قيثارة
أور الذهبية، المصنوعة من خشب الأرز
تنبعث من المقابر الملكية لتـَلِدَ طفلةً في بريطانيا
ليلى كوركيس - لبنان / كندا
كلهم غفوا.. وهي غارقة في حزنها، ترقبُ رحيلهَم في سكرةِ موتٍ
متدلٍ من شفاهِ صمتٍ عميقٍ غائرٍ في مقبرةٍ ملوكية الكـِنيـَة
والملامح.. كلهم رحلوا الا هي.
قيثارة أور الذهبية، الشاهدة على أهَم انتحارٍ جماعي لم
يـَتَمَكـَّن علماء الآثار من فك لغزه حتى اليوم، تُرزَق
بطفلةٍ
هي قيثارة جديدة . صغيرة بعمرها، كبيرة جداً بامتداد الصدى
التاريخي والفني الذي ورثته عن أمها المنكوبة والمسلوبة منذ أن
نُهِبَ المتحف الوطني العراقي في بغداد، اثر الحرب الأميركية
وسقوط النظام في نيسان 2003.
ما الذي سحر الفنان البريطاني آندي لوينغز كي يقرر إعادة تصنيع
قيثارة ذهبية جديدة
يطوف بها في الشرق الاوسط عزفا ورقصا وشعرا؟
ولماذا كان انبعاث هذه القيثارة حصرا على هذا الفنان
البريطاني؟
هناك مثل لبناني يقول "المال
السايب بيعلم الناس على الحرام". فهل نمتلك نحن
حضاراتنا، كي لا يخذلَنا التاريخُ في مسارِه جاراً وراءه
آثارنا نحو الغرب؟
قد تكون الأخبار السياسية والأمنية هي الرائدة في صحفنا ووسائل
إعلامنا، ومن الطبيعي جداً أن نتـَلَهـَّف للإطلاع عليها بحثاً
عن أملٍ ولو ضئيلٍ في آخر مطاف رحلتنا مع الحرب والسلام في
أوطاننا.
وإلى أن يهطلَ أمانٌ جديد فوق مساحاتنا العطشى ومظلاتنا
المطوية منذ عقود، هناك من يؤمن بأن للموسيقى لغة تتخطى حدود
الزمان والمكان مهما شاخت العصور في مكتباتنا.
فالإكتشافت والقراءات الاركيولوجية أثبتت أن الموسيقى قد
دخلت ضمن الميثولوجيا، كعنصر أساسي، في الطقوس الدينية وشعائر
الزواج، الموت، الانبعاث وفي كل ما هو مرتبط بالأفراح و
الأحزان.
ففي البدء، منذ خمس آلاف سنة، كانت هي .. واليوم لا زالت هي.
هي قيثارة أور الذهبية، المصنوعة من خشب الأرز، من القار
والصدف، البالغة من العمر
5000 سنة على وجه التقريب.
يعود تاريخ صنعها إلى 750 سنة
قبل بناء الهرم الكبير في مصر، وبهذا تكون هي أقدم تراث حضاري
إنساني.
دُفـِنت حية آلاف السنين مع الملكة السومرية بو آبي شبعاد
وحاشيتها، في إحدى مقابر أور الملكية في جنوب العراق.
ما هي قصة تلك المقابر؟
بدأ
التنقيب في المواقع الأثرية الواقعة في جنوب العراق سنة 1918،
لكنه ما لبث أن توقف لعدم توفر الإمكانيات المادية اللازمة. في
عام 1922، اثر تعاون تم بين المتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا
الأميركية، أُعيدَ مشروع التنقيب من جديد وذلك تحت إدارة عالم
الآثار البريطاني ليونارد ووللي الذي دأب على البحث الدقيق
لفهم ألغاز تلك المقابر الملكية المُكتـَشَفَة في مدينتي كيش
وأور. من أهم تلك الألغاز هو الذي كان ولم يزل يغلـِّف مقابر
أور (مدينة إبراهيم) الواقعة على ضفاف نهر الفرات وعلى مسافة
200 كلم باتجاه شمال-غرب مدينة البصرة. عُثِرَ في تلك المقابر
على حوالي 1850 قبر من النوع البسيط، المخصَّص لموتى عامة
الشعب. أما في الموقع السفلي فتمَّ اكتشاف ست عشرة مقبرة على
عمق عشرة أمتار من سطح الأرض. تبيَّن من النفائس
الكثيرة التي لا تُحصى والنقوش
والأختام الأسطوانية التي كانت بين الهدايا الجنائزية، أنها
كانت مقابر لملوك أور الأولى زوجاتهم. أهم هذه المدافن هو
القبر رقم 789 الذي خُصِّصَ للملك أبارجي وقبر رقم 800 لزوجته
الملكة بو آبي شبعاد. من الجدير ذكره انه اقترن اسم الملكة
شبعاد بالذوق الفني الرفيع باختيار أدوات مائدتها وزينتها
الذهبية الدقيقة الصنع والمرصعة بالأحجار الكريمة، مما يشير
الى المستوى الفني الذي كان يتمتع به عصر السلالات السومرية
الثالث حتى نهاية عصر السومري الحديث. هذا وارتفع عدد الجثث في
القبرين إلى 74 جثة من أتباع الملك وزوجته، رافقوهم إلى
الموت طوعاً بواسطة مشروب مسمم أدى إلى تخديرهم ومن ثم إلى
موتهم. ضمن بقايا تلك الجثث أربع عازفات وثلاث قيثارات. ورد في
التقارير الاركيولوجية :
"كانت يد العازفات ما تزال على أوتار آلة موسيقية حتى وقت
الاكتشاف، الأمر الذي يدل على أنها بقيت تعزف حتى آخر لحظة من
حياتها. وقد زُيِّنَتْ واجهةُ هذه الآلة الوترية أيضًا بعدد من
المَشاهد المرصعة الموضوعة بعضها فوق بعض. في الحقل الأول نجد
نسرًا برأس أسد يقبض بمخالبه على عنزتين؛ وفي الحقل الثاني
شجرةً يشبُّ عن يمينها ويسارها ثوران؛ وفي الثالث بطلاً في
هيئة هي مزيج من إنسان وثور يقهر نمرين؛ وفي الرابع صراعًا بين
أسد وثور. وجميع هذه المَشاهد تنتمي إلى دائرة الفن المصور
لعقيدة تموز وإنانا".
أما عقيدة الإله تموز والإلهة إنانا فهي تعني سر البحث عن
الموت والإنبعاث والخلود في الميثولوجيا السومرية
ويعلق السير ليونارد دولي على هذه المقابر التي اكتشفها بقوله:
"إن الملك السومري المتوفى
كان يصطحب معه جميع أفراد بلاطه وحاشيته. فهؤلاء المدفونين مع
الملك لم يكونوا من العبيد الذين أُجبِروا على الموت، بل من
الأتباع ذوي المكانة في القصر. وقد جاؤوا بكامل لباسهم الرسمي
إلى المقبرة لتأدية طقس طوعي من شأنه، في اعتقادهم، أن يعبُر
بهم من عالم إلى عالم آخر، ومن خدمة إله على الأرض إلى خدمة
نفس الإله في عالم ثانٍ. إن كلَّ الدلائل تشير إلى أن هؤلاء
المتطوعين قد وصلوا أحياء إلى المقبرة. ومن الجائز أنهم قد
تناولوا هناك شرابًا قاتلاً، وبعد مفارقتهم الحياة تمَّ ترتيب
جثثهم في وضعيتها الأخيرة قبل إغلاق القبر"
ما هي قصة القيثارات الثلاث وإعادة
تصنيع قيثارة معاصرة مشابهة بالصوت والصورة؟
احتفظ
العراق بالقيثارة الأكبر والأهم فعُرِضَت في متحف بغداد حتى تم
نهبـُهُ وتفكيك القيثارة بعد سرقة ذهبها وأحجارها الكريمة مع
تكسيرها، في نيسان 2003. أما الثانية فهي معروضة في المتحف
البريطاني في لندن والثالثة في متحف بنسلفانيا في الولايات
المتحدة الأميركية.
بعد اندلاع الحرب في العراق وخراب المتاحف، توجهت الأنظار نحو
الحضارات القديمة في "بلاد ما بين النهرين" وانصبت اهتمامات
علماء الآثار والفنون الأركيولوجية على المسروقات التي تتنقل
وتتجول بين أيدي تجار ومهربي الآثار.
تساءلت وسائل الإعلام الأوروبية وخاصة الفرنسية منها عن اهتمام
الأميركيين والجيوش الحليفة لهم بتوفير حماية مشددة على آبار
البترول في وقت كانت الرموز الحضارية تُنتَهَك في متحف بغداد
الذي يُسلب وتُكسر فيه النفائس وهم يتفرجون بحجة أنهم لم
يتلقـّوا أي أوامر لحماية المتاحف.
طبعاً، لن أدخل في تفاصيل موقف مماثل، فالأمر واضح جداً ولا
يتطلب إلى أي شرح.
تأثر الفنان البريطاني آندي لوينغز بخبر سرقة القيثارة وقرر
تشكيل لجنة من المتخصصين في علم الآثار والموسيقى لإحياء ذاكرة
التراب والطين من خلال تصنيع نسخة مماثلة للقيثارة
السومرية، بالشكل وبالمضمون. بدأت اللجنة العمل في 2003
وتوصلت إلى الحصول على المواد الأصلية التي منها القيثارة
الأم. تبرعت "الجمعية الإسلامية للمساعدات" في العراق بـ70 كلغ
من خشب الأرز وتكفلت القوات الملكية الحربية الانكليزية
بنقلها إلى بريطانيا. حصلوا على اللؤلؤ من دبي، حجر اللازَوَرد
من افغانستان، الذهب (عيار 24) من شركة
South
Africa -
Ango Gold Ashanti
في جنوب أفريقيا، القار هبة من متحف بغداد
تم تحصيله من الإمارات، والكلس الأحمر من جبال شمال العراق وهي
الجبال التي كانت تحيط بسومر القديمة. أما الأوتار وهي ثمانية
تمثل نبض الحياة في قلب القيثارة وهي مصنوعة من إمعاء الخروف
ومن تقدمة شركة
Bow Brand Strings
البريطانية.
لائحة المساهمين المخلصين في تحقيق حلم إعادة تصنيع القيثارة
الجديدة، هي لائحة طويلة جداً.
تحقق تنفيذ المشروع مع بداية عام 2006. وبدأت الرحلة . رحلة
القيمين على المشروع وعازفين من عدة دول مصطحبين "قيثارة اور
المعاصرة" ،للمشاركة في مؤتمرات ومهرجانات عن الموسيقى
والأركيولوجيا في اوروبا وأميركا مروراً بعدة دول عربية منها
الأردن، مصر، دبي.. والقافلة تسير...
ما هي علاقتي بالقيثارة ؟
لم
أعتد يوماً على الكتابة حين يُطلب مني موضوعاً محدداً. إني
متحررة من هذا الواجب ولم أرضَ به يوماً لنفسي إلا ضمن إطار
دراستي الجامعية.
في يوم ٍ من الأيام وأنا مصلوبة أمام الكمبيوتر وشاشته
الفارغة،.."تـُطنطِنُ" رسالة الكترونية ويرتسمُ مغلفٌ ضاحكٌ في
الزاوية اليمنى من شاشة الكومبيوتر. أنقر المغلف ماسحة
الإصفرار عن وجهه فيبتسم لي ويفتح لي صفحة مذيلةً باسم شخص لا
أعرفه يُدعى آندي لوينغز. يقول في رسالته بأن صديق له أعطاه
عنواني بعد أن اطلع على بعض قصائدي ووجد فيها الكثير من الرموز
التاريخية والميثولوجية. دعاني آندي في رسالته إلى الإطلاع على
مشروع القيثارة على أمل أن يكون مصدر إلهام لي كي أكتب أي
كلمة أو سطر أو قصيدة عن القيثارة المنبعثة، دعماً لهم
ومشاركةً مني بالمشروع.
اطلعتُ على كل النشاطات وتحققت من جدية الأهداف وقرأت الكثير
الكثير عن تاريخ القيثارة وحضارات بلاد ما بين النهرين قبل أن
أكتب قصيدة "قيثارة في عين الشمس" التي أذيعت كمقدمة للحفل
الموسيقي الذي أقيم في العقبة-الأردن في شهر كانون الأول من
عام 2006. في الواقع أن القصيدة قد لاقت ترحيباً من قبل الحضور
ووزير الثقافة وممثلين عن اليونسكو.. فابتدأ المشوار وأعيد
إلقاؤها في عدة نشاطات أخرى أُقيمت في عدة دول عربية.
لكن يبدو أن الكرة الصغيرة لم تكتفِ بالبلل بالماء فقط بل
تمرَّغَت بالثلوج لتكبر وتصبح عملاً فنياً اتـَّحدَت فيه
الكلمة مع الموسيقى والرقص. اني سعيدة بأن أشارك قراء "الجريدة"
بفرحتي بهذا الإنجاز الذي من خلاله ساهمت بعض كلماتي، ولو
بالقليل القليل، بعمل فني راقٍ أفخر به وأعتبره محطة لا يتوقف
عندها تاريخ قيثارة اور الذهبية بل تنطلق منها مرحلة جديدة
لقصة يبدأ تاريخها في عصرنا الحالي كي يصل من يدري إلى أين ..
بدأت الحكاية حين شاءت الصدفة أن يستمع إلى تسجيل القصيدة آلن
سينور وهو مدرس لرقص الباليه في جامعة آيوا بالولايات المتحدة
الأميركية. أعجبته الموسيقى في الإلقاء وقرر أن يصمم على
إيقاعها مشهداًً راقصاً من الباليه الكلاسيكي، من إنتاج
الجامعة نفسها.
تبدأ الرقصة بإلقاء للقصيدة مسجل بصوتي، يرافقه مشهد راقص تعبر
عنه الباليرينا كلارا ليفينغستون في تجسيد للقيثارة وهي تروي
موتها وانبعاثها. أما المشهد الثاني فيتضمن انتحار وموت عازفة
القيثارة. تعبر عنه، مرة أخرى، الباليرينا ليغا مينا بالإشتراك
مع كلارا ليفينغستون على أنغام معزوفة "الطيور في الشتاء"
بريلود4. تجدر الإشارة الى أن آلن سينور قد إستند الى الترجمة
الحرفية للنص باللغة الانكليزية كي تعبر الخطوات والايماءات عن
مضمون القصيدة.
لمشاهدة الرقصة يُرجى النقر على الرابط التالي:
http://www.danceofdelight.com/Gallery/Lyre_of_Ur_videos/USA-dance-flash-page-2.html
للمزيد من المعلومات عن القيثارة المنبعثة والتي تعزف على
مسارح عصرنا
http://www.lyre-of-ur.com/events.htm
قيثارة ٌ في عين الشمس
في البدءِ كنتُ "أنا"
وفي النهايةِ "أنا"
قيثارة ٌ .. في عين ِ الشمس ِ أهدلُ
..
في شروقِها أعزفُ نغمات ِ المدن ِ
وتأوهاتِ القصب ِ على أهدابِ الصمتِ
..
في غروبها أنزلُ أدراجي أميرة ً
أغيبُ خلفَ مدى اللحن ِ
أعانقُ الأمكنة َ والأزمنة َ في سفري
أهتفُ للأرض ِ
"أمي انتِ .. لا تيأسي!"
تبدَّدَت كل العصور ِ الا وجهَكِ ولغتي!
نَفَضوا عن حنجرتي وأوتاري رمادَ الموتِ
لملموا أشلائي ..
رَصَّعوها بالذهبِ الخالص ِ
بخشبِ الأرز ِ
بالقار ِ وبالصَدَفِ
فلا تحزني
..
عائدة ٌ أنا . أهتفُ لأور والكَهَنَة ُ من حولي
ننادي "بو-آبي-شبعاد" .عودي وفي النهرين اغتسلي..
قالوا: "اصمتي!
قد هَجَرَت آلِهتُكِ الهياكلَ والأدعية َ
أَلَم تيأسي؟"
أجبتهم بِصرخةِ "لا" مدوية ً
"أبنائي كَطيفي .. في الغيابِ لا يرحلوا
أَراهم يمتطونَ أجنحة َ ثيران ٍهائجةٍ
يحملون الشمسَ على كفٍ
وعلى الثاني قيثارة تعزفُ
موسيقى سقطت في كتب الأمجاد في غفلةٍ
ومع نفخةِ التراب عن أوتاري استيقظت تصدحُ
..
بلادي .. ما بين النهرين لا زالت تقاومُ
جمعتُ مزاميرَ الوجودِ
لها .. وأقسمتُ
اني سأظلُ أعزفُ
كحفيفِ الورقِ
كخرير المياهِ
كصفير ِ الريح ِ في الوديان ِ
وعلى الجبال ِ أعصفُ
..
خالدة ٌ أنا وفية ٌ لأصلي
أنا بدء النطق ِ
أنا أجملُ فن ٍ
أنا ثابتة ٌ كالمحور ِ
تدور من حولي الأشياءُ في دوامتِها
وانا روحُ الطبيعةِ في توبتي وفي آثامي أكبرُ
أنا صوتٌ بحجم ِ الحياةِ
أنا..
قيثارة ٌ في عين ِ الشمس ِ أعزفُ