نجيب
محفوظ والاستقلال التام
رجاء النقاش - مصر
من أنجح التجارب التي قام بها نجيب محفوظ في حياته وإنتاجه
أنه كافح وجاهد منذ البداية إلي النهاية لكي يحقق لنفسه
الاستقلال التام عن أي قوة خارجية تفرض عليه رأيا أو موقفا
أو اتجاها معينا قد لا يكون راغبا فيه, واستقلال الكاتب
والفنان ليس من الأمور السهلة في عصرنا الحاضر, وخاصة
اذا كان الكاتب في الأصل من أسرة متوسطة بسيطة لا تملك
ثروة يمكن للكاتب ان يرثها ويعتمد عليها. ولا شك ان عددا
من الكتاب الكبار الذين سبقوا نجيب محفوظ قد حققوا شيئا من
هذا الاستقلال عن طريق اعتمادهم علي عائلاتهم الميسورة ومن
هؤلاء محمود تيمور وتوفيق الحكيم, فقد كانا يملكان
بالميراث ما يسمح لهما
بالاعتماد علي دخل خارجي لا
علاقة له بانتاجهما الفني والأدبي, ومن هنا تحقق لهما
قدر لا بأس به من الاستقلال بحيث لايضطران إلي كتابة شئ لا
يرضيان عنه تحت ضغط ضرورة مادية, أو استجابة لحزب من
الأحزاب او مؤسسة من المؤسسات التي يمكن أن يرتبط بها
الكاتب ويفرض علي نفسه الالتزام بما تراه هذه المؤسسة
وتدعو اليه.. وفي المقابل فإننا نجد كاتبين كبيرين هما
العقاد وطه حسين ظلا مرتبطين بالأحزاب السياسية أوثق
الارتباط في معظم مراحل حياتهما المختلفة, فالعقاد كان
وفديا حتي سنة1935 ثم انفصل عن الوفد وانضم الي الحزب
السعدي, أما طه حسين فقد بدأ من الاحرار الدستوريين حتي
سنة1930 ثم تحول الي الوفد
وبقي مرتبطا به الي ان
تم الغاء الاحزاب بعد قيام ثورة يوليو1952 وهكذا كان طه
حسين والعقاد يستندان استنادا قويا الي الاحزاب القائمة
وكانا يجدان الأمان والرعاية والحماية في ظل هذه
الاحزاب.
نجيب محفوظ اختار الاصعب منذ البداية,
أي ان يكون مستقلا استقلالا تاما عن أي سلطة أو حزب وحرص
دائما علي ان يدافع عن هذا الاستقلال التام بكل قوة وألا
يتنازل عنه ابدا فهذا الاستقلال هو الذي يضمن الحرية ويحقق
له ان يمسك قلمه دون ان يشعر في أي لحظة ان هذا القلم
ملتزم بقوة خارجية تملي عليه ما يكتبه او بعض ما يكتبه
ومعركة الاستقلال التام هذه لم تكن معركة سهلة بل لعلها
كانت من أخطر وأروع معارك نجيب محفوظ في حياته وأدبه
معا, وانتصاره في معركة الاستقلال هذه هو الذي فتح لنجيب
محفوظ الافاق الواسعة لكي ينتج هذا الانتاج الخصب الغزير
الذي تركه وراءه, ولكي يعبر عن تجاربه وآرائه في حرية
كاملة لا يقيدها أي قيد من أي نوع, فنحن عندما نقرأ أي
عمل من أعمال نجيب محفوظ فاننا لا نجد فيه صوتا اخر سوي
صوت الكاتب الفنان وصوت ضميره والصوت الصادر من نبضات قلبه
ولا يوجد في هذه الأعمال صوت حزب يفرض آراءه أو مؤسسة تعبر
عن وجهة نظرها, ولا صوت زعيم سياسي يفرض علي الكاتب أن
يكون بوقا يعبر عن الزعيم ويختفي وراء صورته.
والفكرة الاساسية عند نجيب محفوظ هي تلك التي عبر عنها
بدقة وصدق في حديث له مع الناقد الكبير الراحل فؤاد دوارة
حيث قال: أتعرف ما الذي جعلني استمر ولا أيأس؟ لقد
اعتبرت الفن حياة وليس مهنة, فعندما تعتبره مهنة لا
تستطيع إلا أن تشغل بالك بانتظار الثمرة, أما أنا فقد
حصرت اهتمامي بالانتاج. نفسه وليس بما وراء الانتاج.
كنت اكتب وأكتب وأنا معتقد أنني سأظل علي هذه الحال
دائما. أتعرف عناد الثيران؟ إنه خير وصف للحالة النفسية
التي كنت أعمل بتأثيرها
ولا شك أن السلطة والسعي
اليها أو الخوف منها والحرص علي إرضائها هي كلها من الأمور
التي تهدد الكاتب الفنان بأن يفقد استقلاله, وأن يتخلي
عن بعض حريته من أجل تجنب المتاعب والمنغصات خاصة في
مجتمعات العالم الثالث التي تجيد فيها السلطة أساليب البطش
ولا تعرف التسامح والرحمة أو احترام حرية الفكر والتعبير
وهنا نستمع الي رأي لنجيب محفوظ في بعض أحاديته معي حيث
يقول: انا مش بتاع سلطة هذه حقيقة ليس فيها أي نوع من
المبالغة فلم تكن السلطة في يوم من الأيام هدفي ومأربي
وذلك بسبب بسيط هو أنني ما كنت استطيع الجمع بين السلطة
والأدب, فالأديب الذي يقدس مهنته يفضل أن يبتعد عن
السلطة بهمومها ومتاعبها ومشاغلها والتزاماتها, والسلطة
ليست هدفا يتوافق مع مزاجي وطبعي, بل انني اعتبرها معطلة
لي عن مهنتي الاساسية وهي الادب, والسلطة الحقيقية التي
طالما حلمت بها هي سلطة الأدب والفن وليست السلطة الادارية
فالأدب في حد ذاته يمكن ان يكون سلطة مؤثرة اذا اخلص له
الأديب وأحسن استخدامه, والأديب يمكن أن يكون صاحب سطوة
ونفوذ وتأثير علي الرأي العام من خلال كتاباته فقط
ثم يقول نجيب محفوظ بعد ذلك احب هنا أن أؤكد نقطة هامة وهي
أن هذا الرأي هو توجه خاص بي لا أفرضه علي أحد ولا اعيب
علي أي مفكر أو اديب يعمل بالسياسة أو يسعي الي السلطة
فربما كانت وجهة نظره أنه عن طريق السلطة يخدم الأدب
والحياة الثقافية أكثر من تأليف كتاب أو رواية!!
وهكذا يعلن نجيب محفوظ استقلاله عن السلطة ولكنه وهو
الكاتب الحر المؤمن بالحوار لا يفرض رأيه علي غيره ممن قد
يرون في السلطة بابا من أبواب العمل النافع والتأثير
الواسع.
علي أن السلطة وحدها لا تمثل العائق الذي
يمكن ان يقف في وجه استقلال الكاتب وحريته فهناك الأوضاع
الاجتماعية أيضا والتي يمكنها أن تتحول الي قيد يعوق
الاستقلال ويجني عليه, وهنا نستمع الي نجيب محفوظ في أحد
أحاديثه معي وهو يقول: عندما تزوجت في عام1954 بعد ان
ظللت سنوات عازفا عن الزواج بسبب تفرغي للأدب توقع العديد
من اصدقائي ان تتراجع جرأتي وتقل شجاعتي خوفا علي أسرتي
فأقلل من نقد الاخطاء والسلبيات وأصبح في كتابتي مسالما
وبعيدا عن الصدام مع أي سلطة ولكن توقعاتهم لم تتحقق ولم
تكن صحيحة حيث ان كتاباتي ازدادت بعد زواجي عنفا وجرأة
ولهذا الأمر أسباب أهمها أنني عندما أمسك بالقلم انسي كل
شئ خوفي ومسئولياتي وأسرتي وأنسي حتي نفسي, ومن ناحية
أخري فان انتقاداتي كانت دائما موضوعية ولا تحيط بي أي
شبهات أو سوء نية, كما أنني ليس لدي أي نوع من الشعور
بالإثم. هكذا حرص نجيب محفوظ علي استقلاله التام, فلم
يكن هناك أي سلطان علي قلمه إلا ضميره الحر.
* تفضل الاستاذ الكبير سامي شرف بالاتصال بي وحدثني
بالتفصيل عن موقف الزعيم الراحل جمال عبدالناصر من رواية
ثرثرة فوق النيل وهو ما أرجو ان يكون موضوعا لمقال الاسبوع
القادم ان شاء الله
|