في القرن السابع الميلادي، و في جزيرة العرب (بنَجْد
تحديدا)،تدور حكاية فتىً و فتاةٍ مُنعا من الحب من قبل
عائلتيْهما. و كاد اليأس أن يقودهما إلى الموت من جراء
ذلك. و قد عُرف الفتى من خلال الجنون و الإنتاج الشعري
الذي يعد من أقدم و أجمل ما عرفته ساحة الأدب العالمي في
مجال العشق(1).
و بخصوص تعريف هذا الحب، نقول إنه كان يتمحّض لموضة العصر.
ذلك بأن موكبا من الأزواج، كثير الشهرة أو قليلها، يعيد
،إذاً، إنتاج نفس نمط حكاية حب كامل و مستحيل. و
لْــنُعْطِ لهذا الهوى صفة "العُذرية"، انطـلاقاً من قبيلة
بني عُـذرة التي مورس فيها أصلا. و يجب أن نسجل أنه إذا
كان هذا الحبُّ لم يتحقق على أرض الواقع باجتماع العُشّاق،
فإنه مع ذلك يُعاش في الحلم. ببساطة، يُطرح ،بثباتٍ، إذا
كانت ثمة حريةٌ لبلوغ نهاياتها، لتحقق ذلك مهلة زمنية
طويلة كثيرا أو قليلا. وهكذا، فقد تخيل بنو عذرة أن الحب
العفيف يختلف عن الحب "الأفلاطوني" الذي يتنازل، مطلقاً،
عن اتحاد الأجسام بالأرواح.
و تحت تأثير الحب العفيف، يحمل المجنون أول متغيِّر؛ و هو
القِوام. ذلك بأن خطابه الشعري مكرَّس كليةً للحب، و
لآماله، و لمعاناته الشخصية بعيدا عن المضمار حيث الآخرون
ما يزالون محاصَرين بجملة من الإكراهات المفروضة عليهم
فرضاً (هجو القبيلة المُعادية، الدفاع عن قبيلة البطل و عن
البطل نفسِه). إن القطيعة مع الفن العريق؛ القصيدةِ
مستهْلكةٌ جذرياً؛ بحيث إنه لا شيء هنا يستدعي ،من قريب أو
من بعيد، شعرَ الصحراء التقليديَّ، و تنظيمَه، و موضوعاتِه
أو شفرتَه. و على سبيل الاستنتاج، فإن هذا الشعر الجديدَ -
و كذا السيرة الأسطورية المنسوجة حول المجنون و ليلى-،
بالتأكيد و في هذه المرحلة، إنساني، و لا شيء غير ذلك. و
للإثبات، فإن الأثر الديني الخفي الممارَس ها هنا
يُسْتدْعى، خصيصاً، للدفاع عن الحب و التناجي أحياناً مع
قـُوى غيبيةٍ.
إن هناك متغيِّــراً آخرَ ارتبط بالمجنون؛ و هو أن الشعر
اقتحم مجال الحب و خاض فيه خوضا عميقا. لقد غدا الحب و
الشعر في مستوى نفس المُطْلَـق. و إذا نظرنا، إذاً، إلى
الأشياء ، من كثبٍ، فإنّا نلحظ أنه لا شيء يعارض، مبدئيا،
التّحابّ بين هذين الطفلين؛ فلا السن، و لا الوضعية
المادية يَحُولان دون توادِّهما؛ ذلك بأن الفتى حَدَثٌ، و
المستوى الاقتصادي لعائلتيِ الطفلين متساوٍ. بل إن كل شيء
، بالمقابل، يدفع إلى اجتماع المجنون و ليلى، ثم إن حالة
الأعمام الأشِقّاء القائمة بينهما تستلزم نمطا زَواجياً
متميزا في هذه الحقبة و طويلَ الأمد في الغالب أيضاً.
تـُرى ماذا فعل المجنون؟. فعِوَض أن ينتظر قيام العائلتين
بترتيب شؤون الزواج، و عوض أن يهدّئ من قلقه و يتفاءل
بالتغنّي باسمٍ من أسامي ليلى المستعارة التي راجت في
الشعر التقليدي... أقر علناً بأنه متيَّم، و ابتكر اسم
"ليلى"، و كشف معناه بصراحة. و هكذا، أدرك مصطلح
"التّشْبِيب" هذه الوقاحة المتناهية التي جعلت الناس
ينظرون إلى المرأة بخزْي عام. و بالنسبة إلى المجنون،
يُلاحظ أن الشعر هو التعبير الضروري عن حقيقة الحب الذي،
بدونها، يظلّ رسالة ميتةً. لكن، إذا غدا الشعرُ، بإرادة
مبدِعه، خادما للحب، فإنه يتبوّأ ،عمَلياً، المنزلة
الأولى، فيقضي عليه، و يدمّره. و هذا كله ثورة لم تتمَّ.
و لفهم ما حدث، فإننا ملزَمون بإلقاء نظرة عَجْلى على
المحيط السوسيو-ثقافي لهذه الحكاية و لهذا الشعر المواكِب
لها. إن جداليْن اثنين ،مجّانيين بالدرجة الأولى، يشْغلان
صفحاتٍ كثيرةً من كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني
(ق10م/ ق4هـ) حول واحدة من الأنطولوجيات الأساسية المرتبطة
بأسطورة المجنون و ليلى... هل يستحق المجنون لقبَه هذا؟
أين تجد الأفضل في جزيرة العرب آنذاك؟ إن الإجابة عن ثاني
السؤالين، و التي تتمحّض لقبيلة المجنون نفسِه؛ بني عامر
بن صعصعة، مضاعَفة بالنسبة إلى الأخرى المتمحْوِرة حول
شخصية المجنون و حقيقتها. و كيفما كانتْ متغيرات الأجوبة،
فإن الواقع يثبت أن المجنون ليس كسائر المََجَانين، و أن
تسميته تلك يجب أن تكون في الأخير ،حتْماً أو بفارقٍ،
حكْراً عليه. و ليس الشاعر مجنونا فقطّ لأنه يسكنه الجنّ
الذي يُلهِمه قرْض الشعر، و لكن لأن سلوكه متميز بشكل أو
بآخر؛ و أحيانا، يتجاوز الحدود ليدنوَ من المعقول.
لقد طرح تصنيفُ المجنون ،مرةً، بالنظر إلى الوقائع؛ كما
رأى ذلك ،بشكل جيد جداً، الطاهر لبيب الجديدي (2) الذي فتح
الباب ها هنا على مصراعيْه، فهذا الضرب من الحكايات نشأ في
قبائلَ مهمّشةٍ جداً. و قد ظلت هذه القبائل ، من الناحية
التاريخية، في بلاد العرب محرومة من التوسُّع (الفُـتوح)
الذي مكّن جماعاتٍ أخرى ،بمجيء الإسلام، من الانتشار خارج
شبه الجزيرة العربية في اتجاه تحقيق المجد و السؤدد. و من
ناحية الموقع الجغرافي، فإن تحركات تلك القبائل كانت
بمنْأىً عن تجارة القوافل التي شكل التحكم فيها بالنسبة
إلى القبائل الأخرى مصدرا ثرًّا للمداخيل. و من هنا، نفهم
،إذاً، أن القبائل الهامشية كانت تريد ،بدافعٍ من إرادة
إثبات الوجود، أن تترك ،عن طريق المسلك الثقافي، أثراً
يرفضه منْطق التاريخ و الاقتصاد... تُرى ،من أين يتأتّى
لفظاظة النقاشات عن رفعة مجموعة أو أخرى ملامسة جوهر الحب
العفيف؟ !
و لكن ما الذي يُعتقَد في المجنون؟ يمكن أن نتصور ،جيداً،
من منظور تلك القبائل نفسها، احتجاجاً، و أيضا ضرْباً من
التمرد على القدَر المحتوم. إن العيش على الشرف المقدَّس
المصحَّح و المقوَّم من لدن الدين الجديد (الإسلام) جعل
هذه القبائل واثقة من أن احترام ذلك المقدس و خدمته لا
يقدم لها ،في المآل، أي شيء. و انطلاقا من سلوك المجنون
ثورةً حبية، من أي طريقة يمكن أن نضع المقدس نفسَه موضع
السبب، يمكن أن نقول إن الأمر لا يتعلق سوى بالحب و لكن له
قيمة المِثال، إذ إنه محمول من قِبل واحدٍ من أبرز شخصيات
الجماعة؛ ألاَ و هو الشاعر. كما أن له أيضا قيمة الرمز
،ربما لنزاع أعمّ؛ هو ذلك الذي يطرح، ما وراء النقطة
الواضحة المتعلقة بإدارة العلاقات العاطفية في كنف
الجماعة، سؤال المقدس، عموماً، من أجل المستقبل.
و منذئذٍ، فتحت شخصية المجنون كامل حاجتها. ففي مؤسسةٍ أخذ
،بجلاءٍ و انطلاقا من نفس أسس مجتمع - و ربما على غرارها،
الإسلام الذي أصبح دعامة من الدعامات- فإنه من الخطورة
بمكانٍ مهاجمة الجبهة. و بالمقابل، فالمجنون الذي لا
يتكلم كباقي الناس- تماما كالأعمى غيرِ المقبول في التعبير
الكتابي، أو الشاعر، المسكون بجانِّه - هذا المجنون، إذاً،
بمعية الشاعر الذي يضاعفه في هذا الظرف، يستطيع أن يقول كل
شيء، و أن يأوي خلف صورته/الجنون؛ ليطعن في صلاحية كلامه،
إذا ما الأشياءُ أُذكِيتْ جَذوتها، متذرِّعاً بجنونه، و
لكن بترْكه يتكلم؛ الأمرُ الذي يعد ،قبل كل شيءٍ، جوهرياً
جدا.
و آخرُ سلسلة من الأسئلة المتصلة بسيرة المجنون، من خلال
أعمامه و سائر أضرابه؛ مثل تريستان، و روميو، و ويرذر...
إن أولَ تحقُّقٍ مع المجنون يكمن في أن العرب قد طرحوا
موضوعا مهما، يتجلى في معادلة، إذا أوثِرت، بين حبٍّ كامل
و حب مستحيل. و لكن شريطة إبلاغ الآخرين سببَ هذه
الاستحالة. يمر كل شيء و كأن ، إذا ما الورعُ ترك
المتحابّين العزاء للاعتقاد إن فشل حبهم، الخطأ ليس
خطأهم... إن ثمة كاتبا وحيدا ،في حدود اطّلاعي على الأقل،
تناول الفريق المقابل؛ و يتعلق الأمر بألبير كوهن الذي
تخيَّل في عمله "كريمة السيد" عشيقين متحرِّريْن تمامَ
التحرر للتّحابّ فيما بينهما، و اللذين أخفقا إلى غاية
الموت. و في ضوء السؤال المُوجِع حول معرفةِ مَا إذا كان
الحب ممكناً العيشُ فيه أم لا بدون ارتباطٍ بالعالَم؛
جزيرةِ العرب إبّان القرن السابع للميلاد، تمت الإجابة عنه
بطريقة حاسمة؛ فالحبُّ الكامل غيرُ مَعيشٍ، لأن المجتمع
هناك كان له بالمرصاد؛ يعيقه، ويمنع قيامه. و لا ريب في أن
الأٌقوال النفيسة أقوال عالية الشعرية في جميع الأحوال، و
تقوم دليلا على روعتها و فعّاليتها معاً.
إن الاستفهام الأخير في هذا الإطار يتمظهر في الآتي: لماذا
- انطلاقا من "مجنون" الأصول، و تحت اسمٍ بعيْنِه هذه
المرّة - يمتاز ،إذاً، هذا المجنون من الأبطال الآخرين؟
لقد اخترع الفُرْس المجنون الصوفي، و انتقل منهم إلى
الأتراك، ثم إلى الآداب العربية، و يمكن أن يُفهَم على أنه
عشق الشاعر الذي يستحيل صورة لمناداة شيء خفيّ رمزي للمرأة
نفسِها. و لكن، ماذا عن "مجنون" أحمد شوقي(ت1932م)؛ الشاعر
و الدرامي المصري، و الذي قدم على الرُّكح (خشبة المسرح)
في وقت مّا من القرن العشرين؟... إن موضوع القيم الأساسية
لأمة عربية تسير ،إذاً، في اتجاه التصريح بهُويتها و
إثباتها. و بخصوص "مجنون" إلـْـزا ، ماذا يقال ، بالتأكيد،
عن ماضيه الروحي/الصوفي، و إلا فإنه سائرٌ عكسَ التيار؟
إنه يقرّ ،إذاً، بالسعادة.. نعم بالسعادة، و لكن ليس هنا
فقط و لا الآن. و في الجهة المقابلة، يشدد المجنون الثوري
لأراجون على السعادة .. نعم على السعادة، و لكن يَلْزم
حصولُها بسرعةِ البرق و للجميع فوق هذه الأرض.
و في الختام، هل بالإمكان أن نلخص بعُجالةٍ كائنا متعددَ
الأشكال أيضا؟.. إن مفتاح ذلك ، بلا ريبٍ، يكمن في البحث
في نمط أصلي كان يعرف بالبطل الجاهز في سياق آخرَ، عن
"الإنسان بلا خصوصيات" لموسيل. و المجنون الأول ،كما
اخترعه العرب، يقدم لنا صورة فارغة، أي مفتوحة إلى غير
حدٍّ، عن الحرية؛ حريةِ الحب، و حرية الاعتقاد، و حرية
العمل. و كل هذا موجود في المنبع منذ المبدإ، و مُعَدٌّ
،كما يُـلاحَظ من خلال الأشكال الموضوعة حول المجنون على
مرّ القرون، لقيام صرْح أسطورةٍ و إبداع قصائدَ أخرى، ربما
لم تقل كلمتها النهائية بعدُ.
و على أيٍّ، كيفما كان مستقبَـل المجنون، فإنه يجعلنا لا
ننسى أبداً أقدم "معجزة" أنشأها هناك فقط ،في صحراء العرب
الجرداء، و انتشرت من فوْر نشوئها غرباً و شرقاً.
الهوامش:
*مستشرق فرنسي كبير.
(1)- لمزيدٍ من التفاصيل، يمكن الرجوع إلى كتاب "المجنون و
ليلى- العشق الأفلاطوني"، تأليف: أ.ميكال و ب.كيمب، دار
سندباد (باريس)، ط.1984./ كتاب "قصيدة الحب (أنطولوجيا شعر
المجنون)"، تأليف: أ.ميكال، دار سندباد، ط.1984./ كتاب
"ليلى، فِكْرِي، رواية"، تأليف: أ.ميكال، دار لوسويْ
(باريس)، ط.1984.
(2)- يُنظَر في هذا الشأن كتاب "شعر الحب عند العرب"
للطاهر لبيب الجديدي، مطبعة سنيد، الجزائر، ط.1974.