ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

أحمد عبد المعطي حجازي - مصرإحياء اللغة‏..‏ بالديمقراطية‏!‏

أحمد عبد المعطي حجازي - مصر

 

من واجبنا في هذه الأيام التي نحتفل فيها بالكتاب أن نفكر في مصير الكلمة المكتوبة‏.‏ لقد اخترع أجدادنا الكتابة‏,‏ فلا أقل من أن نفكر نحن في المصير الذي سينتهي إليه هذا الاختراع‏.‏ ولا شك في أن الكلمة المكتوبة مهددة في هذا العصر الذي نعيش فيه‏,‏ مهددة ليس فقط بالصورة التي أصبحت الوسيلة الأولي لتلقي الأخبار والمعلومات والاتصال العابر للغات والثقافات القومية‏,‏ ولكنها مهددة بالوحشة قبل أن تكون مهددة بالصورة‏.‏

العصر الحديث عصر موحش‏,‏ الإنسان فيه فرد وحيد‏,‏ فالروابط المختلفة تضعف وتتفكك وتتحلل‏..‏ روابط الدم والمجتمع والفكر والسياسة والأسرة‏,‏ والمدرسة‏,‏ والعمل‏,‏ والحزب‏,‏ والوطن‏.‏ الروابط التقليدية فقدت فاعليتها لأن العالم تغير‏,‏ والروابط الجديدة هشة عاجزة عن مقاومة أسباب الانفراد والوحشة التي تلتف حول كل منا وتغرقه في همومه الذاتية‏,‏ ومشكلاته الخاصة وتعزله عن الآخرين‏.‏

القواسم المشتركة التي كانت تجمع بين الناس ضعفت وحلت محلها الخصوصيات والأسرار الفردية المكتومة‏,‏ فكل إنسان جزيرة معزولة في أرخبيل واسع عاجز عن التواصل والترابط‏.‏

وفي الوقت الذي تتحول فيه الجماعة إلي أفراد متباعدين منقطعين بعضهم عن بعضهم تقوي السلطة‏,‏ ويعجز الفرد عن مقاومة طغيانها‏,‏ بل يعجز حتي عن إبلاغها صوته‏.‏ ثم تجتمع هذه الأسباب كلها لتفرض عليه اليأس‏,‏ اليأس من تغيير الواقع السيئ‏,‏ واليأس من الاتصال بالآخرين‏.‏

لا ضرورة إذن للكلمة المكتوبة‏,‏ ولا ضرورة حتي للكلمة المنطوقة‏,‏ فما دامت اللغة غير فاعلة‏,‏ ومادامت قد فقدت وظيفتها فلابد أن تصاب بالضمور‏,‏ وهذه هي مشكلتنا الراهنة مع اللغة‏.‏

نحن ننفق المليارات علي التعليم‏,‏ لكن لغتنا تموت بين أيدينا‏.‏ ليست الفصحي وحدها التي تفسد وتتراجع وتتآكل وتهجر وتفقد احترامها عند الناس‏,‏ بل العامية أيضا‏.‏ ولو أننا أحصينا المفردات التي يتألف منها المعجم الذي نستعمله في لغة التخاطب اليومي لما تجاوز عددها العشرات‏.‏ وما هي الأحاديث التي نتبادلها في حياتنا اليومية؟ نحن لا نتحاور في الفن أو الفلسفة‏,‏ ولا نتبادل الرأي حول ما تواجهه بلادنا من مشكلات وما يمكن أن نجده لهذه المشكلات من حلول‏,‏ وإنما يسأل بعضنا بعضا عن الأحوال بصيغة لا تتغير‏,‏ وحتي بدون اهتمام حقيقي‏,‏ فنجيب بصيغة مثلها‏,‏ بالإضافة إلي كلمات هنا‏,‏ وكلمات هناك عن الطعام والشراب‏,‏ وشكوي الزمان‏,‏ ونقد الحكومة‏,‏ والنوم والعمل‏,‏ والصحة‏,‏ والمرض‏,‏ وهذه هي كل لغتنا‏,‏ أي كل عالمنا‏.‏

ثرثرة فقيرة مكررة تكشف عن فقرنا الداخلي وشعورنا بالوحشة والعزلة‏,‏ فليست اللغة إلا وعينا بأنفسنا وبما يحيط بنا‏,‏ وبقدر ما يغتني معجمنا يغتني العالم‏,‏ وبقدر ما يفتقر هذا يفتقر ذاك‏.‏

ولقد كنت أتمني لو أن بعض نقادنا وبعض المهتمين باللغة عندنا قد توفروا علي قراءة ما يصدره كتابنا وشعراؤنا‏,‏ ومفكرونا من أعمال‏,‏ ليقدموا لنا معلومات دقيقة عن المعجم الذي يتحرك داخل حدوده كل من هؤلاء الكتاب والشعراء‏,‏ وعن المجالات المختلفة التي تنتمي لها مفردات هذا المعجم‏,‏ وعن الكيفية التي يستعملها هؤلاء الكتاب والشعراء‏,‏ لكني لم أعثر للأسف علي دراسة أو إحصاء من هذا النوع‏.‏

كنت أتمني أيضا أن يتوفر هؤلاء النقاد والباحثون علي دراسة العلاقات القائمة بين الكتاب‏,‏ وبين جمهورهم‏,‏ ما هي أعلي الأرقام التي بلغها توزيع الكتاب المصري في الفنون والعلوم المختلفة والشعر‏,‏ والرواية‏,‏ والقصة‏,‏ والدراسات العلمية‏,‏ والفلسفية‏,‏ والدينية‏,‏ والسؤال بصيغة أخري‏:‏ ما هو عدد القراء المصريين في أفضل الحالات؟ بضعة آلاف من عشرين مليونا‏,‏ أو ثلاثين مليونا مؤهلين للقراءة؟

سأفترض أن الكتاب المصري الجيد قادر علي أن يوزع عشرة آلاف نسخة‏,‏ وسأفترض بعد ذلك أن عدد المصريين المؤهلين للقراءة عشرون مليونا‏,‏ فكم تبلغ نسبة القراءة؟ أعني ما هي الحدود التي يتحقق ضمنها الاتصال بين المصريين عن طريق الكلمة المكتوبة؟‏.‏

الحدود التي يتحقق ضمنها الاتصال بناء علي هذه التقديرات الجزافية هي أن الاتصال يتحقق بنسبة واحد إلي ألفين في كل ألفين من المصريين القادرين علي القراءة‏,‏ يوجد قارئ واحد‏,‏ أي نصف في الألف‏,‏ أي واحد علي عشرين من الواحد في المائة‏.‏

هذه النسبة ذاتها ترسم الحدود التي تعمل ضمنها الكلمة المكتوبة‏,‏ فالكلمة المكتوبة تعمل بنسبة نصف في الألف‏.‏ واحد علي عشرين من واحد في المائة‏,‏ أي تواصل؟ وأي وعي؟ وأية ثقافة قومية يمكن أن تتحقق بهذه الشروط؟ يجب ألا نخدغ أنفسنا‏,‏ أو نتهرب من مواجهة الحقيقة وهي أن جماعتنا الوطنية تفتقر الآن إلي الثقافة القومية التي تحتاج إليها لتظل من ناحية جماعة متماسكة‏,‏ ولتتمكن من أن تعيش في هذا العصر إلي جانب الآخرين‏.‏

والسؤال الآن‏:‏ ما الذي نستطيع أن نفعله لنحمي لغتنا‏,‏ ونحيي دور الكلمة المكتوبة والكلمة المنطوقة؟‏.‏

لابد أن نفكر بالطبع في إصلاح مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة‏.‏ لكننا رأينا أن اللغة ليست تعليما فقط‏,‏ وإنما هي وظيفة وهي استعمال‏,‏ فإذا أردنا أن نبعث الحياة في اللغة فعلينا أن نبعث الحياة في وظيفتها‏,‏ التي لا نمارسها إلا في إطار الجماعة‏,‏ وهي تحقيق التواصل والتفاهم والتضامن‏.‏

إحياء اللغة لا يتحقق إلا بإحياء الروابط التي تنتشل الفرد من همومه الخاصة‏,‏ وتخرجه من عزلته‏,‏ وتشده إلي غيره من أفراد الجماعة ليخاطبهم ويخاطبوه‏,‏ ويفكر معهم ويفكروا معه‏.‏

إحياء اللغة لا يتحقق إلا بالديمقراطية‏!.

(نقلاً عن الأهرام)

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا