ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

الخراب

محمد يوسف جبارين ( ابوسامح) - أم الفحم / فلسطين

 

رأيت الأسى في عيون الحياة ، في أريج الأزهار ، في هديل الحمام ، في خفق أجنحة الطير ، في خلجات النفوس ، في تعابير الأطفال ، في الندى يفتش عن أوراق الشجر عند كل صباح ، فانخلع قلبي من مكانه ، وسارعت الهموم تضمني ، فاستوى عقلي لها .

وأنصت الى بوح العطر ، فقر في أذني بكاء .. قد أصر كل شيء على افترار ابتسامة ، لكنها الآلام شقتها بالأحزان ، وأبت كل يد الا بناء ، فسقت الدمعة كل لبنة من اللبنات ، ومشت كل نفس الى قبر عزيز ، وسعت الجموع الى خيام ، بعد أن استحالت بيوتاتها ، بشدة النار الى ركام .

وقامت كل قدم الى رزقها ، فزادها القفز بين النيران جوعا الى الحياة ، والى أن جاء وقت زراعة القمح ، لم يعرف أحد ، كيف تكون الحراثة والزراعة في الهواء .

ذهبت الأرض ، استوطنتها نيران الغرباء ، فلا مزرعة تقول : خذ من يدي طعامك ، يا صاحب الأرض ، أنت أيها الانسان ، ولا زيتون ينادي : خذني غذاء ، تغذى به ، فيشتد عودك فتقوى على مصائب الزمان . تجردت الظروف من كل خير . لم يبق من الخير ، سوى تلك العزيمة ، التي استوطنت ، تحت جلد الانسان . تلك الارادة هي التي بقيت تبعث الأمل ، بأن القادم هو عصر الأمان . تلك الحرية هي التي تتسابق اليها النيران ، فكم من سهم ، فتشت به طائرة عن اخراج هذه الحرية ، من حركة الحياة .. ويا ما أشد العذاب ، الذي لم يزل يتساقط ، على جلد القلب الراسف في القيد ، تنقيبا عن أسرار حركة هذه الحرية ، في ادارة الصراع . قد تصدعت أشياء وأشياء ، وحتى الأرض تشققت ، من شدة الضغط الكامن فيها ، وما تصدع وعي ، صاغته حرية ، تبشر الاحتلال بالهذيان .

يضغط الاحتلال راغبا ،  في جعل الشيء يخرج من كونه من الأشياء ، فالزرع أن يتحول قشا ، والشجر حطبا ، والبيت لا بيتا ، والانسان لا انسانا ، أو ساكنا قبرا بين القبور ، فينتفي الوجود . هو هذا ما تنطق به ألسنة النار ، وهو طريقها الى سلام ، فشرطها للسلام أن يكون مع اللاوجود .

فاذا ثمة وجود ، فاللاوجود أولا ، فعندها يصبح الاحتلال كاملا ، وعندها يبحث له عن مشروع سلام مع أهل القبور . فتلك نيرانه تعانق الأشجار ، وتتخلل أحواط البيوت ، وتصخب على أجسام البشر ، صائحة الرماد الرماد . فطريق السلام يمر عبر تحويل كل شيء الى رماد .

الرماد اختصار مادة الوجود ، في حجم أقل مما كانت عليه ، قبل أن تتناولها النيران . الرماد حل لاشكالية ، ينطق بها ضيق المكان . فالجبال والسهول والوديان ، قد تقلصت ، ولم يعد فيها مكان لترابها ولا لحجارتها ، فهي من بقايا قبور لأجداد ينحدر منهم صاحب المكان . فأن تؤول الى الصفر ، الى الغربة ، تلجأ الى اللجوء ، أو تأتيها النيران ، لتأخذ بيدها الى رماد . هكذا الحال ، اذا حل الجنون ، فناره تنتهب أثواب الحقيقة وجواهر الزمان .

اذا امتلك من لا عقل له قوة ، واستوى على الدجل ، على أنه الحقيقة ، وتلازما معا اللاعقل والدجل ، فذاك الجنون الذي في علاقته بحقائق الأشياء ، ليس لديه سوى نار الجنون ، وجنون ناره ، لا يترك سوى الرماد . فكيف الذي أحاطت به النيران ، لا تحركه الرغبة في الحياة . كيف لا تكون أجزاؤه أداته في حفظ وجوده ، بدلا من التحول الى رماد . كيف لا يكون بعضه حفظا لبعضه ، في صراعه مع النيران . كيف  يكون مطلوبا منه أن لا يستعمل قوى الحياة ، في حفظ بعض من حياة .

كيف يقال للذي تأكل النار أثوابه ، انتظر ، واياك أن تفعل شيئا، حتى تصبح رمادا . كيف يقال له ، اذا أبديت مقاومة للنار ، فانتظر أسوأ العذاب . هل هناك أسوأ من الأسواء في السوء ، حتى يبز سوؤه السوء الذي في الانتظار .

المقاومة فيزياء الأشياء ، فأي ازاحة لأي شيء من مكانه ، تلازمها مقاومة تقاوم الزحزحة من المكان .

فاللاجىء ما تزحزح من مكانه ، من دون القوة وما بها من عصف وقسر وارغام . ولا كان ممكنا لمن شبت النار في جسمه أن لا يقاوم النيران ، وما كانت المقاومة لهوا ولعبا ، وانما صدا للعدوان .

اللاعقل وحده الذي يغمر الواقع بالأوهام . العقل وعي صريح ، بأن الحياة ترفض أن تقدم نفسها طعاما للنيران .

فمن يطفىء النار ؟ ، الموت أم الحياة ، أم هي جدلية الموت والحياة ، التي ينبثق عنها الادراك الجماعي ، المحرك للكيفية التي يكون عليها اسقاط النار ، من قدرتها على استحصال الركوع ، من وضعية الاختيار بين الحياة أو الرماد .

فاذا من حصدته النار ومات ، قد تبوأ وضعا في الوعي يعطيه حريته في الحياة ، فان الموت يصبح اضافة في الحرية ، التي توقد جذوة التصدي للنار التي اندلعت ، وأعلنت بفصيح العبارة ، بأنها تصر على أن تجعل الموت وسيلتها الى خضوع الحياة .

 

فالنار على سعارها ، قد أنتجت ضدها الذي لا تريد أن تراه ، ولن تقر بوجوده ، الا حين ارتباكها وتصدعها ، وهي آيلة الى ذلك ، ولا مفر ، والسبب يعود الى أنها فقدت قدرتها على الاستمرار ، وذلك بفضل اللاعقل الذي يسوقها . هذا ما قالته لي أمي ، وقد عدت اليها بكل هموم الواقع ومشكلاته ، أضعها بين يدي عقلها .

لكني وأنا أمشي في شوارع الصراع ، رأيت الناس أمثالي ، يلبسون أكفانهم ، ومن حركاتهم وألفاظهم ، أطلت دلالات على أعزاء يسكنونهم ، يزيدون في طاقاتهم ، ولا يدعونهم ينشغلون بجرح أو ألم ، ولا بهم غير الهم الأول في الهموم ، وهو أن تنطفىء النار .

وعندها لم أعرف فرقا بين عزيز بين أطواق القبر ، قد أخذ دوره في أدارة دفة الصراع ، وبين حي يأخذ على عاتقه أعباء الصراع ، فمن يدير الصراع في مواجهة النار . أقتربت من نفسي وسألتها ، هل أنت حقيقة قبر أم أنك القبر المتحرك في الحياة .

لماذا المقبرة تمتلكني ، تفكر لي ، تحركني . فمن ترانا على قيد الحياة ، المقبرة أم أنا ، أم كلانا في تناغم وجودي يقيم للأمل في الأرض قواعد الحياة .

قلت يا أمي ، أريحيني برؤية ، تدلني على حقيقة غدي ، أفهميني فأرى دربا ، يأخذني الى فجر ، يلتقيني فيه وجودي  ، مع الحلم في الحرية الذي يلبسني ، ولا شيء غيره يشغلني . قالت ، وهي دامعة وتشيع الهموم في امارات وجهها ، يا بني ، اذا رأيت الدموع في عيون الكرامة ، فتلك هي العزة ، قد ثارت ثائرتها ، فأستنفرت عزائمها ، فانتظر البناء في قيامته ، لحظة ترى حرارة الدمع ، تحفر في المآقي ، وتشوي الخدود . فرياح الأحزان ، اذا هبت على شجر ، ومزقت الأغصان ، أو قصفت الفروع ، أو زلزلت الأرض ، وهزت الجذع من كل شجرة ، فذلك ايذان ببدء زمن ، تختار فيه ارادة المحزون بين أن تكون أو لا تكون .

قلت كيف يعاود القيامة ، من يتمزق كيانه ، أيكون في التمزق وعي ، يدري به الممزق كيف يكون . هل الضعف في جوهره ، غير ما ينبىء به ظاهره . هل في تراكيبه بذرة قوة ، تكتشف ذاتها ، وسط اللهب ، وتعرف ماءها وهواءها ودورها ، فتضرب جذرها ، وتطل برأسها من تحت التراب . هل هذا جوهر الضعف ، وهل كل ضعف ، هذا هو جوهره ، أم أن ضعفنا شيء ، غير كل ضعف في تاريخ الوجود . هل أقول، بأن ما نراه ضعفا في ذاتنا ، ليس في حقيقته كما يبدو ، وانما هو الظاهر الذي تحته الجمر ، وليس بذاته الضعف الآيل لأي نوع من خضوع . هل تخرج من أطواق القبر حياة تقيم للحياة رافعة ، تنتشلها من الكابوس الذي يكبس على أنفاسها ، ثم تؤثث لآليات تعاد بها صياغة الوجود من جديد .

هات منك يا أمي فهما لصراع ، يا ما أقساه ، أحيانا ، في استوائه ، بالارتباك والحيرة على الأفهام .

قالت وهي تضغط بيدها على جرح ، في يدها الأخرى : يا بني ، اذا جاءت الأعاصير ، فأعتصارها فهما لأسبابها ، ثم تعطيل كل فاعلية لهذه الأسباب . وعندها لا تجدها تعلن عن نفسها . الأعاصير تخريب ، خراب ، فاذا تمكنا من تخريب كل أمكانية لكل تخريب ، نكون قد حوطنا أنفسنا وديارنا ، من كل امكانية لحدوث أي خراب .

التخريب – يا ولدي – هو التخريب ، جاء بعوامل خارجية أم داخلية ، فهو التخريب ، وأخطر التخريب ، أن تجد العوامل الخارجية عاملا داخليا يخدمها ، وليس أخطر على التخريب ، من جبهة داخلية متماسكة صلبة ، لا سبيل الى أختراقها .

يا ولدي ، قد كان المخربون عبر التاريخ  ، يرون خبزهم في ما ينجزونه من خراب ، ولم يروا الغضب الذي يتركونه من جراء ما قاموا به من تخريب ، ولا انتبهوا الى ما له من قدرة على الجمع والتحريك ، الى أن فوجئوا بالحيرة والارتباك ، فكل الطرق غدت مسدودة الى ما كانوا بقوتهم اليه يلهثون .

المخربون أسارى أيديولوجية الخراب ، فليس لديهم ما يقدمونه ، في خلال علاقتهم بالآخرين سوى التخريب . ولذلك هم تمنطقوا بأسوار ، لا زال يدق عليها الغضب الرافض لكل تخريب . المخربون قد أخربوا نفوسهم ، من داخلها ، اذ اشبعوها بفكرة الخراب ، ولو لم يفعلوا ، ما أمتدت أيديهم الى غيرهم بتخريب .

وقد كانت دوما فكرة الخراب ، في النفس الخراب ، ولادة النزعة الى التخريب .

 وما استقرت حياة جاءها رزقها من تخريب ، ولا أتزنت ودامت أعمدة بيت ، انزرعت في جماجم الأطفال ، وصدور المحزونين .. تشققت من حرارة ، فاه بها الجراح ، ونطقت بها الأحزان .

فلم تكن للخراب رسالة ، سوى أن تكون الضد ، من عمارة الأرض ، التي هي رسالة الأنسان .

فالخراب  طارىء ويمضي ، والتخريب  ألم عابر في ذاكرة الزمان ، فكم من مدينة في الدنيا ، اذا مشيت فيها ، لا يدلك شيء في جمالها على خراب مشى فيها ، بينما أذا أنت قرأت في تاريخها ، أو ذهبت الى ذاكرة فيها ، أدركت بأن ما جرى في رفح وجنين وبغداد بعض من خراب ، كان قد نزل فيها .

المخربون عابرون ، ولا مفر يتكومون ، في تجاويف كلمات ، يسردها التاريخ تفصيلا ، في صفحات سود .. فان كانوا نشروا اليبس في الشجر ، أو جففوا الأبتسامة من شفاه الأزهار ، أو زادوا في اتساع المقابر ، أو امتصوا من البيوت صفة المأوى ، فان أنفاس الجبال ، كانت  ولم تزل ، كفيلة في عودة الأبتسامة ، الى الأزهار في الشرفات .

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا