تستند المعمارية الروائية إلى ثلاثة مرتكزات أساسية هي:
الاستهلال والمتن ( العرض) والخاتمة(النهاية/التذييل...)،
وغالبا مايكون عرض الأحداث أكبرحجما منهما من حيث عدد الصفحات.
وقد يكون الاستهلال أكبر من الخاتمة أو مساويا لها أو اقل
منها. إذاً، ماهو الاستهلال الروائي؟ وما خصوصياته على مستوى
البنية والدلالة والوظيفة؟
-
مفهوم الاستهلال:
غالبا ما تستهل الرواية بمقدمة أو بداية للدخول إلى عالم
الأحداث لعرضها، أو بافتتاحية سردية. وهي مستلهمة من افتتاحية
الأوبرا لأنها تمثل وحدة فنية مستقلة بالرغم من ارتباطها
بالعمل ككل كما أنها تقدم بعض التيمات التي ستتطور فيما بعد.1
ويعد الاستهلال من أهم عتبات النص الموازي التي تحيط بالنص
الأدبي خارجيا، وهو أيضا من أهم عناصر البناء الفني سواء في
الشعر أم الرواية أم الدراما. ويعتبر كذلك بمثابة مدخل أساسي
لولوج عالم الرواية الحكائي إذ يرتبط به علاقة تواصلية حقيقية.
وهو يساهم في استكناه النص الروائي: تشكيلا ودلالة.
-
مواصفات الاستهلال:
كانت الكتب اللغوية والبلاغية والنقدية القديمة والحديثة على
السواء تلصق بالاستهلال صفات توحي بضرورة تجويده وإتقانه منها
: صفة البراعة، وتشترط فيه شروطا تخص الجانب الفني واللغوي
والبلاغي والفكري. وكان يشترط أن تكون البداية مثيرة وقوية شأن
أي بداية نلاحظها في مستهل عمل إبداعي. ويقول الباحث العراقي
ياسين النصير:" ويمتلك الاستهلال الروائي توازنا داخليا إن
فقده الروائي أو لم يحسن بناءه تخلخل العمل. وله قدرة على
التركيز والإيحاء والتأويل. لايضعك الاستهلال دفعة واحدة في
صلب العمل ولا يحوم كذلك حول العمل؛ وإنما يمهد لك الطريق إلى
أسرار العمل الداخلية. إنه أشبه بمفتاح باب البيت الكبير. إلا
أن الاستهلال الروائي يمتلك خصوصية. إنه يوجد في كل بناء فني
كبير، فهو موجود في المسرحية وفي القصائد الدرامية. ذلك لأن
الصفة الروائية له، تعني تعددا في أصواته وتشعبا في عناصره
وبناءاته"2.
وهذا ما ينطبق أيضا على الاستهلال الشعري الذي له علاقة وطيدة
وفنية بالخروج أو حسن التخلص الذي يؤدي بدوره إلى الانتهاء.
وقد شكل منذ القديم سمة أسلوبية حرص عليها الشعراء كما يؤكد
ابن رشيق القيرواني حين يقول:" ينبغي للشاعر أن يجود ابتداء
شعره، فإنه أول مايقرع السمع".3
وفي الخطاب الدرامي يستدعي الاستهلال PROLOGUE حلقتين
متكاملتين هما: الحوارDIALOGUE والنهايةEPILOGUE.
-
أهمية الاستهلال ومكوناته في النص الروائي:
وهكذا فالاستهلال يقوم بدور هام في بناء النص الروائي وتحبيكه:
تمطيطا وتشويقا وإثارة للمتلقي. فهو يهدف إلى تقديم الأحداث
والتمهيد لها إما تأطيرا وإما تبيانا للجو الذي ستنجز فيه
الوظائف السردية. إذ يتدخل الراوي ليعرف لنا الفضاء الروائي
بمافيه المكان والزمن اللذين من خلاله يفتتح السارد سرده.
وغالبا ما يقع في الفصل الأول من الرواية، ويضفي على العمل
وحدته النصية الكلية.
إذاً، فالاستهلال عبارة عن تعريف وتحفيز روائي للحدث وتقديم
إجمالي، ويتضمن مجموعة من المكونات تتمثل في إبراز الشخصيات
الروائية: رئيسة كانت أم ثانوية؛ وتحديد الفضاء الروائي
والتمهيد للحدث الرئيس الذي ستنصب عليه الرواية في العرض:
استقراء ووصفا وتفصيلا. ويتنوع هذا الاستهلال الذي تبتدئ به
الرواية من حيث الحيز الفضائي من رواية إلى أخرى. وغالبا ما
يطول في الرواية الواقعية ويقصر إيجازا واختصارا في الرواية
الجديدة. بل قد ينعدم في بعض النصوص اللاروائية.
-
الاستهلال في الرواية الواقعية والرواية الجديدة :
غالبا ماكان ينصب الاستهلال الروائي في النصوص الواقعية على
الوصف وتقديم الفضاء المكاني والزمني، واستحضار الشخصيات في
إطار هذا الفضاء عبر استذكار الماضي( فلاش باك). وترى سيزا
قاسم أن الاستهلال يتكون من عنصرين أساسين هما: الماضي
والمكان. فالواقعيون يخصون صفحات في بداية الرواية لوصف المكان
وتقديم الماضي، فيبدأون في لحظة من لحظات حياة الشخصيات
ليعودوا إلى الوراء ربما لسنوات طويلة قصد إعطاء القارئ
الخلفية اللازمة وإدخاله في عالم الرواية الخاص.
وعليه، فإذا كانت الافتتاحية في الرواية الواقعية عبارة عن
إطار زمكاني للأحداث، فيه يتم استعراض الشخصيات في فضاء موصوف
بدقة وإسهاب ويحفز فيه الحدث الرئيس ويمهد له، فإن كتاب تيار
الوعي قد استغنوا عن هذه الافتتاحية استغناء تاما، حيث إن
الماضي أصبح في رواياتهم جزءا لايتجزأ من الحاضر ولا ينفصل
عنه. فهو منسوج في ذاكرة الشخصية ومخزون فيها تستدعيه اللحظة
الحاضرة أولا بأول على غير نظام أو ترتيب. ولذلك لاتكتمل
الأحداث في تسلسلها الزماني سوى في نهاية القراءة. ويعاد
ترتيبها في مخيلة القارئ، فلا تظهر الأحداث الماضية مركزة في
كتلة نصية متكاملة لها خصائصها الفنية، ولكن نراها انتشرت
ونثرت على النص كله، وأصبحت مهمة جمعها في صورة متكاملة هي
مهمة القارئ لا الروائي.4
وهكذا فقد أحدث الروائيون الجدد قطيعتهم مع هذا النوع من
الاستهلال؛ ولم يعودوا يستهلون رواياتهم بتنبيهات توضح للقارئ
خلفيات النص وبمقاطع وصفية تحدد بإسهاب زمن الأحداث الروائية
وأماكن وقوعها الخ... لتنطلق فورا من الحدث المركزي.
وباختيارها المبدئي هذا تومئ الرواية إلى النقاد بأنها واعية
كل الوعي بالأهمية القصوى التي يمثلها لديهم مفتتح
الرواية(L’INCIPIT) لانطوائه على شروط مقروئية النص، أي على
شفرة قراءته.
لكنها على الرغم من وعيها هذا- بل وبسببه- فقد اختارت الشروع
في الحكي دون وساطة هذا المفتتح ،لاسيما وأن قابلية التصديق
تضيع فيه؛ لأنه يمثل في رأي هؤلاء النقاد ذلك الفضاء الذي
يتحول فيه الواقع إلى نص، أي يصبح نصا تخييليا لاعلاقة له بعد
بنثرية العالم. واختارت ذلك تفاديا لتلك القراءة غير الإحالية
التي يقتضيها المفتتح الروائي، والتي تقطع كل صلة بين النص
وماهو بخارجه، وإيهاما للقارئ دائما بواقعية العالم الذي سيقبل
على اقتحامه.5
وهكذا فإذا كانت الاستهلالات في الرواية الكلاسيكية
تسائل ماهية الإبداع وأبعاده الدلالية والجمالية والرؤيوية؛
فإن الرواية الجديدة بدأت تسائل نفسها من خلال نفسها، أي تفكر
في الكتابة الروائية من حيث التقنيات والجماليات الفنية. وبذلك
أصبح الاستهلال ميتانصيا أو خطابا حول مفهوم الروائية أو لعبة
السرد والبناء الروائي.
5- أنواع الاستهلال الروائي:
ولقد ميز ياسين النصير بين عدة أنواع من الاستهلال حصرها في:
-
الاستهلال الروائي الموسع.
-
الاستهلال الروائي المتعدد الأصوات.
-
الاستهلال الروائي المحوري البنية.
-
الاستهلال الروائي الحديث.6
ويمكن تصنيف الاستهلالات في رأيي إلى مايلي:
-
الاستهلال الفضائي( الزمكاني).
-
الاستهلال الوصفي.
-
الاستهلال المشهدي أو الحواري.
-
الاستهلال الميتاسردي( النص الواصف النقدي).
-
الاستهلال المبني على تقديم الشخصيات.
-
الاستهلال ذو البنية الحدثية المحورية( الحدث المحوري).
-
الاستهلال الأجناسي
-
- وظيفة الاستهلال:
من المعلوم أن للاستهلال عدة وظائف بارزة تتمثل في تقديم عالم
الرواية التخييلي والتمهيد للحبكة السردية وعناصرها المتعاقبة،
وإعداد القارئ للمراحل الحدثية اللاحقة، واختيار حدث ديناميكي
سيقدم عالم الرواية بشكل تطوري وجدلي يتسلسل في الرواية تسلسلا
سببيا أو زمنيا. وفي هذا الصدد يقول ماييرسترنبرجMEIR
STENBERG:" وإذا سلمنا بهذه الوظيفة الفنية الأساسية
للافتتاحية(تقديم عالم الرواية التخييلي)، فإنه يستتبع ذلك أن
يقدم الكاتب في الافتتاحية عالما ثابتا ساكنا تتميز أحواله
بالرتابة والسكون، وإذا ترك لنفسه في هذا الموقف الأول فإنه
لايمكن أن يؤدي إلى شيء سوى تكرار الأحداث المعتادة، ويستمر في
الدوران في نفس الفلك. ولذلك فإن الجزء التالي يجب أن يقدم
ظرفا مميزا لاتتوقف طبيعته على أنه حدث محدد مجسم فحسب، بل يجب
أن يمثل تطورا"ديناميا" يدخل على هذه الأحوال الرتيبة الثابتة
عنصرا يخل بهذا التوازن الراسخ ويتسبب في دفع المرور إلى
المرحلة التالية من الأحداث. وبعبارة أخرى فإن هذه المجموعة من
الظروف المميزة والتي تتكون أساسا من تطورات ودوافع دينامية
والتي تترابط ترابطا سببيا في شبكة من المقدمات والنتائج هي
التي تشكل الرواية وتدفعها إلى التطور والخروج عن العالم
الرتيب الذي قدمه الكاتب في الافتتاحية".7
إذاً، فوظائف الاستهلال الروائي تتلخص في النقط التالية:
-
تقديم عالم الرواية التخييلي.
-
تأطير الرواية وتحبيكها وتبئيرها حدثيا وسرديا ومقصدية.
-
تحفيز القارئ وإثارته وتشويقه: سلبا وإيجابا.
-
طرح مجمل فرضيات الرواية وأطروحاتها الدلالية والفنية.
-
التمهيد للأحداث الثابتة أو الدينامكية.
-
نماذج من الاستهلال في الرواية المغربية:
تفتح كثير من الروايات بالمغرب بدايتها برصد الحدث المحوري
(رواية أوراق8
لعبد الله العروي والعلامة9
لبنسالم حميش...)، أو بوصف لوضع زمكاني مثل الروايات الواقعية
الكلاسيكية( المعلم علي ودفنا الماضي لعبد الكريم غلاب والريح
الشتوية لمبارك ربيع...)، أو تقديم الشخصية الرئيسية في مستهل
الرواية كتقديم عبد الله العروي لشخصية شعيب في نصه الفريق10
،أو رصد حالة شعورية عبر منولوج سردي تتخذه فيما بعد أداة لبسط
الحكاية وتوسيع نطاقها أو تدشن لقاءها بما يعتمل في الذات على
نحو تعطى فيه الأولوية لقيمة التعبير وجمالية الملفوظ كرواية
المباءة لمحمد عزالين التازي:
" أيها الحرف علمني، طاوعني أيها الإزميل،كن حادا ولينا لتعرف
طريقك، طريقك في المادة الصلبة البيضاء تحفر فيك أخاديدك
ودروبك، أنت أصابعي ، أنت يدي وعيني وجسدي أيها الإزميل(...)
احفر باللهب والشهوة والدم، ولا تطعن، كن رقيقا في انسيابك
الأزلي حيث ضاع زمنك وبقيت أنا في هذه الساعة أشكو من ظلماتي".11
وقد تلتجئ بعض الروايات إلى توظيف الاستهلال الأجناسي كما فعل
بنسالم حميش في روايته سماسرة السراب عندما استفتح روايته بجنس
الرسالة12،
أو التفكير في روائية النص كما هو الشأن لدى مبارك ربيع في
روايته برج السعود:" لانستطيع الجزم إن كان من حسن حظ الروائي
أو سوئه، أنه ليس مؤرخا، بمعنى أنه غير محمل بعبء التحديد
والتتبع الوثائقي التاريخي، خاصة عندما يتعلق المر بوقائع
وآثار اندثرت، ولم يبق من أثر شاهد محسوس مباشرة على وجودها،
أو توجد في طريق التحول، أو تكون محط خلاف على الأقل..."13
خاتمة:
وبناء على ماسبق، لابد لمحلل الخطاب الروائي من التركيز على
الاستهلال لدراسة حيزه الفضائي، وطبيعته، وبنيته التركيبية(
الكلمة الأولى- الجملة- الفقرة- المقطع- النص- الفصل الأول في
علاقته مع الفصول الأخرى...)، و استقراء دلالاته، و تبيان
وظائفه على ضوء علم السرد وسيميوطيقا الحكي.
الهوامش
1- د.سيزا قاسم: بناء الرواية،دار التنوير للطباعة
والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1985،ص:39؛
2 - ياسين النصير(الاستهلال
الروائي- ديناميكية البدايات في النص الروائي)، مجلة
الأقلام العراقية، العددان:11-12، 1986، ص:39؛
3 - ابن رشيق القيرواني:
العمدة في محاسن الشعر وأدبه ونقده، تحقيق محمد محيي الدين
عبد الحميد، دار الجيل، ص:218؛
4 - سيزا قاسم:المرجع السابق،
ص:42؛
5 - د. رشيد بنحدو:( حين تفكر
الرواية في الروائي)، الفكر العربي المعاصر،
لبنان، تموز آب 1989، ص: 33؛
6 - ياسين النصير: نفس المرجع
السابق، صص:39-55؛
7 - Meir Stenberg :( What is
Expositioon?)In: The theory of the novel .John
Halperia.ED.LONDON,OXFORD UNIVERSITY Press 1974,p:57;
8 - عبد الله العروي: أوراق،
المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1 ، 1989؛
9 - بنسالم حميش: العلامة
ن دار الآداب، بيروت، لبنان، ط1 ، 1997؛ ،
10 - عبد الله العروي: الفريق،المركز
الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 1، 1986،، ص:7؛
11 - محمد عزا لدين التازي:
المباءة، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، صص:11-12؛
12 - بنسالم حميش: سماسرة
السراب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1
1996،ص:5-9؛
13 - مبارك ربيع: برج السعود،
مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 1990، ص:5؛
ملاحظة:
جميل حمداوي(عمرو)، ص.بك5021 أولاد ميمون ، الناظور 62002،
المغرب/Jamil Hamdaoui (Amar)/JAMILHAMDAOUI@YAHOO.FR