَامُوا يَقِظِينَ عَلَى مَاضٍ
مَلِيءٍ بِالمَرَاسِيمِ المُؤَجّلَةِ. وَيَقُولُ
الشَّاعِرُ بِكُلِّ نَصٍّ: إِذًا لِتَمْنَحْنِي
الرَّحْمَةُ سَهْمَهَا الْوَحِيدَ فِي مَفَاصِلِي،
وَلْتَرْحَمْنِي مِنْ هذِهِ المَرَايَا الَّتِي لا
تَتَّسِعُ إِلاَّ لِخُدُوشِهَا فَقَطْ، وَصُورَتِهِمِ
المُتَحَرِّكَةِ عَلَى المَقْعَدِ الْوَاحِدِ. لَنْ
أَسْتَمْطِرَ أَكْثَرَ مِنْ هذَا، وَعَلَيْهَا أَنْ
تَفْعَلَ، وَعَلَيَّ صِدْقُ النَّوَايَا.
لَمْ أَذْهَبْ إِلَيْهِ كَيْ أَعُودَ دُونَهُ؛ هذَا
الَّذِي يَشْمَخُ مِثْلَ صَقْرٍ عَلَى قِمَّةِ جَبَلٍ
عَالٍ، يَرْفُضُ النُّزُولَ كَيْ لاَ (تَنْتَصِرَ)
أَحْذِيَةُ المَنْفَعَةِ عَلَى غَنَائِمَ لَيْسَتْ لَهَا.
لكِنْ، أَيُّهَا الْبَوْحُ الْغَامِضُ: انْتَصَرْتُ عَلَى
نَفْسِي بَعْدَ جِدَالِ لَذِيذِ الْحَيَاةِ مَعَ نَظْرَتِي
الْحَامِضِيَّةِ لِلْبَقَاءِ أَعْزَلَ، إِلاَّ مِنْ
كَلِمَاتِي الَّتِي حَاوَلْتُ أَنْ أُرِيدَ.
مَنْ يَسْتَطِيعُ إِقْنَاعِي بَعْدَ أَنْهَارِ الشِّعْرِ
الْكَثِيرَةِ- الْكَبِيرَةِ الَّتِي سَكَبَهَا
الشُّعَرَاءُ عَلَى الْعَالَمِ لِغَسْلِهِ مِنْ خَرَابِهِ،
بِعِبَارَةِ [وِلْيَمْ كَارْلُوسْ وِلْيَامزْ]: "فِي
الْقَصَائِدِ وَحْدَهَا نُعِيدُ بِنَاءَ الْعَالَمَ "؟
مِنَ الأَجْدَى، الآنَ، أَنْ أُعِيدَ قِرَاءَةَ آخِرِ
قَصِيدَةِ "المَوْتِ وَالشُّهْرَةِ " لِلشَّاعِرِ
الرَّاحِلِ [أَلنْ غِنْسبِرغْ] الَّذِي ظَلَّ يَكْتُبُ
الشِّعْرَ حَتَّى أَنْفَاسَهِ الأَخِيرَةَ: "الْجَمِيعُ
أَدْرَكُوا أَنَّهُم جُزْءٌ مِنَ "التَّارِيخِ" مَا عَدَا
المُتَوَفَّى أَنَا الَّذِي لَمْ أَعْرِفْ بِالضَّبْطِ مَا
الَّذِي يَحْدُثُ وَأَنَا عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ".
-: مَا الَّذِي كَانَ يَحْدُثُ؟
-: الَّذِي كَانَ يَحْدُثُ.
مَا الَّذِي يَدْفَعُ الشَّاعِرَ كَيْ يَسْقُطَ فِي
إِنَائِهِ الصَّلْصَالِيِّ مَرَّةً أُخْرَى؟
حِينَمَا يُشِعُّ مَطْلَعُ الْقَصِيدَةِ فَجْأَةً بَيْنَ
عَيْنَيْهِ، وَتَبْدَأُ بِتَقْشِيرِ جَسَدِهَا دَاخِلَ
زُجَاجِ مُخَيَّلِتِهِ، ثُمَّ تُسْلِمُ لـَهُ الرُّوحَ،
أَيْضًا، بَعْدَ مُرَاوَغَةٍ صَعْبَةٍ وَتَمَنُّعٍ
مُصْطَنَعٍ، يَفِرُّ الشَّاعِرُ إِلَيْهَا كَيْ يَقْبِضَ
عَلَى خُلاَصَةِ سَاعَاتِهِ المُؤَرِّقَةِ، وَفَرَحِهِ
الْخَائِنِ. وَحِينَ تُنْشَرُ الْقَصِيدَةُ عَلَى سَطْحِ
وَرَقٍ مَا، يَتَحَوَّلُ هذَا الْوَرَقُ إِلَى كَفَنٍ
مُؤَجَّلٍ. وَحِينَ يَعْصُرُهَا كِتَابٌ بَيْنَ
لَوْحَيْهِ، يَتَحَوَّلُ هذَا الْكِتَابُ إِلَى تَابُوتٍ
جَمِيلٍ... وَأَيْضًا، حِينَ تَبْقَى دَاخِلَ زُجَاجِ
المُخَيَّلَةِ وَغُرَفِ الذَّاكِرَةِ وَلاَ تَخْرُجُ
فَإِنَّهَا تَقْتُلُ صَاحِبَهَا.
إِذًا.. مَاذَا أَفْعَلُ بِعِبَارَةِ الشَّاعِرِ [هِنْرِي
مِيشُو] الَّتِي مَا تَزَالُ تَنَالُ مِنِّي، بَعْدَ كُلِّ
مَا أَشْعُرُ أَنَّهُ نِهَايَةُ قَصِيدَةٍ، كَأَنِّي
قَاتِلُ أَبِيهَا: "إِنَّ مُجَرَّدَ التَّفْكِيرِ
بِكِتَابَةِ قَصِيدَةٍ يَكْفِي لِقَتْلِهَا"؟
"لَيْتَهَا الأَخِيرَةُ"..
أُكَرِّرُهَا لِأَخْرُجَ فِي إِجَازَةٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى
الْهَوَاءِ وَالْفَضَاءِ، وَالمَاءِ، وَالْبَرِّ
الذَّهَبِيِّ الَّذِي يَشْكُرُ الْهَاوِيَةَ عَلَى صَفْوِ
أَوْصَافِهَا. رُبَّمَا تَعْتَذِرُ فُوَّهَةُ الْقَبْرِ
عَنْ أَخْطَائِهَا الأَرْبَعْمَائِةِ قَبْلَ
الأَرْبَعِينَ، وَرُبَّمَا أَعْتَذِرُ عَنْ حَيَاةِ شِعْرٍ
لَيْسَتْ هذِهِ سَاعَاتِ حُضُورِهَا المُسْتَنفَرَةِ
رُبَّمَا.. لكِنْ، هِيَ الْحِكَايَةُ هكَذَا فِي هكَذَا
حَيَاةٍ.
لأَهْرُبَ، الآنَ، مِنْ فَدَاحَةِ الأَفْعَالِ
الشِّرِّيرَةِ بِشُخُوصِهَا الْعَارِيَةِ، إِلَى لِبَاسِي
فِي الْحَيَاةِ: أَيَّتُهَا المَرْأَةُ السَّاكِنَةُ فِي
تَبَعْثُرِ جِهَاتِي الَّتِي لَمْ أَعْرِفْ بَعْدُ لَمَّ
خُيُوطِهَا الطَّائِرَةِ دُونَ طَائِرِي.. يَا أُنْثَايَ
المُحَصَّنَةَ ضِدَّ فُسْحَةِ زَوَالِي مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهَا.. أَضَعُنِي وَصِيَّةً بَيْنَ يَدَيْكِ،
فَتَقَبَّلِيهَا عُذْرًا بِحَجْمِ اللَّحَظَاتِ الَّتِي
اشْتَعَلَتْ قَبْلَ لَحَظَاتِ الْكِتَابَةِ هذِهِ، فَأَنَا
مُنْذُ فَعَلْتُ الْقَصِيدَةَ الأُولَى عَلَى الْفَضَاءِ
الرَّمَادِيِّ، حَاوَلْتُ أَنْ لا أَفْعَلَ الثَّانِيَةَ،
إِنَّهَا الْغِوَايَةُ أَيَّتُهَا (الْهُدَى) إِلَى
الطَّرِيقِ إِلَيْكِ.
أَعْرِفُ أَنَّ فَنَّ تَصْفِيفِ الشَّعْرِ فِي عَصْرِ
الْخَرَابِ الْكَبِيرِ أَجْدَى مِنْ فَنِّ تَسْطِيرِ
الشِّعْرِ، لكِنْ لاَ أَعْرِفُ كَيْفَ احْتَوَانِي
الثَّانِي رَغْمَ رِحْلَتِهِ الَّتِي عَرَفَتْ جُلُودِي
مِنَ الدَّاخِلِ أَعْشَابَهَا الشَّائِكَةَ.
سَأُحَاوِلُ أَنْ أُطْفِئَ تِلْكَ الْجَمْرَةَ
المُذْهِلَةَ الَّتِي لاَ تَزَالُ تَأْخُذُ حِصَّتِي مِنَ
(الأُوكْسُجِينِ) المُخَصَّصِ لاحْتِرَاقِي، لِيَرْتَاحَ
الْحِصَانُ مِنْ سَوْطيَ الرِّيشِيِّ المَغْمُوسِ بِمَاءِ
الْقَلْبِ، وَلأَرْتَاحَ (؟!) مِنْ قَلَقٍ اسْمُهُ
الشِّعْرُ، وَعَذَابٍ اسْمُهُ الْقَصِيدَةُ الأَخِيرَةُ.
هَلْ آنَ أَنْ أَمْشِي مَعِي
مِنْ حَافَّةِ النِّسْيَانِ حَتَّى الْهَاوِيَةْ؟
... (أَصْحُو هُنَا)...
شِعْرًا أَرَى فِي مَطْلَعِي،
يَبْدُو غُبَارُ الطَّلْحِ يَسْبَحُ نَحْوَ كَأْسِ
التَّالِيَةْ.
Muhammad.h.rishah@gmail.com