إلى محمد الماغوط .. مايكل جاكسون جعلني أبكي ..
ميس نايف الكريدي - سورية
"كلنا شركاء"
لا تستغربوا أن أبكي ,بل ربما يجب أن نشترك نحن أصحاب الأحلام
المسروقة ,بجلسة ندب علنية ,ندير ظهرنا للضوء ,لترتسم أخيلتنا
على الأرض أمامنا , ونقيم مأتمنا الجماعي عليها ,هذا إذا كنا
نجرؤ ..
تحت لوحة عملاقة، كتب عليها "في ذكرى مايكل جاكسون: ملك البوب
1958-2009"، جلس ما لا يقل عن 20 ألف معجب لوداع "فقيد البوب،"
وذلك ضمن الحفل التأبيني الذي أقيم في مركز "ستابلز" بلوس
أنجلوس الثلاثاء، إحياء لذكراه.
وأعتلى جاكسون المسرح للمرة الأخيرة، في نعش ذهبي، فيما توالت
فقرات التأبين، التي شارك فيها كبار نجوم الفن في الولايات
المتحدة الأمريكية، وضيوف من حول العالم.
واما الدافع للاشتراك في الجدل الحامي حول النجم العالمي ,
فيعود لأمرين , أولهما البذخ المستفز الذي رافق وداع تلك
الصورة الغريبة من البشر , وثانيهما ألمنا العميق , ونحن
نستذكر جنازات بسيطة لكبار كتبوا على صفحات هذه البلاد
المكلومة , وبكينا عليهم وحدنا في صمت , لأنهم اختلطوا
بالوجدان , امتزجوا بالقضايا الكبيرة , ولأنهم كبار جدا لم
نعرف كيف نودعهم , وحين كرمتهم الجهات المعنية كان التكريم
أصغر منهم , فازداد بكاؤنا عليهم , لكن جوع اليوم التالي ,
ولهاثنا طوال الشهر , لم يترك لنا مسافة لنقف حزنا من أجلهم..
محمد الماغوط سامحنا :
لم تكن مخنثا تبيح له ملايينه قصقصة أعضاء جسمه , وتغيير صورته
, لم يكن موتك ملتبسا , ولم تتعاطَ إلا الفكرة , ثروتك كانت
الكلمة , وحكاياتك مع الأسف تستقر بين الأوراق الصفراء , في
وقت يرتحل فيه الشباب للهامش , ويتفيء ظل الشوارع بحثا عن
الغرائز..
الأكيد انك لم تكن لترغب بصندوق ذهبي , في بلد ينام فيها على
الرصيف طفل على حضن أم تستجدي عطف المارة بصراخه, وبائع بسطة
يهرب من شرطة البلدية التي تعود عناصرها السلبطة, وطفلا يعمل
في ورشة بين شباب أكبر منه يتربصون به, بعدما استبد بهم العجز
والشذوذ ..
سيدي صنعت مرآة للوطن, رغم مرور الزمن عليها مازالت تعكس وجه
بلادي, ولكن هل كنا جديرين بك , وهل كانت الأرض الوحيدة
المنتصرة بعناقك الأبدي لها , هل كتبنا الكلام المناسب من أجلك
, وأي مكان يتسع لقامتك , وأنا اليوم أتذكر رحيلك, في يوم عادي
من حياة وطن , على غير عادة الإعلام الذي يتذكر حفظا لماء
الوجه وجوه العظماء بحياء في ذكرى وفاتهم..
وداعك المتواضع جدا , أمام هذا الصخب المرافق لذلك الفنان
المولع بالأطفال لحد الشره ,استنفر فضولا بشريا مشروعا , جعلني
أتساءل: ألم يكن الولع بالوطن يكفي لتنتفخ الفضائيات بكلماتك
..
الخامس من نيسان عام
2006,رحلت
, كانت السماء اكثر وفاء من كل الذين جوعوك , من كل الذين
كرموك , بكت الدنيا , والمطر الذي لايغسل وحل الزمان , أعلن
الحزن . وأنت ترحل ويرجع الصدى بكلماتك
"أكتب لأعيش"
((متى شعرت أنني أعيش بلا هموم فإنني سأتخلى عن الكتابة، لا
لشيء، ولكن لأنني لن
أحتاج عندها إلى الكتابة))
هل سنعترف اليوم ان محمود درويش الذي ودعك بكلماته قبل أن يرحل
عنا هو الآخر , ليفجعنا الخوف بخطر فراغ أبدي , كان محقا :
"كم أخشي القول ان الزمن الذي هجاه الماغوط ربما كان أفضل من
الزمن الذي ودٌعه. فقد كنا ذاهبين، علي الأقل، الي موعد مرجأ
مع أمل مخترع. لا بأس من أن يكون ماضينا أفضل من حاضرنا. ولكن
الشقاء الكامل هو أن يكون حاضرنا أفضل من غدنا. يا لهاويتنا"
هل يكفينا اليوم بعد كل الهيصة العالمية ,أن نمر على الأيام
بدون ذاكرة او بنصف ذاكرة , نطري القلب ,المتألم بهلاك الفكر ,
بقبول الحكايات المنقوصة , والذكريات الجوفاء , ونعتبر أنفسنا
مخلصين لمن رهنوا العمر لأجيال لم تعد تقرا ..
كل الشعراء كتبوا في رحيله، وأهل الفن أقاموا مهرجاناً مسرحياً
يحمل اسمه..شكرا لجهودهم, لكننا
نريد أن نسمع "عواء الشعوب بالمقلوب" على لسان الماغوط , واقول
على لسان الماغوط و لان الشعوب تعوي منذ وقت ..
كرم الراحل في مسقط رأسه مدينة "سلمية" التي أهدته مهرجانها
الشعري السنوي عام
2004...
حسبنا أن نقتل الشعر بمهرجانات بلا نبض , بقامات جاهزة للصور ,
متعطشة لخبر في جريدة ,ربما لا تجد من يقرأ..
حسبنا أن يصبح معرض الكتاب مزدحما بكتب نصفها شعوذة ,ونصفها
جنس , وإكليل على الرأس ببعض من بقايا تشيخوف, جورج اورويل ,
وعزلة ماركيز التي نعرف اليوم منها شكلا آخر , جدارية محمود
درويش , ذاكرة أحلام التي تجاوزتها لتعمل في البيزنس , وفرح
الماغوط الذي لم يعد مهنة أحد , وتحولنا إلى الهزل المبتذل
الذي يسرق من النكتة البسيطة عذوبة الابتسام , سامحني ياسيدي ,
حتى البكاء لم نعد نتقن فيه النواح ..
ربما ينام القائمون على الثقافة ملء أعينهم , ويرون في موقفي
تطرفا , لانهم وفق رؤيتهم التحجيمية وفلسفتهم الرقابية ,
يشكرون الله أن لم تنتشر أعماله وحكاياه أكثر مما هي عليه ,
لأنها كانت تشكل رعب الكلمة القاتلة الفاعلة المرفوضة , ولكن
الحدث الجلل الذي طبلت له الفضائيات , جعلني أحاول التسكع في
الإنترنت لأحصد بذور الحب التي نشرها ورحل ,ولن تموت لان
الحياة , في الفكر , ومهما استلم النسيان أدمغتنا ومسحها بيد
من حديد او بيد من حرير , بالتخويف , أو التدجين , او حتى
التلاعب بالغرائز هتكا لعرض الثقافة ,سنظل هنا ننكش في التراب
بحثا عن بذور صالحة للزراعة , وعمر الخصوبة طويل
...
وأرضنا ليست بعاقر..