رأيت الأسى في عيون
الحياة ، في أريج الأزهار ، في هديل الحمام ، في
خفق أجنحة الطير ، في خلجات النفوس ، في تعابير
الأطفال ، في الندى يفتش عن أوراق الشجر عند كل
صباح ، فانخلع قلبي من مكانه ، وسارعت الهموم
تضمني ، فاستوى عقلي لها .
وأنصت الى بوح العطر
، فقر في أذني بكاء .. قد أصر كل شيء على افترار
ابتسامة ، لكنها الآلام شقتها بالأحزان ، وأبت كل
يد الا بناء ، فسقت الدمعة كل لبنة من اللبنات ،
ومشت كل نفس الى قبر عزيز ، وسعت الجموع الى خيام
، بعد أن استحالت بيوتاتها ، بشدة النار الى ركام
.
وقامت كل قدم الى
رزقها ، فزادها القفز بين النيران جوعا الى الحياة
، والى أن جاء وقت زراعة القمح ، لم يعرف أحد ،
كيف تكون الحراثة والزراعة في الهواء .
ذهبت الأرض ،
استوطنتها نيران الغرباء ، فلا مزرعة تقول : خذ من
يدي طعامك ، يا صاحب الأرض ، أنت أيها الانسان ،
ولا زيتون ينادي : خذني غذاء ، تغذى به ، فيشتد
عودك فتقوى على مصائب الزمان . تجردت الظروف من كل
خير . لم يبق من الخير ، سوى تلك العزيمة ، التي
استوطنت ، تحت جلد الانسان . تلك الارادة هي التي
بقيت تبعث الأمل ، بأن القادم هو عصر الأمان . تلك
الحرية هي التي تتسابق اليها النيران ، فكم من سهم
، فتشت به طائرة عن اخراج هذه الحرية ، من حركة
الحياة .. ويا ما أشد العذاب ، الذي لم يزل يتساقط
، على جلد القلب الراسف في القيد ، تنقيبا عن
أسرار حركة هذه الحرية ، في ادارة الصراع . قد
تصدعت أشياء وأشياء ، وحتى الأرض تشققت ، من شدة
الضغط الكامن فيها ، وما تصدع وعي ، صاغته حرية ،
تبشر الاحتلال بالهذيان .
يضغط الاحتلال راغبا
، في جعل الشيء يخرج من كونه من الأشياء ، فالزرع
أن يتحول قشا ، والشجر حطبا ، والبيت لا بيتا ،
والانسان لا انسانا ، أو ساكنا قبرا بين القبور ،
فينتفي الوجود . هو هذا ما تنطق به ألسنة النار ،
وهو طريقها الى سلام ، فشرطها للسلام أن يكون مع
اللاوجود .
فاذا ثمة وجود ،
فاللاوجود أولا ، فعندها يصبح الاحتلال كاملا ،
وعندها يبحث له عن مشروع سلام مع أهل القبور .
فتلك نيرانه تعانق الأشجار ، وتتخلل أحواط البيوت
، وتصخب على أجسام البشر ، صائحة الرماد الرماد .
فطريق السلام يمر عبر تحويل كل شيء الى رماد .
الرماد اختصار مادة
الوجود ، في حجم أقل مما كانت عليه ، قبل أن
تتناولها النيران . الرماد حل لاشكالية ، ينطق بها
ضيق المكان . فالجبال والسهول والوديان ، قد تقلصت
، ولم يعد فيها مكان لترابها ولا لحجارتها ، فهي
من بقايا قبور لأجداد ينحدر منهم صاحب المكان .
فأن تؤول الى الصفر ، الى الغربة ، تلجأ الى
اللجوء ، أو تأتيها النيران ، لتأخذ بيدها الى
رماد . هكذا الحال ، اذا حل الجنون ، فناره تنتهب
أثواب الحقيقة وجواهر الزمان .
اذا امتلك من لا عقل
له قوة ، واستوى على الدجل ، على أنه الحقيقة ،
وتلازما معا اللاعقل والدجل ، فذاك الجنون الذي في
علاقته بحقائق الأشياء ، ليس لديه سوى نار الجنون
، وجنون ناره ، لا يترك سوى الرماد . فكيف الذي
أحاطت به النيران ، لا تحركه الرغبة في الحياة .
كيف لا تكون أجزاؤه أداته في حفظ وجوده ، بدلا من
التحول الى رماد . كيف لا يكون بعضه حفظا لبعضه ،
في صراعه مع النيران . كيف يكون مطلوبا منه أن لا
يستعمل قوى الحياة ، في حفظ بعض من حياة .
كيف يقال للذي تأكل
النار أثوابه ، انتظر ، واياك أن تفعل شيئا، حتى
تصبح رمادا . كيف يقال له ، اذا أبديت مقاومة
للنار ، فانتظر أسوأ العذاب . هل هناك أسوأ من
الأسواء في السوء ، حتى يبز سوؤه السوء الذي في
الانتظار .
المقاومة فيزياء
الأشياء ، فأي ازاحة لأي شيء من مكانه ، تلازمها
مقاومة تقاوم الزحزحة من المكان .
فاللاجىء ما تزحزح
من مكانه ، من دون القوة وما بها من عصف وقسر
وارغام . ولا كان ممكنا لمن شبت النار في جسمه أن
لا يقاوم النيران ، وما كانت المقاومة لهوا ولعبا
، وانما صدا للعدوان .
اللاعقل وحده الذي
يغمر الواقع بالأوهام . العقل وعي صريح ، بأن
الحياة ترفض أن تقدم نفسها طعاما للنيران .
فمن يطفىء النار ؟ ،
الموت أم الحياة ، أم هي جدلية الموت والحياة ،
التي ينبثق عنها الادراك الجماعي ، المحرك للكيفية
التي يكون عليها اسقاط النار ، من قدرتها على
استحصال الركوع ، من وضعية الاختيار بين الحياة أو
الرماد .
فاذا من حصدته النار
ومات ، قد تبوأ وضعا في الوعي يعطيه حريته في
الحياة ، فان الموت يصبح اضافة في الحرية ، التي
توقد جذوة التصدي للنار التي اندلعت ، وأعلنت
بفصيح العبارة ، بأنها تصر على أن تجعل الموت
وسيلتها الى خضوع الحياة .
فالنار على سعارها ،
قد أنتجت ضدها الذي لا تريد أن تراه ، ولن تقر
بوجوده ، الا حين ارتباكها وتصدعها ، وهي آيلة الى
ذلك ، ولا مفر ، والسبب يعود الى أنها فقدت قدرتها
على الاستمرار ، وذلك بفضل اللاعقل الذي يسوقها .
هذا ما قالته لي أمي ، وقد عدت اليها بكل هموم
الواقع ومشكلاته ، أضعها بين يدي عقلها .
لكني وأنا أمشي في
شوارع الصراع ، رأيت الناس أمثالي ، يلبسون
أكفانهم ، ومن حركاتهم وألفاظهم ، أطلت دلالات على
أعزاء يسكنونهم ، يزيدون في طاقاتهم ، ولا يدعونهم
ينشغلون بجرح أو ألم ، ولا بهم غير الهم الأول في
الهموم ، وهو أن تنطفىء النار .
وعندها لم أعرف فرقا
بين عزيز بين أطواق القبر ، قد أخذ دوره في أدارة
دفة الصراع ، وبين حي يأخذ على عاتقه أعباء الصراع
، فمن يدير الصراع في مواجهة النار . أقتربت من
نفسي وسألتها ، هل أنت حقيقة قبر أم أنك القبر
المتحرك في الحياة .
لماذا المقبرة
تمتلكني ، تفكر لي ، تحركني . فمن ترانا على قيد
الحياة ، المقبرة أم أنا ، أم كلانا في تناغم
وجودي يقيم للأمل في الأرض قواعد الحياة .
قلت يا أمي ،
أريحيني برؤية ، تدلني على حقيقة غدي ، أفهميني
فأرى دربا ، يأخذني الى فجر ، يلتقيني فيه وجودي
، مع الحلم في الحرية الذي يلبسني ، ولا شيء غيره
يشغلني . قالت ، وهي دامعة وتشيع الهموم في امارات
وجهها ، يا بني ، اذا رأيت الدموع في عيون الكرامة
، فتلك هي العزة ، قد ثارت ثائرتها ، فأستنفرت
عزائمها ، فانتظر البناء في قيامته ، لحظة ترى
حرارة الدمع ، تحفر في المآقي ، وتشوي الخدود .
فرياح الأحزان ، اذا هبت على شجر ، ومزقت الأغصان
، أو قصفت الفروع ، أو زلزلت الأرض ، وهزت الجذع
من كل شجرة ، فذلك ايذان ببدء زمن ، تختار فيه
ارادة المحزون بين أن تكون أو لا تكون .
قلت كيف يعاود
القيامة ، من يتمزق كيانه ، أيكون في التمزق وعي ،
يدري به الممزق كيف يكون . هل الضعف في جوهره ،
غير ما ينبىء به ظاهره . هل في تراكيبه بذرة قوة ،
تكتشف ذاتها ، وسط اللهب ، وتعرف ماءها وهواءها
ودورها ، فتضرب جذرها ، وتطل برأسها من تحت التراب
. هل هذا جوهر الضعف ، وهل كل ضعف ، هذا هو جوهره
، أم أن ضعفنا شيء ، غير كل ضعف في تاريخ الوجود .
هل أقول، بأن ما نراه ضعفا في ذاتنا ، ليس في
حقيقته كما يبدو ، وانما هو الظاهر الذي تحته
الجمر ، وليس بذاته الضعف الآيل لأي نوع من خضوع .
هل تخرج من أطواق القبر حياة تقيم للحياة رافعة ،
تنتشلها من الكابوس الذي يكبس على أنفاسها ، ثم
تؤثث لآليات تعاد بها صياغة الوجود من جديد .
هات منك يا أمي فهما
لصراع ، يا ما أقساه ، أحيانا ، في استوائه ،
بالارتباك والحيرة على الأفهام .
قالت وهي تضغط بيدها
على جرح ، في يدها الأخرى : يا بني ، اذا جاءت
الأعاصير ، فأعتصارها فهما لأسبابها ، ثم تعطيل كل
فاعلية لهذه الأسباب . وعندها لا تجدها تعلن عن
نفسها . الأعاصير تخريب ، خراب ، فاذا تمكنا من
تخريب كل أمكانية لكل تخريب ، نكون قد حوطنا
أنفسنا وديارنا ، من كل امكانية لحدوث أي خراب .
التخريب – يا ولدي –
هو التخريب ، جاء بعوامل خارجية أم داخلية ، فهو
التخريب ، وأخطر التخريب ، أن تجد العوامل
الخارجية عاملا داخليا يخدمها ، وليس أخطر على
التخريب ، من جبهة داخلية متماسكة صلبة ، لا سبيل
الى أختراقها .
يا ولدي ، قد كان
المخربون عبر التاريخ ، يرون خبزهم في ما ينجزونه
من خراب ، ولم يروا الغضب الذي يتركونه من جراء ما
قاموا به من تخريب ، ولا انتبهوا الى ما له من
قدرة على الجمع والتحريك ، الى أن فوجئوا بالحيرة
والارتباك ، فكل الطرق غدت مسدودة الى ما كانوا
بقوتهم اليه يلهثون .
المخربون أسارى
أيديولوجية الخراب ، فليس لديهم ما يقدمونه ، في
خلال علاقتهم بالآخرين سوى التخريب . ولذلك هم
تمنطقوا بأسوار ، لا زال يدق عليها الغضب الرافض
لكل تخريب . المخربون قد أخربوا نفوسهم ، من
داخلها ، اذ اشبعوها بفكرة الخراب ، ولو لم يفعلوا
، ما أمتدت أيديهم الى غيرهم بتخريب .
وقد كانت دوما فكرة
الخراب ، في النفس الخراب ، ولادة النزعة الى
التخريب .
وما استقرت حياة
جاءها رزقها من تخريب ، ولا أتزنت ودامت أعمدة بيت
، انزرعت في جماجم الأطفال ، وصدور المحزونين ..
تشققت من حرارة ، فاه بها الجراح ، ونطقت بها
الأحزان .
فلم تكن للخراب
رسالة ، سوى أن تكون الضد ، من عمارة الأرض ، التي
هي رسالة الأنسان .
فالخراب طارىء
ويمضي ، والتخريب ألم عابر في ذاكرة الزمان
، فكم من مدينة في الدنيا ، اذا مشيت فيها ، لا
يدلك شيء في جمالها على خراب مشى فيها ، بينما أذا
أنت قرأت في تاريخها ، أو ذهبت الى ذاكرة فيها ،
أدركت بأن ما جرى في رفح وجنين وبغداد بعض من خراب
، كان قد نزل فيها .
المخربون عابرون ،
ولا مفر يتكومون ، في تجاويف كلمات ، يسردها
التاريخ تفصيلا ، في صفحات سود .. فان كانوا نشروا
اليبس في الشجر ، أو جففوا الأبتسامة من شفاه
الأزهار ، أو زادوا في اتساع المقابر ، أو امتصوا
من البيوت صفة المأوى ، فان أنفاس الجبال ، كانت
ولم تزل ، كفيلة في عودة الأبتسامة ، الى الأزهار
في الشرفات .