في حوار مع زميل لي ، اديب مخضرم ... حول لغة الكتابة
الأدبية ، وبالتحديد اللغة الروائية ، جزم بان ما اتفق على
تسميتها ب " لغة الصحافة " لا تنفع كلغة للكتابة الروائية
.
هذا الحوار يتردد بصيغ مختلفة ، حول مجمل الكتابة باللغة
العربية.
أوضحت ان للجملة الروائية أو القصصية ، كما للشعر، مميزات
خاصة بها ، تختلف عن المقالة أو الخبر ، ان كان بطريقة
تركيبها ، او وضعها بالسياق النثري. ولكن الكلمات تبقى هي
نفسها.
زميلي أضاف انه يقصد ان مفردات لغة الصحافة ، هي مفردات
غير أدبية ولا تصلح لخلق ابداع أدبي فني، رواية مثلا...
سالته : وهل نستطيع بلغة الجاحظ ان نكتب اليوم ابداعا
أدبيا ... رواية مثلا ... ؟
هذا ذكرني بالنقاش القديم والرائع بين العملاقين
الخالدين ، الأديب الموسوعي مارون عبود ، والشاعر الكبير
نزار قباني، يوم تمسك مارون عبود بالشكل الكلاسيكي للقصيدة
، وأصر نزار قباني على الشكل الحديث ، في حوار من أجمل
وارقى ما قرأت في ثقافتنا العربية .
لم يكن النقاش مجرد خلاف على الشكل . . انما تضمن أيضا لغة
القصيدة ، ومعروف ان نزار قباني هو الشاعر العربي الذي جعل
الشعر في متناول وفهم حتى أبسط الناس . فهل نستطيع ان نقول
ان لغة نزار قباني الشعرية هي لغة " غير أدبية " لأنها
قريبة جدا من لغة الصحافة ،أو هي لغة الصحافة نفسها؟ هي
بلا شك لغة بسيطة بمفرداتها ، متدفقة كالماء بصياغاتها ،
وهي من النوع الذي اتفق على تسميته بالسهل الممتنع . ان
شاعرية نزار فوق أي نقاش ،ولا أظن انه يوجد شاعر مقروء في
العالم العربي أكثر من نزار قباني .. حتى شاعر عملا ق آخر
مثل العراقي مظفر النواب ، أذهلنا بشاعريته ، ووضوح
صياغاته وسهولة الاندماج مع أجوائه بلغته العادية وغير
المعقدة رغم ثراء لغته ومفرداته وعالمه التراثي الواسع
... وهي اللغة العربية التي يسميها البعض " لغة الصحافة "
بسبب مفرداتها وصياغاتها السهلة التي لا تحتاج " لمفسر
أحلام أدبي " ليشرحها للقراء .
حين سألت زميلي اذا كانت لغة الجاحظ تلائم الطلب ،
لم أقصد ان " الموروث " ، كما يحلو للبعض تسميته... انتهى
دوره ، انما عنيت ان لكل عصر لغته وسماته ومميزاته ، التي
تتأثر بالحديث ( من الحداثة ) وتتطور دون انقطاع ، ودون
تصادم ، مع القديم ، وان مفردات لغة عصر مضى ، لا تلائم
مفردات اللغة في عصر آخر أحدث ، على الرغم من انها تنبع
منها وتتطور على اساسها. كذلك الأمر بالنسبة لاسلوب
الصياغة .
هذا النقاش العابر ، اثار في ذهني قضايا لغوية متعددة ،
وجعلني أعيد التفكير في بعض المسلمات التي كانت تبدو واضحة
وثابتة ، ولا تستحق التفكير ، واثارت في ذهني مسائل أخرى
أوسع من نطاق اللغة ، وكنت قد طرحت مواقفا مختلفة حول
اشكاليات لغتنا وواقعها الصعب في داخل اسرائيل ، وارتباط
بعض اشكالياتها بالواقع السياسي والاجتماعي والثقافي
للعرب الفلسطينيين مواطني اسرائيل . ولكن هناك موضوع ترددت
كثيرا في خوضه ، ليس لحسابات تتعلق بردود الفعل السليبة
التي قد اواجهها من بعض المتثاقفين ، الذين لا يرون في
مداخلاتي الا خطأ لغويا عابرا في صياغة جملة ما ،
ويتجاهلون ما أطرحه من فكر يستحق النقاش والاختلاف في
الرأي ، والتفكير والاجتهاد لفهم الاشكاليات الصعبة ، وطرق
تجاوز حواجز "حرس حدود" اللغة ، الرافضين لأي تطوير وتزحزح
عن المحنطات اللغوية.
هل يمكن ان نخضع لسيبويه والكسائي الى أبد الآبدين ؟
هل كان يمكن ان يصبح نزار قباني الشاعر الأكثر قراءة
وتأثيرا لو لم يصر على نهجه الحداثي لغة واسلوبا وأفكارا ؟
هل يوجد في اللغة العربية لغة فصحى كلاسيكية ، ولغة فصحى
أخرى حديثة ؟ أم ان الفصحى هي فصحى واحدة تتطور
وتتعدل حسب الظروف الحياتية والواقع الاجتماعي والاقتصادي
المتحرك ؟!
معروف انه يوجد نقاش لم ينته بين مؤيدي الكتابة بالفصحى
ومؤيدي الكتابة بالعامية، وهناك اتجاه ثالث ، وسطي ، ينادي
بتقريب الفصحى للعامية ، وتقريب العامية للفصحى( تفصيحها)
!!
لا يمكن برايي نفي مروث اللغة العامية وتعابيرها المفعمة
بالدقة والحرارة ، والتي لا بديل لها أحيانا بالفصحى.
كذلك لا يمكن القول ان تراثنا بلغته ومفرداته لم يعد ذا
اهمية. اذ لا شيء يتطور من العدم . اما مدى العلاقة
الدينامية ، بين الموروث والحديث ، بين اساليب التعبير
القديمة وأساليب التعبير الحديثة ، بين اساليب الصياغة
القديمة ، وأساليب الصياغة الحديثة ، فتلك برأيي تبقى
مسالة للغويين ، وليست لنا نحن الكتاب والشعراء وسائر
المبدعين ...
للأديب مهمة محددة ، كما افهم ... ان ينقل بشكل فني ما
يراوده من أفكار وصور، وبلغة تتلاءم مع زمانه ومكانه ، دون
التقيد باهلية هذه المفردات أو عدم أهليتها ، لأنه عندما
نتحول من الابداع في لحظة نشوة ، الى البناء المحسوب
بمقاييس لغوية متزمتة ، عندها لن ننتج أدبا وفنا انما
فذلكات ذات شكل لغوي بلا مضمون فني ، وبلا حياة !!
وأعود للبداية : ما هي لغة الصحافة ؟!
هل هي نبتة غريبة في بستان اللغة العربية ؟
هل هي لغة اخرى دخيلة على لغة الضاد ؟
انا أحدد واعرف بنفس الوقت ، ان لغة الصحافة ، هي اللغة
ذات المفردات الأكثر استعمالا وفهما في محيط اللغة العربية
الواسع .
هل هذا ينفي تطوير مفردات جديدة ؟ أو الاستفادة من مفردات
كلاسيكية تعبر بشكل أدق وأجمل عما نريد قوله ، وبشكل بعيد
عن التعقيدات ، والفذلكات اللغوية ؟!
أحاول هنا ان أحدد فهمي للموضوع برمته ، ربما هذه التسمية
" لغة الصحافة " هي تسمية خاطئة، ولا تعبر تماما عن الواقع
. انا أميل لتسميتها ب " الفصحى السهلة "... أو " الفصحى
الحديثة " كمميز لها عن الفصحى الكلاسيكية. وفي الوقت
نفسه أرى ان اللغة في كل زمان ومكان يتحدد شكلها وثروة
مفرداتها ، حسب معطيات العصر نفسه .
حاولوا ان تكتبوا عن واقع العراق المأساوي بصياغات ومفردات
واسلوب الجاحظ . . أو عبدالله بن المقفع ... او حتى طه
حسين الأكثر حداثة .
خذوا قصة أو رواية لكاتب ما ، حنا مينا مثلا ... وحاولوا
ان تبدلوا مفرداتها بمفردات كلاسيكية، او ان تصيغوا النص
باسلوب كلاسيكي ...
هل ستحصلون على مبنى روائي أجمل وفنية أرقى ، ولغة أبعد
تأثيرا ؟!
لا شك عندي من عبث المحاولات.
ان فنية العمل ، لا علاقة لها بمدى ضلوع الأديب بنحو اللغة
وقواعدها، اللغة جهاز ( اداة ) اساسي وضروري ولا ابداع
بدونه . اما الالمام علميا بتفاصيلها وقواعدها ، فهو عامل
ايجابي ، ولكنه ليس العنصر الاساسي للابداع الفني ،
وبالطبع تبقى المسألة نسبية .
ان اللغة جسم حي ومتطور باستمرار ، ولكل عصر لغته ، مفردات
ومعان ومناخ ثقافي وفكري، وما يسمونها اليوم " لغة الصحافة
" هي في الحقيقة اللغة الفصيحة السهلة المعاصرة الأكثر
سرعة في التكيف مع الواقع .
وكما اننا لا يجوز ان ننقطع عن الموروث اللغوي والثقافي ،
فلا يجوز كذلك ان يقف الموروث حاجزا أمام التطور الدائم
للغة.
من هنا نصل الى سؤال هام : هل اللغة وسيلة أم غاية ؟
أثناء قراءتي لكتاب " الثقافة والامبريالية " للمفكر
الفلسطيني د. ادوارد سعيد ( ترجمة بروفسور كمال أبو ديب )
وقعت بفخ المفردات المعجمية، والصياغات اللغوية المركبة،
مما جعلني أكرس جهدا مضاعفا لفهم لغة الكتاب العربية اولا
، قبل أن افهم الطرح الفكري المثير للكتاب. وكنت قد "
تورطت " قبل "الثقافة والامبريالية " بقراءة كتاب لادوارد
سعيد أيضا ، ولنفس المترجم ، وهو كتاب "الاستشراق "،
وهزمتني لغة الكتاب، شديدة التعقيد والغرابة، ولم أستطع
الصمود في معاناة القراءة والبحث عن تفسير للمعاني ، كنت
وكأنني اقرأ كتابا بلغة اجنبية لا اتقنها جيدا، وعلمت من
صديق لي ، مثقف أكاديمي ، انه فشل في قراءة النص بالعربية
وقرأه بنصه الأصلي باللغة الانكليزية ، وانه هو الآخر لا
يفهم ضرورة هذا التعقيد والنبش لايجاد مصطلحات عربية لا
يستعملها جيلنا ، ولن يستعملها أحد من الأجيال المقبلة،
وذلك بدل تطوير اللغة العربية وتسهيلها ، كما حدث ويحدث
بمختلف اللغات العالمية.
كتاب ادوارد سعيد " الاستشراق" قراته فيما بعد مترجما
للغة العبرية ، بلغة واضحة وسهلة الفهم . لماذا الترجمة
العبرية مفهومة لقارئ مثلي يعيش نبض اللغة العربية
ويعشقها ولا يستطيع قراءة نفس الكتاب بلغته الأم – اللغة
العربية ، التي تشكل محورا لعالمه الابداعي ؟
اذن لمن نصدر كتبنا ؟
لمن نكتب اذا كنا غير مفهومين بصياغاتنا ؟
اذا عجزنا كمثقفين عن فهم ترجمة بلغة عربية راقية بلا أدنى
شك ، فما هو حال سائر المواطنين ؟
كيف نصبح شعبا قارئا ، حين نعجز عن فهم المقروء؟
والأخطر ، كيف يصبح لنا دور اجتماعي وسياسي في تقرير
مستقبل أوطاننا ، اذا كنا عاجزين عن فهم ، على الأقل ...
لغتنا البسيطة المستعملة في وسائل الاعلام ؟
نبيل
عودة – كاتب واعلامي فلسطيني - الناصرة
nabiloudeh@gmail.com